فَخُّ ما بَعدَ الاستبدادِ في سوريا: لماذا من غيرِ المُرَجَّحِ أن يُصبِحَ المُتَمرّدون الإسلاميون حُكّامًا ديموقراطيين
يجب على أحمد الشرع أن يضمَّ على الفور الأحزاب والجماعات السياسية الأخرى في عملية الانتقال، وبخاصة القوميين والناشطين المستقلين الذين قادوا الثورة ضد الأسد منذ العام 2011. لقد وعدت “هيئة تحرير الشام” بعقد مؤتمر شامل لتعزيز الحوار الوطني ولكنها رفضت دعوة الأحزاب السياسية وجماعات المعارضة للمشاركة.

الدكتور فوّاز جرجس*
بعدَ نصفِ قرنٍ من الاستبداد، انتهى حُكمُ عائلة الأسد لسوريا. يَحُقُّ للسوريين أن يحتفلوا، لكن يبدو أنَّ نضالهم لم يَنتهِ بعد. رُغمَ أنَّ الإطاحة النهائية بالديكتاتور بشار الأسد بدت مُفاجِئة، إلّا أنَّ جذورَها تعودُ إلى الاحتجاجاتِ المُناهضة للحكومة في سوريا التي اندلعت في العام 2011. والآن سيواجه السوريون العديد من المشاكل نفسها التي عانت منها دولٌ عربية أخرى بعد ثورات “الربيع العربي”. كانت هذه الثورات وتلك التي سبقتها في الشرق الأوسط بقيادةِ مجموعةٍ متنوّعة من الجهات الفاعلة المجتمعية، بما فيها القوميون العلمانيون والطلاب والمثقفون العامون والناشطون اليساريون. لكن في جميع الحالات تقريبًا، استولت عليها في نهاية المطاف الجماعات الإسلامية، التي استبدلت شكلًا سياسيًّا من أشكال الاستبداد بشكلٍ ديني. لا ينبغي أن يكونَ من المفاجئ أن تحظى الجماعات الإسلامية باليد العليا، لأنها تميلُ إلى أن تكونَ مُنَظَّمةً بشكلٍ جيد، وأفضل قيادة، وأكثر انضباطًا – وهي مزايا رئيسة في ظلِّ فراغ السلطة.
لقد تركت الجهودُ الوحشية، التي بذلها الأسد لتأخير سقوطه، سوريا أكثر عُرضةً لصعودِ رجلٍ قوي جديد. فعلى مدار 14 عامًا من الحرب الأهلية المريرة، دُفِعَ الملايين من السوريين إلى الفقر والمجاعة. وقُتِلَ نصف مليون شخص. وتسببت الحرب في تقسيم سوريا على أُسُسٍ عرقية ودينية، وشرّعت أبواب البلاد أمام قوى أجنبية متنافسة عدة بذلت جهودًا مُدمّرة للسيطرة والنفوذ. وقد ترك انهيار أجهزة الأمن القمعية السوريين يبحثون عن عشرات الآلاف من الأصدقاء والأقارب المفقودين الذين سُجنوا أو اختفوا قسرًا. لقد أصيبت البلاد بندوب. ولا يمكنها تحمّل حكومة أخرى يقودها حزبٌ واحد. إنَّ المجموعة الجديدة المُهيمنة في سوريا، “هيئة تحرير الشام”، قد أثارت آمال الأجانب من خلال الوعد بأن تكون مختلفة. على الرُغم من كون “هيئة تحرير الشام” منظمة سلفية إسلامية محافظة، إلّا أنها دعت مجموعة متنوّعة من الجماعات الإسلامية والقوميين ذوي التفكير المماثل للمشاركة في الهجوم للسيطرة على دمشق. في حين كان زعيم “هيئة تحرير الشام” يُديرُ جيبًا للمتمرّدين في محافظة إدلب، ويستخدم الاسم الحربي أبو محمد الجولاني؛ فقد عاد الآن إلى استخدام إسمه الأصلي، أحمد الشرع، واستبدل زيّه العسكري ببدلةٍ رسمية.
لكن هناك علامات مزعجة على أنَّ “هيئة تحرير الشام” تتخلّى بالفعل عن عقلية شاملة وتعتزم التفرُّد وتعزيز حُكم الحزب الإسلامي الواحد. ولأن هذا هو نمطُ التاريخ، فسوف يتطلّب الأمر اتخاذ إجراءات قوية ــمن جانب السوريين في المقام الأول، ولكن أيضًا من جانب الجهات الفاعلة الخارجيةــ لكسر هذا النمط.
إحذروا الفجوة
أكثرية التغطية الإخبارية لثورة كانون الأول (ديسمبر) صوّرتها على أنها استكمالٌ للثورة غير المُكتملة ل”الربيع العربي” السوري. لكن إطاحة الأسد لم تُعالِج بعد ما ناضلَ المحتجّون من أجله. كان الأسد ــوهو عضو في الأقلية العلويةــ يُحبُ أن يروّجَ للادّعاء بأنَّ نظامه يحمي الأقليات العرقية والدينية، ولكن هذا كان مُضَلِّلًا. فقد قمع الأسد كل السوريين، ودمّر بلدًا جميلًا. وكان القوميون ونشطاء حقوق الإنسان والمهنيون الذين قادوا ثورة “الربيع العربي” في سوريا يضمّون مجموعةً سنّية كبيرة ومتنوّعة لا تشترك في تفسير “هيئة تحرير الشام” الصارم للإسلام. وكان هدفها هو المساواة في المواطنة بين جميع السوريين، وليس الحكم الديني.
منذ الاستيلاء على السلطة في كانون الأول (ديسمبر)، شنَّ الشرع حملةً ضخمة لإقناع العالم بأنه سيحكُم بالشمول والاعتدال. وفي سلسلة من الاجتماعات مع مسؤولين غربيين وشرق أوسطيين، طمأن الشرع العالم بأنَّ سوريا الجديدة لن تُشكّلَ تهديدًا لجيرانها وأنَّ “هيئة تحرير الشام” ستسعى إلى تحقيق أجندة عملية، تُركّزُ على استعادة السلام والاستقرار في الداخل، وإعادة بناء الدولة السورية، وتنمية وتحرير الاقتصاد المدمَّر. وقد نأى الشرع بنفسه بقوة عن الأنظمة الإسلامية الأخرى، وصرّحَ علنًا بأنَّ سوريا ليست أفغانستان وأنَّ “هيئة تحرير الشام” تعلمُ أنَّ “منطقَ الدولة يختلفُ عن منطقِ الثورة”. ووَعدَ بأنَّ “هيئة تحرير الشام” ستحمي النساء والأقليات الدينية ولن تسعى إلى الانتقام من أنصار الأسد السابقين. وأشار أحد كبار الديبلوماسيين الأميركيين الذي زار دمشق في كانون الأول (ديسمبر) لأول مرة منذ أكثر من عقد بسعادة إلى أنَّ الشرع “بدا براغماتيًا”.
لكن الفجوة تتسع بشكلٍ مطرد بين هذا الخطاب المُطمئِن والتحرّكات العملية التي تقوم بها “هيئة تحرير الشام”. في كانون الأول (ديسمبر)، وَعَدَ الشرع بتنصيبِ سلطةٍ انتقالية بالتشاور مع السوريين من جميع الخلفيات. لكن أخيرًا، تراجع عن هذا الوعد، مشيرًا إلى أنَّ العملياتَ الطويلة المُتمثّلة في إعادةِ بناء النظام القانوني في سوريا وإجراءِ تعدادٍ سكاني تعني أنَّ الأمرَ قد يستغرقُ ما يصل إلى ثلاث سنوات لصياغةِ دستورٍ جديد وأربع سنوات لإجراء انتخابات. وفي غضون ذلك، تعمل “هيئة تحرير الشام” على خلق حقائق على الأرض تضمنُ سيطرةَ الجماعة على المؤسسات الأمنية والاقتصادية والقضائية الحيوية. وفي العاشر من كانون الأول (ديسمبر)، عيّنَ الشرع أحد أتباعه، محمد البشير، رئيسًا مؤقتًا للوزراء في سوريا، ليشغل المنصب حتى آذار (مارس). وملأ البشير إدارته بقادةٍ سابقين لمعاقل “هيئة تحرير الشام” في محافظة إدلب الشمالية، وعيّن أشخاصًا موثوقين بشكلٍ خاص على رأس الوزارات الرئيسة، بما في ذلك الدفاع والاستخبارات والاقتصاد والشؤون الخارجية. ولحُكمِ المدن الرئيسة في سوريا، استعانَ الشرع بموالين من جماعةٍ إسلامية مسلحة موالية واحدة، “أحرار الشام”. وبالتالي، نجحت “هيئة تحرير الشام” في نقل حكومتها القديمة في إدلب إلى دمشق مع استبعاد الجماعات المعارضة العلمانية والأكثر اعتدالًا دينيًا.
وبدعمٍ من تركيا، أقنع الشرع أيضًا عددًا من الفصائل المتمرّدة بنزع سلاح مقاتليها ودمجهم في وزارة الدفاع التابعة للحكومة المؤقتة. ثم قام بسرعة وبشكل أحادي بترقية خمسين من القادة الإسلاميين المتشدّدين إلى مناصب عسكرية عليا، بما في ذلك المقاتلون الأجانب من الصين ومصر والأردن وطاجيكستان وتركيا. ومن الواضح أنَّ الجيش السوري الجديد سوف يُراقب الهوية الإسلامية للبلاد: فقد أنشأت وزارة الدفاع دورةً تدريبية في الشريعة الإسلامية لمدة 21 يومًا للمجنّدين الجدد إلى جانب تدريبهم العسكري. كما أصدرت الوزارة بيانًا أعلنت فيه أن هدف الجيش الجديد هو العمل “بيد واحدة” “لخدمة ديننا”.
يحبُّ الشرع أن يؤكد على أن ثورة كانون الأول (ديسمبر) مُلكٌ لجميع السوريين. ولكن حتى الآن، يتصرّف هو وشركاؤه الإسلاميون في التحالف كما لو إنهم وحدهم أطاحوا الأسد وأنَّ الغنائم مُلكٌ لهم. وقد تمَّ استبعاد القوميين والناشطين العلمانيين في سوريا تمامًا من الحكومة الجديدة، إلى الحدّ الذي صدمهم. ولم تُنفّذ “هيئة تحرير الشام” حتى الآن أيَّ عمليات قتل انتقامية واسعة النطاق لأنصار الأسد. ولكن جماعات حقوق الإنسان السورية والسكان المحليين نشروا روايات مقلقة عن عمليات إعدام بإجراءات موجزة واختفاء علويين. ولم تضع فصائل معارضة قوية عدة، مثل “قوات سوريا الديموقراطية” التي يقودها الأكراد، أسلحتها بعد، مُصرّة على أنها تحتاج أوّلًا إلى رؤية “هيئة تحرير الشام” تحقق تقدمًا حقيقيًا نحو حُكمٍ أكثر شفافية وشمولًا.
الزُمَرُ المُتَطرّفة
على الرُغم من أنَّ كبارَ قادة “هيئة تحرير الشام” نأوا بأنفسهم عن تنظيم “القاعدة” (الذي انبثقت منه المنظمة)، إلّا أنهم لم يتبرَّؤوا قط من التزامهم بالإسلام السلفي. تُعلِّم السلفية أنَّ التطبيقَ الصارم للشريعة هو أساسُ النظام السياسي المُستقر. لكن بغض النظر عما يقولونه لتأمين لقاءات مع مسؤولين غربيين، فمن غير المرجح أن يقبل قادة “هيئة تحرير الشام” أبدًا أنَّ إرادة الشعب هي مصدرُ السلطة السياسية الشرعية. ولا يعني هذا الواقع أنَّ “هيئة تحرير الشام” سوف تسعى إلى تكرارِ تطرُّفِ طالبان في أفغانستان أو القمع الإبادي الذي مارسه تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضًا باسم داعش) في العراق وسوريا. فقد قال الشرع إنَّ طالبان حكمت “مجتمعًا قبليًا. أما سوريا فهي مختلفة تمامًا”. ولكن “هيئة تحرير الشام” استخدمت جهودها التي طال انتظارها لمكافحة التطرّف الديني في إدلب ــالجهود التي أسعدت المراقبين الخارجيين ــ لتطهير وإخفاء نزعة استبدادية سياسية. وبفضل حساباته وطموحه وذكائه وسرعته، حوّلَ الشرع جماعةً مسلّحة مُبَعثرة إلى منظمة عسكرية منضبطة وشبه مهنية من خلال إعطاء الأولوية لتعزيز السلطة على أداء النقاء الإيديولوجي. وللحفاظ على السلطة في إدلب، عمل الشرع على تحقيق التوازن بين المتشددين في “هيئة تحرير الشام” والبراغماتيين، وغالبًا ما انحاز إلى البراغماتيين. ولكنه نفّذ استراتيجياته البراغماتية بأساليب القبضة الحديدية. لقد نجح الشرع في تفكيك التطرُّف في “هيئة تحرير الشام”، ولكنه فعل ذلك من الأعلى إلى الأسفل، فأعدم وسجن بعض المتطرّفين.
ومن المرجح أن يدمجَ أسلوب القيادة الذي يتبنّاه الشرع بين جوانب من الإسلام السُنّي المحافظ، والقومية السورية ما قبل حزب البعث، والوظيفية التكنوقراطية ــ وهو مزيجٌ يشبه الأسس الإيديولوجية لحزب العدالة والتنمية التركي. وتنظر “هيئة تحرير الشام” إلى تركيا باعتبارها حليفًا ونموذجًا للتنمية. والواقع أنَّ المسؤولين الأتراك يوجّهون الشرع بالفعل ويساعدونه على تعزيز سلطته؛ وأكثر من أيِّ جهةٍ خارجية أخرى، سوف تمارس تركيا نفوذًا كبيرًا في تشكيل مسار سوريا.
في نهاية المطاف، سوف تستند شرعية الحكومة الجديدة في دمشق إلى تفسيرٍ سلفي للإسلام والحُكم الأغلبي. ولم ينطق الشرع قط بكلمة “ديموقراطية”، التي يعتبرها علمانية وغير إسلامية. بل إنه يتحدث بدلًا من ذلك عن إعادة بناء مؤسّسات الدولة، وهو ما قد يعني أسلمتها. والواقع أنَّ وزير العدل السوري الجديد شادي محمد الويسي صرّح بثقة في أوائل كانون الثاني (يناير) بأنَّ 90% من السوريين مسلمون، وبالتالي فإنهم سوف يُصوِّتون لصالح تطبيق الشريعة الإسلامية. إنَّ هذا البيان يُشيرُ إلى أنَّ الويسي ــوغيره من كبار قادة “هيئة تحرير الشام”ــ لا يرون الانتخابات كغاية في حدِّ ذاتها بل كوسيلة لتحقيق غاية إسلامية. وبالفعل، قامت حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها الشرع بإصلاح المناهج الدراسية الوطنية لتمنح الأولوية للتفسير الإسلامي للتاريخ السوري، وأزالت تعاليم مثل نظرية التطوّر من خطط الدروس.
ما دام ميزان القوى لصالح الإسلاميين، فمن غير المرجح أن تقطع سوريا الجديدة ارتباطها بماضيها الاستبدادي. والتاريخ هو درس: في إيران، كانت إطاحة الشاه محمد رضا بهلوي في العام 1979 مدفوعة بما يقرب من عقد من الاحتجاجات من جانب الطبقة المتوسطة الكبيرة في إيران، والمثقفين الديناميكيين، والجماعات الإسلامية القومية والليبرالية، والحركات السياسية الاشتراكية واليسارية القوية. ولكن بعد سقوط الشاه، تمكّنَ تحالفٌ من المحافظين الدينيين من اختطاف الثورة لأنهم كانوا أفضل تنظيمًا وأكثر انضباطًا. وبفضل امتلاكهم شبكة واسعة من المساجد، وزعيمًا كاريزماتيًا، واستعدادهم لاستخدام القوة ضد منافسيهم، نجحوا في تسييس الدين لحشد المؤيدين وتطهير الحكومة والحياة العامة من اليساريين والليبراليين والعلمانيين. وما بدأ كثورةٍ ديموقراطية انتهى إلى ثورة إسلامية.
وعلى نحوٍ مماثل، قاد تحالفٌ مُتنوّع من الطلاب ونشطاء حقوق الإنسان والنقابات العمالية والمهنيين من الطبقة المتوسطة انتفاضات “الربيع العربي” في البداية. في مصر وليبيا وتونس واليمن، انضم الإسلاميون إلى الاحتجاجات متأخّرين ــ ولكنهم تولّوا زمام الأمور في وقت لاحق. وقد أدت وحشية الأسد الخاصة إلى عسكرة الانتفاضة السورية السلمية في البداية، الأمر الذي برّر معارضة متزايدة التشدّد له. وبفضل قيادتها الكاريزماتية ومهاراتها التنظيمية وإيديولوجيتها المتزمتة وتضامنها الداخلي، كانت “هيئة تحرير الشام” وغيرها من الجماعات المسلحة المستفيدة غير المقصودة. ويُظهِر التاريخ الحديث أن الإسلاميين هم الورثة الأكثر ترجيحًا لمجتمعات الشرق الأوسط ما بعد الاستبداد. وبمجرد توليهم السلطة، يصبح من الصعب للغاية إزاحتهم.
مركزٌ محوري
في سوريا، تتكدّس الاحتمالات ضد الانتقال السياسي السَلِس. والتحدّيات العملية التي تواجه البلاد شاقة، ناهيك عن الافتقار إلى الثقة بين أصحاب المصلحة الرئيسيين الذين يتنافسون على المزايا والهيمنة. وبشكل عام، كلما قلّ عددُ الجهات الفاعلة الخارجية التي تتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، كانَ التحوّل أكثر شمولًا وفعالية. وهذا يعني أنَّ جيران سوريا ــ بما في ذلك إيران وإسرائيل وتركيا والدول العربية ــ لا بُدَّ أن يتراجعوا ويتوقفوا عن دعم الفصائل الانفصالية.
لكن الإجراءات الصحيحة التي تتخذها الجهات الفاعلة الخارجية يمكن أن تساعد. فما زالت “قوات سوريا الديموقراطية”، بدعمٍ من الولايات المتحدة، تتصادم مع المتمرّدين المدعومين من تركيا في شمال شرق سوريا. ولا بُدَّ من منح زعماء المجموعة الأكراد مقعدًا على طاولة صنع القرار في سوريا. ويمكن لأميركا أن تساعد على تسهيل هذه النتيجة من خلال استخدام نفوذها الهائل لدى “قوات سوريا الديموقراطية” لتشجيع المجموعة على القيام بدورها. وقد تكون الصيغة المربحة للجانبين حكومة شاملة تحقق التوازن بين الحفاظ على الوحدة الوطنية وتكريم التطلّعات الكردية للحكم الذاتي. ومن الممكن أيضًا أن يعالج مثل هذا الحل المخاوف الأمنية التركية. ومن خلال منع عودة ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية”، وهي المجموعة التي تتغذّى على الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، فإنَّ نموذج الحكم الفعّال والشامل قد يسمح للولايات المتحدة أيضًا سحب قواتها البالغ عددها 2,000 جندي من سوريا.
وقد دعا المجلس الوطني السوري ــوهو ائتلاف معارض واسع النطاق نشأ أثناء “الربيع العربي”ــ الأمم المتحدة إلى الإشراف على البلاد وتوجيهها، وليس إدارتها، في حين تعمل على صياغة دستور جديد؛ وينبغي للأمم المتحدة أن تستجيب لهذا النداء. ولا يوجد سبب يمنع سوريا من عقد انتخابات حرة ونزيهة في غضون ثمانية عشر شهرًا، وخصوصًا بمساعدة مراقبة الانتخابات من جانب الأمم المتحدة. ولكن لكي تنجحَ أيٌّ من هذه المساعي، يتعيّن على زعماء العالم أن ينخرطوا مع مجموعة أوسع من القادة المحليين، وزعماء المجتمع المدني، والناشطين، والقوميين، وليس فقط “هيئة تحرير الشام”. وإذا تمكنت جماعات المعارضة السورية وزعماء المجتمع المدني من التعبئة والانخراط في عمل جماعي، فسوف يكونون أكثر نجاحًا في العمل كضابط على الدوافع الاستبدادية ل”هيئة تحرير الشام”.
ويتعين على زعماء العالم أنفسهم أن يضغطوا على الشرع لبناء عملية حُكم شاملة وشفافة بسرعة. ولا يمكن أن يكون مسار سوريا إيجابيًا إلّا إذا انفصلت البلاد جذريًا عن ماضيها القمعي الحزبي. ينبغي على الشرع أن يضمَّ على الفور الأحزاب والجماعات السياسية الأخرى في عملية الانتقال، وبخاصة القوميين والناشطين المستقلين الذين قادوا الثورة ضد الأسد منذ العام 2011. لقد وعدت “هيئة تحرير الشام” بعقد مؤتمر شامل لتعزيز الحوار الوطني ولكنها رفضت دعوة الأحزاب السياسية وجماعات المعارضة للمشاركة. إنَّ الجهات الفاعلة الخارجية لديها نفوذ أكبر على “هيئة تحرير الشام” مما تستخدمه: على سبيل المثال، يمكنها جعل رفع تصنيف “هيئة تحرير الشام” كجماعة إرهابية مشروطًا باتخاذ خطوات عملية لإنشاء عملية حُكم أكثر شمولًا.
ولكن سواء نجحت أم لا في الضغط بشكل مباشر على الشرع، فيجب على الولايات المتحدة وحلفائها أن يبدَؤوا رفع العقوبات التي شلّت الاقتصاد السوري، وتسهيل تسليم المساعدات الإنسانية والسماح للسوريين الذين يعيشون في الخارج بإرسال التحويلات المالية لتحفيز الاقتصاد. وفقًا للأمم المتحدة، يعيش 90٪ من السوريين الآن تحت خط الفقر ويحتاج 75٪ منهم إلى مساعدات إنسانية عاجلة. لا يزال سبعة ملايين نازح داخليًا، وفرَّ أكثر من خمسة ملايين إلى مصر والعراق والأردن ولبنان وتركيا. ونتيجةً لهذا، فإن الكثيرين من السوريين الذين ينبغي لهم أن يُعيدوا بناء بلادهم نحو الأفضل أصبحوا مشتّتين بسبب الفقر ومُستَبعَدين من السلطة. وإذا لم يتمكّنوا من المشاركة في الحكم، فسوف تضيع فرصة ذهبية لبناء سوريا جديدة ــ وكسر نمط تاريخي مُحبِط.
- الدكتور فوّاز جرجس هو أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد، ومؤلف كتاب “ما الذي حدث فعلًا خطأ: الغرب وفشل الديموقراطية في الشرق الأوسط” (What Really Went Wrong: The West and the Failure of Democracy in the Middle East.).
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِن أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.