رودان: العبقري الغرائبي (1 من 2)

آدم

هنري زغيب*

عبقريٌّ؟ صحيح. لكنه غرائبيٌّ سلوكًا وأَعمالًا: في سلوكه أَنه متعدد النساء، وبينهنَّ تلميذتُه وعشيقتُه كميليا كلوديل التي عشقَها وعشقَتْه وأَودى بها جنون العشق إِلى مصحّ عقلي توفيت فيه معزولةً محطَّمة. وفي أَعماله غرابةُ التجديد شكْلًا ومواضيع، ما جعله أَبرز نحَّات في زمانه، فسُمِّيَ “أَبا النحت الحديث” فارضًا حضوره الغرائبي على مساحة الفن التشكيلي في فرنسا وأُوروبا، ناقلًا النحت من النقْل والنسْخ إِلى الخلق الإِبداعي بتقنياته وتشكيلاته العميقة الفكر والمضمون. وهو كان جسرًا متينًا واضحًا بين التقليد الأَكاديمي وحرية التعبير كما شاعت في أَواخر القرن التاسع عشر. وبذلك تحدَّى ما كان سائدًا، وفرض في أَعماله الواقعية والرمزية معًا.

أُوغست رودان (1840-1917) واجه السائد التقليدي الأَكاديمي الْكان مأْلوفًا فترتئذٍ في معاهد الرسم والنحت، فأَخذ فنَّ النحت إِلى بُعد آخر وأَساليب أُخرى من التعبير التشكيلي. وبين أَبرزوا أَهمية رودان: الشاعر راينر ماريا ريلْكِه ممتدحًا عمق المواضيع في أَعمال رودان، وأَلبرت إِلْسِن – الناقد الخبير في رودان – امتدح منحاه التجديدي وتأْثيره على الفن الحديث والمعاصر.

في هذا المقال من جُزءَين إِطلالة على 10 من أَبرز أَعمال هذا الفنان العبقري والغرائبي في آن.

          1. آدم

تميَّزَ هذا التمثال بجمعه الموضوعَ الكلاسيكي إِلى التأَثُّر العميق الواضح في عناصر التمثال. أَنجزه رودان سنة 1881 جُزءًا من عمله الضخم المتعدِّد المواضيع “أَبواب الجحيم”، مستمدًّا إِيحاءَه به من رائعة ميكالنجلو “ولادة آدم” (1508). وبرع رودان في إبراز تفاصيل الجسد والوجه، وواقعه البشري (عكس ما أَبرز ميكالنجلو فيه من سمة إِلهية). وهذا المزج بين القوة والرهافة يُبرز عبقرية إِزميل رودان في إِبداعه الخلَّاق عبر تجاوُز المفهوم التقليدي وتحويل المؤَلَّه إِلى البشريّ.

الظلال الثلاثة
  1. الظلال الثلاثة

استوحى رودان هذا التمثال من رائعة دانتِه “الكوميديا الإِلهية” (1321). وهو يمثِّل أَرواح الملعونين الثلاثة المغضوب عليهم. نفَّذه رودان ليكون عند أَعلى عمله الضخم “أَبواب الجحيم”. وهو نحتَ فيه ثلاثة أَشخاص متشابهين متماسكين في شبه دائرة، تدل أَجساهم على الخيبة واليأْس والندم، كما يظهر في رقابهم المنحنية وأَكتافهم المهدومة، ما يؤَكِّد مظهر الانحناء المهزوم والتوتُّر المشترك بينهم. والمشهد العام يُبرز براعة رودان في صنع تماثيل أَخَّاذة وغير اتِّباعية حيال ما كان متَّبَعًا.

العصر البرونزي
  1. عصر البرونز

عرضه رودان سنة 1877 فكان صادمًا بجديدٍ في مسيرته الفنية، إِذ إنه ابتعد عن الإِملاءات الأَكاديمية التقليدية، فنَحَتَ وجهًا يوحي بنبض الحياة، وعينَين مغْمَضَتَين وشَفَتَين شبه مفتوحَتَين كأَنها لحظة الوعي والنهوض. ومرة أًخرى استوحى رودان تمثاله من رائعة ميكالنجلو “الـمُستَرَقُّ المائت” (1516) من العصر الكلاسيكي الإِغريقي، لكنه أَعطى وجه الشخص وقفة خاصة ترتكز على ساقٍ واحدة. وهذا التمثال، بواقعية ملامحه، أَثار ضدَّه نقَّادًا اتهموه بأَنه وضع تمثاله نقلًا مباشرًا عن موديل حي أَمامه، وهو ما جعلَ شُهرة التمثال أَكبر، خصوصًا أَن رودان دعا زوار المعرض إِلى الاستدارة حول التمثال من جميع جهاته، كي يتبيّنوا دقة ما أَعطاه رودان من تفاصيل دقيقة للحركة والحياة بفضل مَن كان أَمامه حين كان يَنحت التمثال.

شهداء كاليه
  1. شهداء كاليه

كاليه مدينة فرنسية بحرية، والتمثال يرمز إِلى قصة تضحية وشجاعة. فسنة 1885 كلَّفت بلدية كاليه رودان وضع هذا التمثال تشريفًا ذكرى ستة مواطنين ضحوا بحياتهم لإِنقاذ مدينتهم خلال حرب المئة يوم، فكان التمثال ساطع الجمال عميق الدلالة.   وكلُّ مواطن من أُولئك الستة يرتدي ثوبًا متهدِّلًا وحبْلًا حول عنقه كأَنه مستعدٌّ للموت. وما على محياهم يدل على ما يعتمر في قلوبهم من صراع. وهم واقفون معًا، من دون أَن ينظر أَحدُهم إِلى الآخر، ما يوحي بالعزلة الداخلية في كلٍّ منهم. وكونهم حُفاةً وأَكتافهم مردودة إِلى الوراء، تبدو الرهافة في نفوسهم، وفي مشيتهم تعبٌ بشريٌّ وضنًى إِنساني. وبعد إِنجاز المنحوتة سنة 1889، تم تركيزها سنة 1895 إِنما على غير ما كان يرغب رودان بتركيزها على مستوى الأَرض ما كان سيعطيها أَثرًا أَعمق في الجمهور القريب منها.

اليأْس
  1. اليأْس

يعكس هذا التمثال إِبراز رودان الحزن البشري، جامعًا الحركة الدينامية إلى التكثيف العاطفي. وكان هذا التمثال، أَساسًا، جزءًا من المنحوتة الضخمة “أَبواب الجحيم”، وهو يمثل امرأَةً جالسةً على صخرة، محاولةً مدَّ ساقها نحو دورة لانهائية لصراع داخلي. وبعيدًا عن كل مَعْلَمٍ مأْلوف من الحزن يبدو فيه ملامح العذاب، وتعكس ملامح المرأَة توتُّرًا جسديًّا وانزواءً عاطفيًّا. ومع الزمن، صدرت عن هذا التمثال نسخٌ تدل على نجاح مغزاه كتأَمُّل مستدام  للوضع البشري.

المقال التالي: خمسة تماثيل أُخرى.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى