قطر بَينَ مطرقةِ الغاز الطبيعي المُسال وسندان تَغيُّرِ المناخ
يمكن لقطر استخدام موارد الطاقة لديها للدفع باتجاه تبنّي نُهج أكثر عدالةً في التعامل مع تغيّر المناخ ويوازن بين الاستدامة والتنمية.

جاستين دارغين*
تَخيّل جارك، قضى عقودًا في مُراكَمة ديونٍ هائلة من أجل بناءِ قصرٍ فخم والاستمتاع بحياةٍ ثريّة ومُترفة. والآن، مع وصول مُحصّل الديون، يُطالبك وجميع سكان الحيّ – بمعزل عن حصّتهم من الدين أو ظروفهم المالية– أن يشاركوه عبء السداد. من الصعب أن نجدَ عاقلًا يعتبر أنّ حلًّا مُماثلًا هو عادلٌ بأيٍّ من المقاييس.
مع ذلك، هذا هو واقع مفاوضات المناخ بالنسبة إلى الكثير من البلدان في الجنوب العالمي.ففي حين بنى الشمال العالمي ازدهاره وقوّته الجيوسياسية عبر قرون من تنفيث الانبعاثات من دون أيّ قيود، واستخراج الموارد حتى من دول الجنوب العالمي، يتمُّ حاليًا تقاسُم عبء التصدّي لأزمة المناخ بشكلٍ غير عادل عبر تحميلها للبلدان الأقل تلويثًا والأقل امتلاكًا للقدرات.
ومع تسارع وتيرة انتقال العالم نحو مستقبل مُنخفض الكربون، تُواجه قطر –إحدى أكبر مصدّري الغاز الطبيعي في العالم– مُعضلة إستراتيجية مُعقّدة. وكثيرًا ما يُنظَرُ إلى هذه الدولة الخليجية الصغيرة على أنّها من الناحية الاقتصادية أقل عُرضةً لتداعيات جهود التخفيف من آثار تغيّر المناخ، مثل التحوّل العالمي بعيدًا من النفط، وكذلك أقل مسؤولية عن انبعاثات الكربون مُقارنةً بالدول الرئيسة المُنتِجة للنفط. مع ذلك، يجعلها اعتمادها الاقتصادي الكبير على الغاز الطبيعي عُرضةً لخطرٍ مع تقدّم العالم نحو الانتقال الطاقوي يُقلّل من انبعاثات الكربون.
بيّنت المفاوضات المناخيّة الدولية الأخيرة وجود تحوّل كبير في السياسات العالمية بشأن المناخ. ففي مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين في كانون الأول (ديسمبر) 2023، تمّ الإتفاقُ على تحويل التركيز من الحدّ من انبعاثات الكربون الكلّية إلى استهداف الوقود الأحفوري بشكلٍ مباشر. وهذا تغييرٌ جوهريّ في طبيعة الخطاب المستقبليّ المُتعلّق بالمناخ وسياسات الطاقة، ويتجاوز كونه مجرّد تعديل كمّي لمسار مؤتمرات المناخ السابقة.
ويشكّل هذا التركيز العالمي على الهيدروكربونات كذلك تحدّيًا عميقًا لنمو قطر في المستقبل. ولكنّه قد يوفّر أيضًا فرصًا للتكيُّف الجيواستراتيجي والاقتصادي الكلّي. ستتمكّن قطر، من خلال تعبئة نفوذها الجيوسياسي وحشد مواردها الاقتصادية، من إعادة التموضع كلاعبٍ بنّاء في مفاوضات المناخ العالمية، والدعوة إلى انتقالٍ عادل يُوازن بين الاستدامة البيئيّة والتنمية الاقتصادية. وبذلك، ستتمكّن قطر من تأمين مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية طويلة الأمد مع المساهمة في مستقبل أكثر استدامة.
فوضى وفرصة
تاريخيًا، تعاملت الدول الخليجية بحذر مع الجهود العالمية للتخفيف من آثار المناخ، واعتبرتها تهديدًا لنموها الاقتصادي ومخطّطًا خفيًّا لعرقلة تنميتها الاقتصادية. ومع ذلك، شهد هذا النموذج بداية تحوّل في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بسبب نقص الغاز الطبيعي في المنطقة، والتأثيرات المزدوجة لأزمة العام 2008 المالية العالمية و”الربيع العربي”. وفي مواجهة الطلب المحلي المُتزايد على الهيدروكربون نتيجة نمو التصنيع، أدرك صنّاع السياسات في الخليج القيمة الإستراتيجية للتخلّص من النشاطات المنتجة للكربون، لا سيّما من خلال تدابير كفاءة الطاقة ومراجعة أسعار الطاقة والكهرباء. ومن خلال خفض النشاطات الكثيفة الكربون، يُمكنهم دعم النمو الصناعي –وخصوصًا في قطاعات الصناعات النفطية– مع تخفيف الضغوط على إمدادات الغاز الطبيعي. وفي حين لم تواجه قطر هذه التحدّيات بالدرجة نفسها التي واجهت جيرانها، كانت مشاركتها في مفاوضات المناخ العالمية وسيلة لتحفيز الصناعات النفطية المحلّية والانتقال إلى اقتصادٍ أكثر تقدّمًا.
ومع ذلك، وضع المشهد المناخي العالمي المتطوّر الاقتصادات التي تعتمد على الهيدروكربون، ومن ضمنها البلدان المعتمِدة على الغاز الطبيعي، تحت ضغوطٍ دولية مُتزايدة. وبعدما كان يُنظَرُ إليه على أنّه “جسر وقود” أساسي لمستقبلٍ مُنخفِض الكربون، يواجه الغاز الطبيعي تحدّيات مُتزايدة وسط صعود الطاقة المُتجدّدة وسياسات المناخ المتشدّدة. علاوة على ذلك، يتقلّص الطلب على الغاز الطبيعي القطري في أسواق التصدير الرئيسة، وخصوصًا أوروبا، بسبب مبادرات إزالة الكربون وتبنّي الطاقة المُتجدّدة، بالتوازي مع تنامي خطر فائض المعروض العالمي من الغاز الطبيعي، الناجم عن توسّع القدرات الإنتاجية للمنتجين القدامى مثل الولايات المتحدة وأوستراليا، والمنتجين الناشئين وخصوصًا في أفريقيا وأميركا الجنوبية.
وللتكيّف مع هذه التغييرات، قد تستفيد قطر من خلال التحوّل بعيدًا من دورها الهادئ التقليدي في مفاوضات المناخ إلى نهجٍ أكثر حزمًا، عبر الدعوة إلى تبنّي الغاز الطبيعي كبديل عملي منخفِض الكربون في مسار انتقال الطاقة. ومع تقدّم تقنيات الحدّ من انبعاثات الكربون، مثل احتجاز الكربون وتخزينه، يمكن لقطر تعزيز أوراق اعتماد الغاز الطبيعي البيئيّة مع تعزيز دورها كمُصدّر للطاقة الانتقالية. وهذا يتطلّب إستراتيجية شاملة تستغلّ الموارد المالية لقطر وتحالفاتها الجيوسياسية ونفوذها الديبلوماسي لحماية مصالحها الاقتصادية طويلة الأجل.
معالجة عدم المساواة
على مرّ التاريخ، هيمن الشمال العالمي على مفاوضات المناخ الدولية، ما أدّى في الغالب إلى تهميش وجهات نظر البلدان المُعتمدة على الموارد في الجنوب العالمي. وفي حين تمَّ الاعتراف بمبدَإِ “المسؤوليات المُشتركة والمتباينة” في المؤتمر الأول للأمم المتّحدة المعني بالبيئة الذي عُقِد في ستوكهولم في العام 1972، إلّا أنّ التفاوتات الاقتصادية والتاريخية لم تُعالج بعد بشكلِ هادف. تتحمّل دول الشمال العالمي التي اعتمدت صناعتها بشكلِ كبير على استغلال الموارد في كلٍّ من المراكز الحضرية والأراضي المستعمرة، المسؤولية الأساسية عن أزمة المناخ. ومع ذلك، يقع عبء التخفيف بشكلِ غير متناسب على دول الجنوب العالمي، التي ساهمت بأقل من 10 في المئة من الانبعاثات العالمية منذ القرن التاسع عشر، حتى بعد نقل الصناعات الثقيلة وعمليات التصنيع إليها في العقود القليلة الماضية.
وعلى الرغم من الاعتراف بهذه التفاوتات، نادرًا ما تقوم دول الجنوب العالمي بمعالجتها بطريقةٍ مُتّسقة ومتماسكة أو منسّقة. وتتمتع قطر، بفضل مكانتها الدولية ومواردها الهائلة، بقدرةٍ على الدفاع عن انتقال أكثر عدالة للطاقة يعكس واقع دول الجنوب العالمي ويتماشى معه. وعلى الرُغم من مستويات المعيشة المرتفعة، تتشارك قطر مع دولٍ أخرى تعتمد على الموارد تحدّيات تنموية، ومن ضمنها تعزيز النمو الاقتصادي والتصنيع وإدارة الموارد الطبيعية بشكلٍ مسؤول بالتوازي مع التصدّي لتغيّر المناخ. وللقيام بدورٍ أكثر استباقية في الديبلوماسية المناخية الدولية، يجب على قطر أن تتوافق إستراتيجيًا مع دول الجنوب العالمي لمناصرة الحلول العادلة.
نهجٌ إستراتيجي وتقدّمي
توفّر الاستثمارات المستهدَفة في الجنوب العالمي، وخصوصًا في أفريقيا، وسيلة قوية لقطر لتعزيز أهدافها المناخية والجيوسياسية. ومن خلال دعم بناء البنية الأساسية للطاقة المُتجدّدة، ونشر تقنيات التقاط الكربون وتخزينه، والمشاريع المُشترَكة للغاز الطبيعي ومحطّات استيراد الغاز الطبيعي، يمكن لقطر أن تُثبت نفسها كشريكٍ رئيس للدول المحدودة الموارد في مجال التحوّل في الطاقة. وهذه ليست أعمالًا خيرية بل استثمارات من شأنها أن تؤكّد التزام قطر بالاستدامة، وتتوافق مع رؤيتها للعمل المناخي العادل، لا سيّما في ضوء فشل دول الشمال العالمي المستمرّ في الوفاء بالتزاماتها بتمويل المناخ.
يمكن أن تشكّل المشاريع التعاونية أساسًا لدورٍ أقوى تؤدّيه قطر في ديبلوماسية المناخ. وقد يشمل ذلك تمويل مشاريع الطاقة المتجدّدة في أفريقيا، ودعم أسواق الكربون في آسيا، وتطوير شراكات الهيدروجين الأخضر والبنية الأساسية للغاز الطبيعي في أميركا اللاتينية. ومن شأن مبادرات مُماثلة أن تعزّز سمعة قطر كجهةٍ فاعلة عالمية مسؤولة وتفتح الفرص الاقتصادية في الأسواق الناشئة وتضمن الطلب الجديد على الغاز الطبيعي في ظلّ توجّه أوروبا للتخلّص من الكربون.
ينبغي على قطر أن تضعَ إستراتيجيةً متماسكة للديبلوماسية المناخيّة تستند إلى مشاركاتها الناجحة مع أوروبا والولايات المتّحدة والصين، وتربط بين الاستثمار الاقتصادي والتجارة والأمن. ولا بدّ من أن تُوائم هذه الإستراتيجية بين استثماراتها وسياساتها التجارية من جهة، ومشاركتها النشطة في المنتديات المناخيّة الدولية من جهة ثانية، والدعوة إلى تقاسمٍ عادل لأعباء خفض الانبعاثات بالتوازي مع مواجهة المساعي المُتزايدة لتهميش الغاز الطبيعي.
وبدلًا من الاستجابة للضغوط الخارجية والروايات المفروضة، ينبغي على قطر أن تقودَ المناقشات بشأن الدور البنّاء الذي يمكن أن تؤدّيه اقتصادات الهيدروكربون في تحقيق أهداف المناخ العالمية. ويشمل هذا الدور توسيع نطاق تقنيات التقاط الكربون وتخزينه، وتعزيز آليات الاعتراف بالغاز الطبيعي كموردٍ ضروري لتحقيق انتقال طاقوي متوازن وعملي، مع القدرة أيضًا على مواجهة تحدّيات فقر الطاقة في الجنوب العالمي.
على سبيل المثال، يمكن لقطر أن تدعم تطوير شكل جديد من أشكال اعتمادات الكربون المُصمَّمة لدعم دور الغاز الطبيعي كجسر وقود أقل كثافة كربونية. وقد يشمل هذا النظام إدخال “الاعتمادات الزرقاء”، التي تعترف بشكلِ أساسي بتخفيضات الانبعاثات المحقّقة من خلال الغاز الطبيعي عندما يحلّ محل مصادر الوقود الكثيفة الكربون مثل الفحم والنفط في توليد الطاقة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تجميع هذه الاعتمادات بشكلِ مباشر مع تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه المطبَّقة في إنتاج الغاز الطبيعي واستهلاكه، ما يمكّن المنتجين من تعويض الانبعاثات مع تحفيز العمليات النظيفة وتحقيق الربح منها.
ومن الآليات المالية الواعدة الأخرى، نذكر السندات المرتبطة بالاستدامة، التي تربط التمويل بتحقيق أهداف بيئيّة قابلة للقياس في سلسلة قيمة الغاز الطبيعي، مثل التخفيضات الكبيرة في تسرّب الميثان، أو التحسينات في كفاءة نقل الغاز الطبيعي المُسال. ومن شأن هذه السندات أن تدعم عمليات الأكثر كفاءة في صناعة الغاز الطبيعي. وينبغي لقطر، إلى جانب منتجي الغاز الطبيعي الآخرين، أن تتفاوض بشكل جماعيّ أيضًا من أجل التوصّل إلى أفضل طريقة لمعالجة الغاز الطبيعي بمُوجب آلية تعديل حدود الكربون المصمّمة في أوروبا. وأخيرًا، يمكن لقطر أن تقود عملية إنشاء صناديق أمن الطاقة الإقليمية لتمويل البنية الأساسية للغاز الطبيعي، مثل محطات الاستيراد ومحطات الطاقة العاملة بالغاز وتعزيز تنمية المناطق التي لديها احتياجات ملحّة لتحقيق أمن الطاقة. وتساهم هذه الصناديق بجذب الاستثمارات من خلال ربط مشاريع الغاز الطبيعي بأهداف تحقيق الاستقرار والتنمية الإقليمية الأوسع نطاقًا، وتعزيز أهمية الغاز الطبيعي كمصدر طاقة موثوق ومستدام.
يعتمد استقرار قطر الاقتصادي في المدى الطويل على قدرتها على إعادة تعريف دورها في الخطاب العالمي بشأن المناخ. ويمكن أن تصوغ قطر أجندة مناخية أكثر شمولًا من خلال الاصطفاف مع الجنوب العالمي والدعوة إلى العدالة والمساءلة التاريخية، فضلًا عن الاستثمار في التنمية المستدامة. ويتطلّب هذا التحوّل من قطر أن تنتقل من موقع اللاعب الثانوي إلى دور القائد الفعّال، لتكون قدوة للدول التي تعتمد على الهيدروكربونات. ومن خلال ديبلوماسية مناخية استراتيجية، تستطيع قطر تأمين مستقبلها الاقتصادي وتعزيز مكانة حلفائها، ما يساهم في انتقالٍ عالمي أكثر إنصافًا يركّز على العدالة المناخيّة. وكما قال الجنرال الصيني والخبير الاستراتيجي العسكري “صن تزو”: في قلب الفوضى تكمن الفرص.
- جاستين دارغين هو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. وتركّز بحوثه على عدد من القضايا المرتبطة بقطاعات الطاقة في الشرق الأوسط والعالم، والشؤون الجيوسياسية، وتغيّر المناخ.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.