الرئيسُ اللبناني في السعودية: فَهْمُ مَفاتيحِ الرياض

محمّد قوَّاص*

في أوَّلِ زيارةٍ له إلى الخارج منذ انتخابه، يقوم الرئيس اللبناني، جوزيف عون، الأحد المقبل، بزيارةِ المملكة العربية السعودية. قبل 8 سنوات، في 9 كانون الثاني (يناير) 2017، قام الرئيس السابق، ميشال عون بزيارةٍ إلى الرياض، وكانت أيضًا أوَّلَ زيارةٍ له خارج البلاد رئيسًا. وما بَينَ التاريخَين شهدَ لبنان تطوّرات انحدرت به نحو سلّمِ أزماتٍ في الأمن والسياسة والاقتصاد، فيما شهدت المنطقة زلازل جيوسياسية تاريخية ما برحت يومًا بعد آخر تُغيّرُ الشرق الأوسط.
يعرفُ الرئيس اللبناني أنَّ السعودية لم تَكُن يومًا بعيدة من يوميّات لبنان. حتى في مرحلةٍ جافة، شابتها برودة في علاقات الرياض وبيروت، بدت السعودية مُراقِبة عن كثب لتحوّلات لبنان ومفاصل أحداثه، من “ثورة” اللبنانين في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، مرورًا بانفجارِ مرفَإِ بيروت، في آب (أغسطس) 2020، انتهاءً بكارثةِ الحربِ الأخيرة. ظهرَ أنَّ السعودية هي دولةُ القرار داخل اللجنة الإقليمية الدولية التي واكبت أزمة البلد وقادته إلى شاطئ إعادة تشكيل السلطة في لبنان.
لم يَكُن انتخابُ العماد عون رئيسًا للجمهورية إلّا نتاَجَ رافعةٍ خارجية كانت السعودية أساسًا داخلها. اكتشف سياسيو البلد مبعوثًا سعوديًا جديدًا أوصلَ بهدوء وأحيانًا بصمتٍ ما بين الكلمات رسالةً سعودية بدت حازمة لإنهاء الشغور الرئاسي. ومن حَضَرَ مجالس الأمير يزيد بن فرحان في لبنان، أدرك حرص السعودية على بلدهم واحترام المملكة لخصوصية العملية السياسية، بحيثُ بدا مبعوث الرياض، في بعض الأحيان، أحرص على سلامة البلد واكتمال تفعيل مؤسّساته من ساسةِ البلد أنفسهم.
كلّفت الرياض باريس بأن تشرحَ لساسة لبنان بالفرنسية مَن لا يُريدُ سماعَ لغةٍ عربية. تحدّث مبعوث الرئيس الفرنسي إلى لبنان، جان إيف لودريان، بلغةٍ صارمة لم يعهدها اللبنانيون منذ حراك الرئيس إيمانويل ماكرون بعد أيامٍ على كارثةِ مرفَإِ العاصمة. وفي الهمس أنَّ في لهجة الرجل الفرنسي ولغته الواثقة، عُبقًا سعوديًا قادَ كلَّ أعضاءِ اللجنة التي تضمُّ الرياض وواشنطن وباريس والقاهرة والدوحة إلى خلاصٍ واحد: “انتخبوا جوزيف عون”.
ستستقبل الرياض الرئيس اللبناني، وهي التي تعرفه وخبِرته ولطالما تواصلت معه قائدًا للجيش اللبناني. وما بين ميشال وجوزيف عون في الإطلالة على السعودية بونٌ شاسعٌ بين مشروعَين. الأول اشتغل على تثبيت خروج لبنان من حضن العرب وجعله تابعًا لمحور إيران، والثاني جعل منذ أن كان قائدًا لجيش البلاد من مشروعه أداةَ حفاظٍ على المؤسسة العسكرية، وابتعادها عن التزامات المحوَر، والحرص على ربط لبنان بالدوائر “الطبيعية”، العربية والدولية.
يعرف الرئيس اللبناني منذ سنوات أنَّ السعودية تغيرّت. باتت دولة حداثة تبحث عن مصالحها وتبني علاقاتها مع البعيد القريب على أساس علوم الجيوستراتيجيا في السياسة والأمن والاقتصاد. ولا ريب أنه يعرف أنَّ الرياض لم تَعُد تستثمر في المجهول، ولا تفتح خزائنها بلا شروط تحت مسميات وشعارات لا تشبه شروطَ العصر وأبجدياتَ عالمٍ شديدِ التحوّل. ولئن قرَأَت الرياض بتمعّن واهتمام “خطاب القسم”، فإنها في ما تَطَوَّرَ بعد ذلك من تشكيل حكومة جديدة برئاسة نوّاف سلام، ستُراقب أيضًا باهتمام إيقاعات أفعالٍ وعدت بها الأقوال.
في زيارة الرئيس اللبناني إلى السعودية بدايةُ رحلةٍ نحو العالم أجمع. باتت المملكة رقمًا صعبًا في المشهد الدولي العام. على أرضِ المملكة بالذات يتمّ السعيّ إلى إنهاء حرب أوكرانيا، وهي إحدى أعقد الأزمات الدولية المُرَكّبة في السنوات الأخيرة. وعلى أرضِ المملكة ستنعقدُ قمّةً موعودةً بين الرئيسين، الروسي والأميركي، المُفتَرَض بها ربما أن تُغيِّرَ قواعد العلاقات الدولية الكبرى منذ الحرب العالمية الثانية. وعلى أرض المملكة تمّ عقد قمّة مصغّرة وضعت نقاطًا على حروفِ خطّةٍ مصرية لمستقبل قطاع غزّة، قبل المصادقة المتوقّعة عليها في قمّة العرب في القاهرة في 4 آذار (مارس) المقبل.
لم يَصدُف أن حَظِيَ عهدٌ رئاسي في لبنان بدعمٍ دولي عربي “مُسبَق” كالذي يحظى به عهد الرئيس جوزيف عون. وبات مطلوبًا أن يتحوّل ذلك “المُسبَق” إلى رصيدٍ قابلٍ للاستثمار لإعادة لبنان إلى الحضن العربي واستعادة اهتمام العرب بلبنان. ولم يَصدُف أن ساعدت التحوّلات الإقليمية والدولية عهدًا رئاسيًا كتلك التي توفّر في تغير موازين القوى، في الداخل والخارج، بيئة حاضنة لإطلاق ديناميات إصلاح تطال، من خلال ورشة داخلية، صيت لبنان وسمعته في العالم. ستنصتُ الرياض إلى الرئيس وعينها على لبنان، ذلك أن نهضة البلد كما نهضة سوريا من خلفه هي مصلحة سعودية في ما ترومه للمملكة والخليج والعالم العربي برمته.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى