إصلاحُ النظامِ السياسي في لبنان يَستَلزِمُ إعادةَ النظرِ في اتفاقِ الطائف
مايكل يونغ*
قبل أكثر من ثلاثة عقود، وبَعدَ فترةٍ وجيزةٍ من موافقةِ البرلمان اللبناني على التعديلات الدستورية التي تضمَّنها اتفاقُ الطائف، نظّمَ مركزٌ يُركّزُ على السلام وإعادة الإعمار في لبنان ندوةً في واشنطن لمُناقشة مستقبل البلاد. كان نوّاف سلام أحد المشاركين. ورُغمَ دَعمِ سلام لاتفاقِ الطائف، إلّا أنه أبدى ملاحظاتٍ ذكية حول المشاكل التي رأى أنها تلوحُ في الأفق في تنفيذه.
الآن، بعد سنوات، يُوجّهُ سلام انتقاداته إلى أوجُه القصور في اتفاق الطائف ــ أو بالأحرى إلى العقبات والارتجالات التي فُرِضَت عمدًا على اتفاقٍ دستوري اختطفته الطبقة السياسية في لبنان منذ نشأته وأفرغته من كل معنى. فما هو موجودٌ الآن لم يَعُد عبارة عن تلخيصٍ لمقترحات إصلاحية مختلفة صالحة صيغت لأول مرة في العام 1976، أثناء الحرب الأهلية في لبنان، بل خليطٌ من البدعات والإدّعاءات التي حوّلت دستور ما بعد الطائف إلى وحش.
في الوقت الذي يكافح سلام، رئيس الوزراء المُكلّف في لبنان، لتشكيل حكومة، فإنه مُضطرٌّ إلى التعامُل مع مطالب وانتقادات جميع الأطراف، في نظامٍ سياسي يَتَّسمُ الآن بتقسيمِ الغنائم بين الفصائل السياسية في البلاد. ويزعمُ بعضٌ من هذه الفصائلُ معارضته لنظام الغنائم السياسية الذي أفلس لبنان وأضعفه، ولكن الجميع يصرُّ على حقّه في الحصول على حصّةٍ من الكعكة.
لقد ضمن هذا الوضع أنَّ لبنان غير قادرٍ على التقدُّم الحقيقي. أصبح البلد سجينًا لشكلٍ منهجيٍّ من الخلل الوظيفي، والسبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو استبدال الطائف، أو بالأحرى هذه النسخة المروِّعة من الطائف، بشيءٍ آخر. ومن عجيبِ المفارقات أنَّ مثل هذه العملية يجب أن تبدأ بالعودة إلى الاتفاق الأصلي نفسه واستخدامه كأساسٍ للبدءِ من جديد.
كان البُعدُ الأكثر أهمية في الطائف الذي لم يتم تنفيذه قط هو دعوة الاتفاق إلى نزع الطائفية عن السياسة. وبدلًا من ذلك، حلّ محله نظامٌ سياسي جاء على العكس من ذلك لتعزيز الطائفية بشكلٍ مُفرِط، وتوزيع كل شيء في الدولة وفقًا للطائفة الدينية، واختراع ممارسات طائفية جديدة لا أساسَ لها في الدستور، ما جعلَ النظام غير قابلٍ للحُكم.
وكما تمَّ الاتفاق عليه في العام 1989، رافق الطائف الدعوة إلى نزع الطائفية السياسية بخطواتٍ مُصَمَّمة لطمأنة الأقلية المسيحية، التي خسرت أكثر من غيرها في الطائف. لقد شهدت رئاسة الجمهورية المخصصة للمسحيين الموارنة تقليصَ العديد من صلاحياتها، ولكن للتعويض عن هذا، أدرجَ المفاوضون على اتفاق الطائف قسمًا خاصًا باللامركزية الإدارية، ما أعطى المسيحيين (وكل الطوائف) مزيدًا من الحرية لإدارة شؤونهم الخاصة.
في الوقت نفسه، من أجلِ التعويض جُزئيًا عن إزالة الحصص الطائفية من البرلمان، وافقَ النواب في الطائف على إنشاء مجلس شيوخ “تُمثَّلُ فيه جميع الطوائف الدينية”، وتقتصرُ سلطته على القضايا الوطنية الكبرى. كانت المصطلحات غامضة، لكن الفكرة وراءها لم تكن كذلك: عندما يتعلق الأمر بالقضايا الأساسية، سيكون لجميع الطوائف صوتٌ متساوٍ.
وإذا أزال لبنان عبء التمثيل الطائفي، فمن المُفتَرَض أن يكون من الأسهل فتح الباب أمام أشخاصٍ أكثر كفاءةً وتأهيلًا في الحكومة، لأنَّ الأحزاب الطائفية لن تكونَ قادرة على استخدامِ الطائفة كمُبرّر لوضع أنصارها في مناصب السلطة. وفي الوقت نفسه، إذا تم تفويض المزيد من السلطات إلى المناطق المختلفة، فمن المرجح أن يكون هناك قدرٌ أعظم من المُساءلة لأنَّ القرارات المحلّية ستُعالِج القضايا اليومية، والتي يكون الناخبون أكثر عرضة للتفاعل معها في وقتِ الانتخابات.
لقد ذكرَ الطائف اللامركزية الإدارية الواسعة النطاق، ولكن ليس اللامركزية المالية على وجه التحديد. يجب تغيير هذا. لا جدوى من تسليم الصلاحيات للهيئات التمثيلية المحلية أو الإقليمية إذا لم يتم إنفاقُ الأموال المتولّدة محليًا أو إقليميًا في تلك المناطق. لقد كان هذا مطلبًا منذ فترة طويلة داخل المجتمع المسيحي، وقد تعني دعوة الرئيس جوزيف عون إلى شكلٍ واسع من اللامركزية في خطاب تنصيبه أنه ينوي أن يشمل اللامركزية المالية.
ولا يقل أهمية عن ذلك في السياق اللبناني الحالي ضرورة إنهاء ما يُسمّى بالاستثناء الشيعي الذي ساهم في العديد من الافتراءات غير الدستورية التي شلّت اتفاق الطائف. والسبب في ذلك هو أنَّ “حزب الله” وحليفته “حركة أمل”، التي يرأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري، فرضا في كثير من الأحيان تفسيراتٍ غير مُبرَّرة وغير صحيحة للدستور من أجل حماية مصالحهما السياسية.
لقد كان أحد الأهداف الرئيسة ل”حزب الله” هو الاحتفاظ بأسلحته، ضد إرادة الغالبية العظمى من اللبنانيين. وأدّى هذا إلى خلقِ وضعٍ غير طبيعي حيث احتفظ حزبٌ مُهَيمن واحد، وبالتالي المجتمع الذي يمثّله، بالقدرة على الترهيب. ولكن هذا أدّى أيضًا إلى توليدِ شعورٍ مُتناقِضٍ بعدم الأمان بين أنصار “حزب الله” و”أمل”. فهم يعتقدون أنه بدون الأسلحة، فإن المجتمع الشيعي قد يضعف بشكلٍ حاسم.
أدّت خسائر “حزب الله” في الحرب مع إسرائيل، خصوصًا سقوط حكومة بشار الأسد في سوريا، إلى تفاقُم هذا الشعور بالضعف. وفي هذا السياق، قد يؤدّي نزع الطائفية عن النظام السياسي إلى توسيع التمثيل الشيعي، مما يطمئن المجتمع. ولكن هذا لا يُمكن أن يحدثَ قبل نزعِ سلاحِ “حزب الله”، ولهذا السبب فإنَّ أيَّ تغييرٍ في النظام السياسي يجب أن يتمَّ بالتوازي مع التفاهم مع المجتمع الشيعي بشأن أسلحة “حزب الله”.
إنَّ النظام السياسي في لبنان، كما هو عليه اليوم، ببساطة لم يَعُد يعمل، ومن المؤكّد أنه لا يُعزّزُ الشعورَ بالانسجام الوطني والتعايش. لقد كان اتفاق الطائف مليئًا بالثغرات والمشاكل، ولكنه في الوقت نفسه، ومن عجيب المفارقات، يُقدّمُ لنا مخرجًا من المأزق الذي أوجده سوء تفسيره. ولهذا السبب لا بُدَّ من إعادة النظر في الاتفاق وتوسيع نطاقه إذا كان للبنان أن يحظى بفرصةِ التحوّلِ إلى دولةٍ فاعلة وفعّالة، وليس البقاء دولة فاشلة.
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.