إدارةُ ترامب الثانية والمشرقُ العربي
الدكتور ناصيف حتي*
يرى الكثيرون أنَّ إدارةَ الرئيس دونالد ترامب الجمهورية لن تكونَ أكثر تاييدًا لإسرائيل على الصعيدِ العملي من إدارة الرئيس جو بايدن الديموقراطية، للدلالة على الدَعمِ القوي الذي قدّمته الإدارة الأميركية السابقة لإسرائيل في حربها على غزة ولبنان على الصعيدَين السياسي والعسكري. ولكن جُملةً من المؤشّرات مع بداية دخول الرئيس ترامب إلى البيت الابيض أخذت تُسقِطُ تلك القناعة التي تكوّنت بعد عامٍ ونيّف من الحرب.
أوّل هذه الموشّرات تَمثّلَ في إعادة تزويدِ إسرائيل بقنابل تزنُ ألفي رطل كانت إدارة بايدن توقّفت عن إرسالها للدولة العبرية بسبب حجم الخسائر المدنية التي قد تنتج عن استعمالها.
ثاني هذه المؤشّرات كَمَنَ في الدعوة إلى “نقلِ سكانٍ من غزة المُدمَّرة إلى دولٍ مجاورة”، والمعني بشكلٍ خاص كل من الأردن ومصر. وقد رفضتها الدولتان بالطبع. ويندرجُ هذا الهدف، ولو تحت عنوان الموقّت، في إطارِ سياسة التهجير وتفريغ غزة تدريجًا من أهلها.
ثالث هذه المؤشرات هو إلغاء قرار الإدارة الأميركية السابقة الذي وضعَ عقوبات، منها منعهم من دخول الولايات المتحدة، على “المستوطنين المتطرّفين” الذين ارتكبوا أعمالَ عنفٍ أو قاموا بمصادرة اراضٍ لفلسطينيين في الضفة الغربية. ولا بُدَّ من التذكير في هذا الصدد أنَّ الاستيطانَ في الاراضي المحتلّة بحدِّ ذاته هو امرٌ يُشكّلُ خرقًا للقوانين الدولية ولقرارات مجلس الأمن ذات الصلة. ولا بُدَّ من التذكير أيضًا أنَّ إدارة ترامب الأولى (2017-2021) قد “أهدت” إسرائيل القدس المُوَحَّدة عندما اعترفت بها كعاصمةٍ لدولة إسرائيل وبالتالي بضمِّ القدس الشرقية، كما اعترفت بضمِّ الجولان أيضًا الذي هو جُزءٌ من الأراضي السورية المحتلة.
وعلى صعيدٍ آخر لم تلتزم إسرائيل بالانسحاب من لبنان في فترة الستين يومًا (التي انتهت صباح الأحد الفائت) وفقًا للاتفاق الذي وقّعته مع الحكومة اللبنانية والذي لعبت واشنطن دورًا رئيسًا في التوصُّل إليه، وهي التي ترأس لجنة الإشراف على مراقبة وقف إطلاق النار. الأمر الذي يستدعي بالطبع استكمال إسرائيل انسحابها من جنوب لبنان في الفترة التي حددها الاتفاق، فيما الواقع يدل على تمديدٍ شبه مفتوح لعملية الانسحاب التي كان من المفترض أنها تمت وانتهت.
يحملُ هذا التراخي في الضغط على إسرائيل لاحترام تنفيذ الاتفاق مؤشّرات خطيرة حول “اليوم التالي”، ومتى التوصُّل إليه وبأيِّ ثمن في ظل المطالبة اللبنانية الرسمية من الولايات المتحدة، رئيسة اللجنة، وفرنسا، العضو في اللجنة، الضغط على إسرائيل لاستكمال انسحابها ووقف سياسة الخروقات العسكرية المستمرّة. والجدير بالذكر انه صار من الضروري التحرّك، لبنانيًا وعربيًا، في مجلس الأمن الدولي للضغط على إسرائيل لاستكمال انسحابها فيما هي تحاول فرض واقع جديد في الجانب اللبناني في المنطقة الحدودية عبر لعبة الوقت المفتوح .
الرئيس ترامب يدعو أيضًا الدول المنتجة للنفط في المنطقة بشكلٍ خاص إلى تخفيض أسعار النفط بغية الضغط على روسيا للذهاب نحو التفاوض مع واشنطن بشان الحرب الأوكرانية .
الرئيس ترامب يرفع شعار إنهاء الحروب وتحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وهو بالطبع أمرٌ أكثر من ضروري ولمصلحة شعوب ودول المنطقة، وكذلك الأمن والسلم الدوليين، نظرًا للموقع الاستراتيجي المهم للمنطقة سواء في الجغرافيا السياسية أو الجغرافيا الاقتصادية. ويحتلُّ المشرق العربي أهمّيةً خاصة ليس بسبب موقعه فحسب، بل بسبب الحروب والتوترات والأزمات، ولو بدرجاتٍ مختلفة، والتغيّرات المفتوحة على احتمالاتٍ عديدة التي يعيشها، من الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث نشهد بداية تسخين في الضفة الغربية، مرورًا بلبنان وسوريا، مع ما لذلك من تداعيات على الإقليم الشرق اوسطي، وعلى منطقة المتوسط.
فهل ستكونُ هناك مُقاربةٌ مختلفة لإدارة ترامب عن تلك التي كانت سائدة في ولايته الأولى في منطقة المشرق العربي بشكلٍ خاص؟ مقاربةٌ تستفيدُ من دروسِ وعِبَرِ الماضي، وكذلك الأوضاع الحالية بما تحمله من دروسٍ أيضًا، لتصحيح مسار الانخراط الأميركي في المنطقة من خلالِ سياسةٍ تتناولُ جذورَ الأزمات ومُسبّباتها الفعلية. سياسةٌ تحمل مقاربةً شاملة لمعالجة تلك المسبّبات المشتركة والمختلفة بين النقاط الساخنة وذلك بالتعاون مع الأطراف المعنية من إقليمية ودولية. مقاربةٌ مُدرِكة لما أشرنا إليه وواقعية وتعاونية تساهمان في بناء الاستقرار والأمن والازدهار في الإقليم الشرق أوسطي. الأيام المقبلة ستُفيد حول مقاربة ترامب لقضايا المنطقة وعناصر ومحددات تلك المقاربة وبالطبع تداعياتها.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).