هَيْبةُ السُكون في هيكَلِ الشِعر

نازك الملائكة: مطالعُ التجديد

هنري زغيب*

بِتَهَيُّبٍ ندنو من مقدس الشعر، معتذِرين عن تَجَرُّؤِنا على الوقوف في الهيكل بعناد. لكنَّ الفرّيسيّين تكاثروا، فالحَرَم في انتهاك، والمحرابُ في ريبةٍ من جُموع الـمُصلِّين.

هذه الريبة وذاك الانتهاك ليسا مِمَّن آمنوا بل هما من ضِعاف الإِيمان. فإِنّما بسبب هؤُلاء يتخبَّط الشعر في كل هذا الهَذَر الإِشكالِيّ الذي يَطْلَعُ علينا بِاسْم الشعر.

الإِشكال ليس في المضمون (الموضوعات ليست إِلى استنباطٍ، شعورًا إِنسانيًا: عاطفيًا أَو وطنيًّا،…)، بل في تَبَنّي الشاعر لقصيدته صيغةَ تعبير. فالشعر جسَدٌ وثَوب. وإِذا الجسَدُ عطيّةُ الله، فالثوبُ من عمل الإِنسان.

سعيد عقل: التجديد الأَكمل

الصيغ المختلفة والخُضُوع للقيَم

رأْسُ الإِشكالات في صيَغ التعبير أَنَّ كثيرين من الشُعراء (وأَكثر الطالعين حديثًا على الشعر) خرجوا على الأُصول. والفنّ العالي يعيشُ بالخضوع للأُصول ويَموت بالانفلات منها. الخضوعُ للقِيَم والـمُثُل يُعْلي لأَنه نَهْجٌ يوميّ. في الخُلقية، كما في الفنّ (كما في العلم والطب والتكنولوجيا)، كلَّ يومٍ نطبِّق الأُصول ونَخضَعُ لَها كي نأْمَن البَقاء والسلامة. وهكذا هي في الشعر، كلَّما تشدَّدنا بِها، كان الشعر أَمتَن وأَبقى.

الإِشكالات لم تكن مرّةً في الخضوع للقِيَم بل في الخروج عليها. وضياعُ هويّتنا الشعرية شكلًا، أَدَّى إِلى خَلخَلتِها مضمونًا: حين تَقَنَّعْنا بوُجُوه سوانا، لسانُنا تعثَّر، وبِتنا نفتِّش عن وجهنا وصوتنا ولون عينينا.

وهذا هو الضياعُ الذي لولاه، لكُنّا اليوم نبحثُ في التجويد عوضَ البحث في التجميد. أَفلَم يكن أَنْفعَ لو كنّا نبحث في جَماليّات شعرِنا المعاصر عوضَ البحث في إِشكالات هذا الشعر؟

إِن الاشتغالَ على البشاعات يُبَشِّع صاحبه من حيث لا يدري. والاشتغالُ على الجماليا يَزيد من لُمَع الجمال في عينَي صاحبه، ويَجعله بذلك يدري.

نزار قباني: الشعر خبزٌ للحميع

إِعادة النظر في الأَساس

اليوم، في هذه المرحلة من تاريخنا الشعريّ، نَجِدُنا باقين في حاجة مُلحَّة إِلى إِعادة النظر في كلّ شيء وفي كلّ أَحد. باتت تلزمُنا “نِيُوقراءة” في إِطارٍ جديد يكون هو الطريق نَحو استعادةِ هويّتنا الإِبداعية وأَصالتِنا الشعرية (قياسًا على تَجربة كبارِنا في الشعر) تُنقِذُنا من هذياناتٍ تطالعنا، تُسيْءُ إِلينا وإِلى الشعر.

دخولُنا هيكلَ الشعر، هو نَيْلُنا النعمةَ باقتبالِ واحدةٍ من أَغلى عطايا السماء. نعمةٌ لا يؤْتاها إِلَّا الأَصفياء. حالةٌ نادرة جدًّا من حالات الوعي في اللاوعي. معَها يكون الشعر ذاكَ الكلامَ المُغاير، المَسكوبَ من رؤْيا، المسبوكَ في رؤْيَة شكليّةٍ ومضمونيّةٍ تَنقُلُك وتوصلك إِلى “الحالة الثانية”. تَمَسُّك بتلك القشعريرة الجميلة التي تَلَذُّك من دون لِماذا، وتدَغدغك من دون كيف. القصيدةُ برقٌ وميضٌ يترك فيك رعدًا كثيرًا. والشعر اختزالٌ في التقاطِ هنيهةِ البرق. لذا: الشاعر هو مَن يعرف كيف يُشعل فيك لَحظةَ البرق ويَترك لك لَحظاتِ رعدٍ تتردّد في اندهاشِك.

بدر شاكر السيَّاب: فجر القصيدة الحديثة

لا تحديد عامًّا للشعر

الشعر: ما وكيف؟ متى وأَين؟

كما الحريةُ لا تُلمَس، والعطرُ لا يُلتَقَط، هكذا الشعر لا يُفسَّر، بل يُمارَس ويعاش. تَلَقِّيهِ في الإِحساس به هُو هُو تفسيْرُهُ بكلّ وضوحه. إِنه انفعالٌ. وهنا مزاجيّته. ولكلّ انفعالٍ إيقاع. غرابةٌ ونضارةٌ تَضُمّان كلَّ المعرفة وكلَّ الكون في مزيجٍ عجيب لا يُمكن تفسيره.

الشعر عملٌ فنّيٌّ صعبٌ لا يأْتي اتّفاقًا ولا تلبيةً فطريةً لِرغبةٍ في التعبير. إِنه، ككلّ فنٍّ عظيم، إِبداعٌ فاخر. لذلك لَم يبقَ على الأَجيال إِلَّا وحده الإِبداعُ المنصَهِرُ بنار الصعوبة.

الأُصول وحدها المعيار

الشعر ابنُ الأُصول معياره منهُ وفيه، فلا حاجةَ إِلى شرحه لبلوغ جَماليّاته (لوحات ميكلانج ابن الأُصول، لا حاجةَ لِمن يشرحها كي نفهمَها). يكفي أَن نقرأَه فيبلُغَنا ونُحبّه. بينما الشعر الخارج على الأُصول يَحتاج حَملةَ تنظيرٍ له وَحَوله وعنه وفيه، ومُنَظِّرين مصفِّقين يُرَوِّجون له لكنه سرعان ما يَختفي باختفائهم. الشعر الفاخرُ ابنُ الأُصول (وهو حصيلة تَجربة الأَجيال) لا يَحتاج أَحدًا ينظِّرُ له أَو يَشْرحه أَو يُـمَذْهِبُه أَو يُمَدْرِسُه، لأَنَّ القِيَمَ التي خضَع لَها الشاعر برهَنَت على فاعليَّتها ونِهائيّتها طوال عصور.

معيار آخر: الشعر ابنُ الأُصول هو الذي كلَّما قرأْته غُصت عليه، والتذَذْت به كلَّ مرّة كما لأَوَّل مرّة. بينما الشعر الذي يُشيح عن قِيَمٍ عُمرُها أَجيال، نقرأْه ونستهلكه من أَوّل مرّة بل لا نعود إِليه. وأَكثر: لا نتذكَّر منه شيئًا إِلَّا إِذا تذكَّرنا ما قاله عنه مُرَوِّجوه ومنظِّروه.

الفرق بين الشعر واللاشعر: هذا يَحتاج كلام التنظير حوله ليكون، وذاك هو في ذاتِه الكلامُ عليه.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى