بَعدَ سوريا، العراقُ هو الساحةُ التالية للتَنَافُسِ بَينَ تركيا وإيران
على الرُغم من العلاقات المتوتّرة في بعض الأحيان بين الولايات المتحدة وتركيا، بما في ذلك خلال إدارة ترامب الأولى، فإنَّ دورَ أنقرة كقوةٍ موازِنة لإيران قد يُكسِبها المزيد من التأييد في واشنطن، خصوصًا وأنَّ أميركا تتطلّع إلى فعلِ “المزيد بأقل” في الشرق الأوسط.

جوناثان فينتون هارفي*
قد يصبح العراق نقطة اشتعال جديدة للتوترات بين تركيا وإيران، مع استمرار الديناميكيات الجيوسياسية المُتَغَيِّرة في إعادة تشكيل الشرق الأوسط. على مدار العام الفائت، أدت النجاحات العسكرية التي حققتها إسرائيل ضد “حماس” و”حزب الله”، إلى جانب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، إلى إضعاف النفوذ الإقليمي لإيران، ما دفع طهران إلى إعادة النظر في أهدافها الاستراتيجية. في الوقت نفسه، شهدت تركيا أخيرًا تحسُّنًا في ,وضعها الإقليمي بسبب علاقاتها بالسلطات الجديدة في سوريا، حتى مع استمرارها في متابعة العمليات العسكرية في الشمال الشرقي ضد الميليشيات الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وهو تمرُّدٌ كردي مقره في إقليم كردستان العراق. ونتيجة لذلك، أصبحَ المشهدُ السياسي في العراق ساحةً حاسمة لكلا القوّتين لتأكيد نفوذهما.
لسنوات، مكّنت الطرق البرية للإمدادات اللوجستية والعسكرية التي تمتلكها إيران إلى لبنان عبر العراق وسوريا من دعم شبكةٍ إقليمية من الفصائل بالوكالة. لكن منذ إطاحة نظام الديكتاتور السوري السابق بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر) 2024 وإضعاف إسرائيل ل”حزب الله” منذ تموز (يوليو) 2024، وجدت إيران نفسها الآن في موقف دفاعي، ما زاد من الأهمية الاستراتيجية لنفوذها الطويل الأمد في العراق.
على النقيض، تجد تركيا نفسها في موقف قوة، بعدما اتخذت خطوات جريئة وحاسمة في السياسة الخارجية وحققت نجاحات ملموسة. وفي حين كان الكثير من التركيز مُنصَبًّا على تعزيز علاقات أنقرة مع حكّام سوريا الجدد، فقد حققت تركيا أيضًا المزيد من المكاسب الديبلوماسية في العراق. ففي 26 كانون الثاني (يناير)، زار وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بغداد، مُوَسِّعًا جهود أنقرة من أجل الوحدة داخل الحكومة العراقية، وخصوصًا في ما يتعلق بإقليم كردستان العراق. بالنسبة إلى أنقرة، فإنَّ احتمالَ حدوث انقسامات في بغداد أو بين بغداد وإقليم كردستان العراق يُعيق الاستقرار اللازم لتعزيز التوغّلات الاقتصادية التركية في العراق، ولكن أيضًا لتهميش حزب العمال الكردستاني.
خلال العام 2024، اتخذت تركيا خطوات رئيسة أخرى في العراق. وشمل ذلك توقيع مذكرة تفاهم مهمة مع بغداد في آب (أغسطس) 2024 تعهّدت بتعميق التعاون في مجال الدفاع والأمن. وشهد هذا الاتفاق أيضًا إنشاء مركز تنسيق أمني مشترك في بغداد لتبادل المعلومات الاستخباراتية وأغراض مكافحة الإرهاب، فضلًا عن التعاون بشأن منشأة التدريب العسكري لأنقرة في بعشيقة. ورغم أن المنشأة تؤوي القوات التركية منذ العام 2015، إلّا أنها لم تكن ُمرَخَّصة من قبل الحكومة العراقية، مما جعلها نقطة توتر مع بغداد حتى الاتفاق الأخير.
وبالتالي، فإنَّ مذكّرة التفاهم في آب (أغسطس) 2024 استندت بدورها إلى محادثاتٍ سابقة، بما في ذلك ما أُطلِقَ عليها “زيارة تاريخية” في نيسان (أبريل) من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد، حيث التقى نظيره العراقي عبد اللطيف جمال رشيد ورئيس الوزراء محمد شياّع السوداني. وفي أعقاب تلك الزيارة، حققت أنقرة فوزًا ديبلوماسيًا آخر، حيث وافقت بغداد على إعلان حزب العمال الكردستاني منظمة محظورة في الشهر نفسه، مما مكّن قوات الأمن العراقية من مقاضاة واستهداف أعضاء المجموعة. لطالما دفعت أنقرة بغداد إلى اتخاذ موقف أقوى ضد حزب العمال الكردستاني وأطلقت بشكل متقطع عمليات أحادية الجانب تستهدف حزب العمال الكردستاني على الأراضي العراقية لسنوات، لذا فإن الاتفاق قد يزيل مصدر إزعاج رئيس آخر للعلاقات الثنائية.
كما إنَّ ذلك يمكن أن يخلقَ بيئةً أكثر أمانًا لطموحات أنقرة الاقتصادية، والتي تجلّى أبرزها في مشروع طريق التنمية، وهو مبادرة للبنية التحتية بقيمة 17 مليار دولار من شأنها أن تربط ميناء الفاو الكبير في البصرة بالحدود التركية عبر خط سكة حديد وطريق سريع بطول 1200 كيلومتر. إنَّ المشروعَ طموحٌ من الناحية اللوجستية وحدها، لكن ضمان الأمن داخل العراق أمرٌ لا بد منه للمضي قدمًا على نطاق كامل.
وهنا يأتي دور الديناميكية بين تركيا وإيران. منذ الهزيمة الإقليمية في العام 2017 لتنظيم “الدولة الإسلامية”، والتي لعبت فيها الميليشيات العراقية المدعومة من إيران دورًا مهمًّا، سعت الحكومات العراقية المتعاقبة إلى تقليل اعتماد بغداد على القوى الخارجية. ومع ذلك، ظلَّ دور إيران في البلاد كبيرًا.
الآن تضع الجهود الديبلوماسية التركية أنقرة في مسارِ تصادُم ٍمُحتَمل مع طهران، التي استخدمت منذ فترة طويلة دعمها لمختلف الفصائل السياسية الشيعية لممارسة نفوذٍ كبير في البلاد. كما إنَّ التعاون العسكري بين أنقرة وبغداد يُعرّضُ هيمنة الميليشيات المدعومة من إيران للخطر، والتي عزّزت قبضتها على البلاد منذ دمجها رسميًا ككياناتٍ أمنية عراقية رسمية.
وقد يُشكّلُ طريق التنمية تهديدًا مُماثلًا للمصالح الإيرانية في العراق، لأنه قد يؤدّي إلى تنويعِ اقتصاد بغداد. وهذا مُهمٌّ بشكلٍ خاص بالنظر إلى اعتماد العراق الاقتصادي السابق على طهران، وخصوصًا في ما يتعلق بتوريد الغاز والكهرباء والنقل.
على نطاقٍ أوسع، تشعرُ إيران بالمرارة أيضًا إزاءَ المكاسب التي حققتها تركيا في سوريا بعد سقوط الأسد، حيث أشارَ المرشد الأعلى آية الله خامنئي إلى أنَّ “دولةً مجاورة” تآمرت للإطاحة بالأسد، في إشارةٍ مُبَطَّنة إلى تركيا. ونظرًا للانتكاسات التي مُنيت بها إيران في كلٍّ من سوريا ولبنان، فقد أصبح العراق أكثر أهمية لجهود طهران لإنقاذ نفوذها الإقليمي. وعلى نحوٍ مُماثل، قد ترى تركيا نفوذ طهران كعقبة محتملة، وخصوصًا إذا حاولت الميليشيات الإيرانية عرقلة أو إغلاق أجزاء من طريق التنمية، بما في ذلك من خلال ممارسة الضغط على الحكومة في بغداد. في الوقت الحالي، اتبعت تركيا نهجًا مدروسًا تجاه إيران، حيث أعرب فيدان عن رغبته في التعاون مع طهران بشأن حزب العمال الكردستاني.
مع ذلك، قد تصبح المناطق الكردية أيضًا نقطة اشتعال. ففي إقليم كردستان العراق، دعمت أنقرة الحزب الديموقراطي الكردستاني، كقوّةٍ مُوازِنة مُفيدة ضد حزب العمال الكردستاني، في حين تهدف على نطاقٍ أوسع إلى توحيد فصائل إقليم كردستان العراق.
من ناحية أخرى، شنّت طهران منذ فترة طويلة هجمات على الحزب الديموقراطي الكردستاني، حيث رأت فيه مصدرًا مُحتملًا لدعم وتشجيع الانفصال الكردي داخل حدودها. وعلاوةً على ذلك، فإنَّ الحزب الديموقراطي الكردستاني هو الحزب المنافس لشريك إيران التقليدي في إقليم كردستان العراق، الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي استغلته طهران ضد صدام حسين أثناء الحرب الإيرانية-العراقية من العام 1980 إلى العام 1988 واستمرّت في التحالف معه بعد ذلك، حيث رأت فيه قوة موازنة للحزب الديموقراطي الكردستاني.
مع ذلك، فإنَّ فوز الحزب الديموقراطي الكردستاني في الانتخابات الإقليمية الأخيرة في إقليم كردستان العراق في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، حيث فاز بنحو 800 ألف صوت مقارنةً بنحو 400 ألف صوت للاتحاد الوطني الكردستاني، عزز أيضًا أهداف تركيا في إقليم كردستان العراق، في حين تسبّب في نكسةٍ أخرى لإيران. وفي حين تعاونت إيران في بعض الأحيان مع أنقرة لمعالجة تهديد حزب العمال الكردستاني، فإنَّ جهودَ طهران السابقة للاستفادة من الفصائل الكردية ليس فقط في العراق، بل وأيضًا في سوريا، تشير إلى أنَّ المناطق الكردية قد تصبح مرةً أخرى أداةً للنفوذ الإيراني.
كما أشارَ الباحث في الشؤون الإيرانية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، حميد رضا عزيزي، خلال المرحلة الأخيرة من حكم الأسد، انسحبت القوات المتحالفة مع إيران بشكلٍ استراتيجي من مواقع رئيسة في شرق سوريا، وخصوصًا دير الزور بالقرب من الحدود العراقية، ما سمح لقوات سوريا الديموقراطية التي يقودها الأكراد -والتي تقاتلها تركيا الآن- بتولّي السيطرة.
وهذا يشير إلى أنَّ طهران ربما تضع الأساس للتعاون المستقبلي مع قوات سوريا الديموقراطية، وخصوصًا في ضوء عدم اليقين المتزايد بشأن السياسة الأميركية في ظل إدارة الرئيس دونالد ترمب. وفي نهاية المطاف، لا يمكن استبعاد إمكانية تحالف تكتيكي بين إيران والفصائل الكردية السورية، إذا كانت طهران تهدف إلى إنقاذ نفوذها في سوريا ما بعد الأسد. أما بالنسبة إلى حزب العمال الكردستاني، فقد اتهمت أنقرة طهران في الماضي بدعم الجماعة، لكن علاقات إيران مع حزب العمال الكردستاني كانت أكثر تعقيدًا وواقعية من ذلك في السنوات الأخيرة. وهذا قد يترك مجالًا للتسامح الإيراني الضمني مع الجماعة إذا رأت طهران أنها حصن مفيد ضد أنقرة.
في ظلِّ ميزان القوة المُتَغَيِّر بين تركيا وإيران، ونظرًا لمصالحهما المتضاربة، فقد يتعمّق التنافس بينهما. مع ذلك، من غير المرجح أن يتصاعدَ إلى صراعٍ عسكري مباشر. وبدلًا من ذلك، قد نشهدُ ظهورَ حربٍ باردة أو صراعٍ هجين، حيث يكافح كلٌّ من البلدين للحفاظ على نفوذه داخل العراق وخارجه.
مع ذلك، وعلى الرُغم من اختلافاتهما، انخرطت الجارتان في أشكالٍ من التعاون. على سبيل المثال، في العلاقات التجارية، تُعَدُّ تركيا مصدرًا رئيسًا للسلع المصنَّعة إلى إيران، في حين تُعَدُّ طهران مُورّدًا رئيسًا للغاز الطبيعي لأنقرة، حتى لو كانت الأخيرة تعمل وتهدف إلى تقليل اعتمادها على الطاقة من إيران.
وسوف يكون من المهم أيضًا مراقبة كيفية رد فعل الدول الأخرى على هذه التطوّرات. في حين عملت الدول العربية الرائدة في الخليج العربي بحذرٍ على تهدئة التوترات مع إيران، تعهّدت كلٌّ من الإمارات العربية المتحدة وقطر أيضًا بالتعاون مع تركيا والعراق بشأن طريق التنمية، مما يشير إلى تحالفٍ مُحتَمل مع أنقرة.
وعلى الرُغم من العلاقات المتوتّرة في بعض الأحيان بين الولايات المتحدة وتركيا، بما في ذلك خلال إدارة ترامب الأولى، فإنَّ دورَ أنقرة كقوةٍ موازِنة لإيران قد يُكسِبها المزيد من التأييد في واشنطن، خصوصًا وأنَّ الولايات المتحدة تتطلّع إلى فعلِ “المزيد بأقل” في الشرق الأوسط.
الواقع أنَّ واشنطن أشادت في السابق بمشروع طريق التنمية، واعتبرته وسيلة لتنويع اقتصاد العراق والحدّ من نفوذ إيران. مع ذلك، فإنَّ أيَّ تحالف تركي-أميركي مُتَصَوَّر قد يؤدّي فقط إلى زيادة عداء طهران لأنقرة. وفي سيناريو أقل مواجهة، قد يكون هذا دافعًا آخر لتركيا لموازنة نهجها تجاه الولايات المتحدة وإيران أو محاولة إدارة بعض خلافاتها مع طهران، حتى لو ظلّت الأولوية لتوسيع نفوذها في العراق.
في الوقت الحالي، وعلى الرُغم من الجهود السابقة للتعاون في بعض الأحيان، فإنَّ جهودَ البلدين لتأكيد نفوذهما في العراق من المرجح أن تؤدي إلى زيادة المنافسة، ما يُضيفُ تحوُّلًا كبيرًا آخر إلى ديناميكيات الشرق الأوسط المتطوّرة باستمرار.
- جوناثان فينتون هارفي هو صحافي ومُحلّل سياسي بريطاني. يُركّز عمله إلى حدٍّ كبير على شؤون مجلس التعاون الخليجي، فضلًا عن القضايا الجيوسياسية والاقتصادية المتعلقة بالشرق الأوسط الأوسع ومنطقة المحيَطين الهندي والهادئ.
- كُتِبَ المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.