قمّة باريس الأوروبية وتداعيات المفاوضات الاميركية-الروسية على مستقبل الأمن الأوروبي
السفير يوسف صدقة*
دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى قمّةٍ طارئة في قصر الإليزيه في 17 شباط (فبراير) الجاري لمُناقشة ملف الأمن الأوروبي والأزمة الأوكرانية في ظلِّ تحوّلات السياسة الدولية، خصوصًا مع المواقف الأخيرة للرئيس دونالد ترامب وإدارته، والتي تُعتَبَرُ تحوُّلًا كبيرًا في الموقف إزاء إدارة جو بايدن السابقة.
جاءت القمة ردًّا على تحوّلات السياسة الأميركية التي تبنّاها الرئيس ترامب، والتي أثارت مخاوف من أن تجري الولايات المتحدة مفاوضات مع روسيا مباشرة في الرياض وغير مباشرة بدون استشارة الشركاء الأوروبيين.
وفي هذا السياق سعى ماكرون إلى إعاده تأكيد وحدة أوروبا واستقلاليتها الاستراتيجية، في مجال الدفاع والامن خصوصًا إزاء الحرب المستمرّة في أوكرانيا.
أ– الأهداف الرئيسة: أكّدَ القادة على ضرورةِ اتخاذِ موقفٍ موحَّد يتضمّنُ تقديمَ دعمٍ حقيقي لأوكرانيا، مع التأكيد على أنَّ مستقبل القضية الأوكرانية لا يُمكِنُ التفاوض عليه بدون إشراك كييف بشكلٍ مباشر في المفاوضات.
وقد ناقش الرؤساء أهمية رفع الإنفاق الدفاعي، وتقليل الاعتماد على الدعم الأميركي، وتُعتبر هذه الخطوة استراتيجية أوروبية تهدف إلى الاستقلالية عن الولايات المتحدة.
ب- مضمون المناقشات قي القمة: تصدّرَت محور النقاش في القمة كيفية تحقيق سلام دائم في أوكرانيا، مع تقديم ضماناتٍ أمنية قوية لتحقيق الاستقرار في القارة. وقد أكّدَ ماكرون على ضرورة أن يكونَ لأوكرانيا دورٌ فاعلٌ في مفاوضات السلام، وألّا تُفرَضُ عليها حلول خارج إطار مشاركتها الفاعلة في المفاوضات.
وقد عبّرَ بعضُ القادة الأوروبيين عن غضبهم من أنَّ الولايات المتحدة بقيادة ترامب قد شرعت في القيام بمبادرات ثنائية مع روسيا بدون التنسيق مع أوروبا. وقد شمل ذلك محادثات هاتفية بين ماكرون وترامب، هدفت إلى إعادة التواصل مع واشنطن في ظلِّ التراجُعِ الأميركي عن الالتزام بأمن أوروبا، وذلك قبل زيارة ماكرون إلى واشنطن التي قام بها في 24 شباط (فبراير).
وقد أفادت المعلومات من داخل أسوار القمة بأنه رُغم الجهود المبذولة لتوحيد الصفوف، فقد ظهرت خلافات بين بعض الدول الأوروبية، حيث عارضت دولٌ من أوروبا الشرقية وخصوصًا بولندا، فكرة إرسال قوات حفظ السلام من أوروبا إلى أوكرانيا، بينما اعلنت دولٌ أُخرى عن نيتها تعزيز قدراتها الدفاعية بدون التورّط العسكري بشكل مباشر، في حين أعلنت بريطانيا موافقتها على إرسال قوات سلام إلى أوكرانيا.
ج- تداعيات القمة: تُعَدً القمة مؤشّرًا على بدء مرحلة جديدة يسعى فيها الأوروبيون إلى بناء آلية دفاعية مشتركة ومستقلة تهدف إلى تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، وتعزيز القدرات العسكرية الأوروبية لمواجهه التهديدات الخارجية، خصوصًا من روسيا.
ورُغم الاتفاق على ضرورة زيادة الإتفاق الدفاعي، لا تزال هنالك تساؤلات حول كيفية التنفيذ العملي لهذا الهدف، خصوصًا مع وجود فروقات كبيرة من القدرات والآراء بين الدول الأعضاء.
كما تطرق النقاش في القمة إلى كيفية تحقيق جبهة أوروبية موحدة، وإقامة توازن دقيق بين المصالح الوطنية والالتزامات الدفاعية.
د- الموقف البريطاني المتقدّم: إزاء تردّد دول الاتحاد الاوروبي في إمكانية إرسال قوات إلى أوكرانيا، أعلن رئيس الوزراء البريطاني، السير كير ستارمر، أنَّ بلاده مستعدّة لإرسال فرقة عسكرية لضمان السلام في أوكرانيا تتضمّن خمسة آلاف جندي، على أن تكون جُزءًا من الفرق العسكرية الاوروبية، والتي تتطلب 70,000 جندي على الأقل. ويهدف الوجود العسكري الأوروبي إلى تشكيل قوة ضمانٍ أمني لمنع هجوم روسي في المستقبل.
وتعتبر بريطانيا أنها تتمتع بتفوّق استراتيجي على روسيا في مجال الطيران، ولديها الإمكانات في حماية المدن ومحطات الكهرباء. وفي الوقت نفسه يفيد رئيس الوزراء البريطاني ستارمر أنَّ ضمانة الرئيس الأميركي تعتبر اساسية لمنع روسيا من الهجوم على أوكرانيا في المستقبل.
يحاول ستارمر في زيارته إلى واشنطن في 27 شباط (فبراير) (اليوم) إلى تطبيع العلاقة بين ترامب والرئيس الأوكراني زيلنسكي بعد اتهامه من قبل الأخير بالدكتاتور، وإبلاغ ترامب أنَّ الأوروبيين مستعدّون لأخذ زمام المبادرة في الدفاع عن أوروبا.
كما يسعى ستارمر في زيارته إلى واشنطن، إلى التأكّد من استمرار العلاقات الاستراتيجية بين بريطانيا وأميركا، كما لإبلاغ واشنطن بموافقة أوروبا على زيادة النفقات الدفاعية من 2.3 % من الناتج المحلي الوطني إلى 2.5 % بحلول العام 2027.
هـ- أوروبا أمام تحدّيات: شكّلت قمة الإليزيه الأخيرة محطةً حيوية لإعادة رسم ملامح السياسة الخارجية الأوروبية في مجالَي الأمن والدفاع، إذ سعت إلى مواجهة تحدياتٍ جديدة ناجمة عن تحوُّل مواقف واشنطن واستغلاله المُحتمل من قبل روسيا. وعلى الرُغم من الخلافات الداخلية التي لا تزال قائمة، يبدو أنَّ أوروبا تتحرّك بخطى ثابتة نحو تعزيز استقلاليتها الاستراتيجية، وزيادة استثماراتها الدفاعية لضمان أمنها المشترك ومستقبل أكثر استقرارًا، في ظل التحوّلات الكبيرة في العلاقات الدولية.
في المحصلة النهائية، تُعتَبَرُ مبادرة الرئيس الأميركي ترامب بإنهاء النزاع بين روسيا وأوكرانيا مبادرة استراتيجية في غاية الأهمية في ظلِّ صراعٍ مستمرٍّ بدون أفق، مع انتصارٍ استراتيجي جُزئي لروسيا. وقد وقّع الاتحاد الأوروبي مع حلف “الناتو” في تقديراتٍ خاطئة وحساباتٍ ضيّقة في إمكانية تحقيق نصرٍ أوكراني على روسيا، بينما استُنزِفت أوكرانيا وهُجِّر الملايين من سكانها إلى أوروبا. وكان على القارة العجوز أن تشجّع الطرفين الروسي والأوكراني على إنجازٍ مؤقت، يتمثّل بوقفِ الحرب نهائيًا، والسعي في المستقبل إلى استرداد الأراضي المحتلة من قبل روسيا. فالمكابرة لن تقودَ إلّا إلى المزيد من الضحايا والشهداء من قبل الجانبين الأوكراني والروسي. أما من منظورٍ اقتصادي بغضِّ النظر عن البُعد الاستراتيجي، فالسؤال المطروح: ماذا اتنجت مئات مليارات الدعم العسكري لأوكرانيا من قبل أوروبا والولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق بايدن؟
إنَّ استمرارَ الحرب العبثية سيكون دائمًا على حساب الشعبين الروسي والأوكراني، حيث لم تستطع الأسلحة الحديثة والمتطورة التي أُرسِلت إلى أوكرانيا تغيير مجرى الحرب.
أمّا على الصعيد الاستراتيجي فقد تغيرت مقاربة الوضع للحرب الروسية–الأوكرانية بعد مجيء الرئيس الأميركي ترامب، الذي قفز من العداء المباشر أيام بايدن مع روسيا الى الحوار المباشر مع موسكو، ما اعطى لروسيا تفوق استراتيجي في اوكرانيا، وضرب مخطط الناتو الذي كان يهدف إلى تطويق روسيا.
والسؤال المطروح بعد فشل الحلف الاطلسي ومحاولة الرئيس ترامب تجاوز استراتيجيته: هل نشهد حلف ناتو جديد تكون نواته الرئيسة كل من بريطانيا وفرنسا والمانيا، يهدف الى دعم الأمن الأوروبي ويطرح معادلة جديدة على الساحة الدولية إزاء ابتعاد واشنطن عن الحلف الأطلسي؟
زيارة ماكرون إلى واشنطن: قام الرئيس الفرنسي ماكرون بزيارة الى واشنطن في 24/4/2025 رغم الخلافات بين واشنطن وباريس في مقاربة القضية الأوكرانية، وقد تم الاتفاق على وضع حدّ للحرب الروسية-الاوكرانية المندلعة منذ ثلاث سنوات، ووضع أسس لسلام نهائي. وقد طلب الرئيس الفرنسي تدخّلًا اميركيًا حاسمًا في ذلك، كما أشار إلى ضرورة تواجد قوات فرنسية-أوروبية قوات حفظ السلام في أوكرانيا، ولكنه لم ينل بشكل صريح الدعم للمشروع الاوروبي. حاول ماكرون إقناع نظيره الأميركي بأنَّ التدخل الروسي في أوكرانيا يمثل تهديدًا وجوديًا لأوروبا. لم ينل ماكرون أي ضمانات في ما يتعلق بالمشاركة الأوروبية في محادثات السلام حول أوكرانيا. حاول ماكرون إثبات نفسه كزعيم اوروبي يدافع عن المصالح العليا الاوروبية إزاء التوغّل الروسي، ودفع ترامب إلى إنجاز اتفاق مع أوكرانيا مع إعطاء ضمانات أمنية لأوكرانيا في المستقبل.
تجدرُ الإشارة إلى أنَّ إدارة بايدن كانت تساند الناتو في سبيل تحجيم روسيا، أما مع سياسة ترامب فقد عادت سياسة الأحادية تطبع السياسة الأميركية كبديلٍ من سياسة التعاون المتعددة الأطراف، علمًا أن صعود اليمين المتطرف في أوروبا يتلاقى مع سياسة ترامب. وقد أشارت الإدارة الأميركية إلى أنَّ ترامب يريد السلام في أوكرانيا للتفرُّغ لمحاصرة الصين، وهو الهدف الاستراتيجي للسياسة الأميركية في عهد ترامب.
وإزاء ضعف الموقف الاوروبي حمّل المفكر السياسي الفرنسي فيليب دو فيلييه الدول الأوروبية مسؤولية دعم أوكرانيا لدخول الحلف الأطلسي، والدخول في حرب بين بلدين شقيقين روسيا وأوكرانيا لا مصلحة لأوروبا الدخول فيها، وستكون والنتيجة بنظره خروج اوروبا من حيز التاريخ.
- السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد. كان سابقًا سفيرًا للبنان في أوكرانيا.