كيفَ يُمكِنُ لترامب إعادة تشكيل الشرق الأوسط

الوحدة الفلسطينية والتجديد، جنبًا إلى جنب مع الموقف السعودي الذي يعزز قيام الدولة الفلسطينية، قد يضع إسرائيل ودونالد ترامب في موقفٍ دفاعي ويُوفّرُ فرصةً أخيرة للتوصُّل إلى اتفاقٍ عادل على أساس حل الدولتين في المنطقة، إذا كان لا يزال قائمًا.

الأمير محمد بن سلمان: قد يكون حل الدولتين بين يديه.

رجا الخالدي*

خلال الحملة الانتخابية، وَعَدَ دونالد ترامب، الرئيس المنتخب للولايات المتحدة الآن، بأنَّ مشاكل “الشرق الأوسط سوف تُحَل”، لكنه لم يُقدِّم سوى القليل من التفاصيل حول الكيفية التي قد يُحقّق بها مثل هذه النتيجة. وعندما يعود إلى البيت الأبيض اليوم، ستواجه أجندته “أميركا أوّلًا” تحدّيًا بسبب تورط الولايات المتحدة في حرب إسرائيل في غزة والأزمة الإنسانية التي لا يُمكِنُ تصوُّرها هناك والتي لم يتم تخفيفها بعد. لقد خضع الشرق الأوسط الذي سيرثه ترامب من إدارة جو بايدن لتحوُّلات تكتونية. على مدار العام الماضي، هاجمت إيران وإسرائيل بعضهما البعض بشكلٍ مباشر، وهيمنت الدولة العبرية عسكريًا على حركة “حماس” و”حزب الله”، وانهار أحد أهم حلفاء الجمهورية الإسلامية العرب، نظام بشار الأسد في سوريا، في غضون أسابيع بعد نصف قرن من السلطة.

لم تَكُن مكانةُ واشنطن في الشرق الأوسط مُنخَفِضة إلى هذا الحدّ من قبل، إذ إن تواطؤها في العدوان الإسرائيلي لم يُخفَ عن أعدائها ولا عن أصدقائها. لقد تضاءل نفوذ الولايات المتحدة على الحكومات والشعوب العربية مع كلِّ شحنةٍ من الأسلحة الأميركية إلى إسرائيل وكل حق نقض (فيتو) أميركي لحماية إسرائيل في الأمم المتحدة. فشلت إدارة بايدن في حماية حتى أبسط حقوق الفلسطينيين في الغذاء والماء والدواء والمأوى. وليس لدى الفلسطينيين أي أساس للاعتقاد بأنَّ ترامب سينهي الدعم الأميركي الثابت لإسرائيل، حتى في مواجهة القضايا القانونية الدولية ضد البلاد بتهمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، لأنه لديه سجل حافل بدعم إسرائيل وأحاط نفسه بمستشارين مؤيدين وداعمين لها بشدة.

لكن كما تَعلَّمَ العالم، يظل ترامب بمثابة ورقة رابحة. فهو خالٍ من عبء المساعدة في حرب إسرائيل الحالية، ويفخرُ بأنه صانعُ صفقات، ويبدو أنه يتمتع بنفوذٍ أكبر على القادة الإسرائيليين مقارنةً بالرئيس الأميركي جو بايدن. كما يمكن للمملكة العربية السعودية أن تستخدمَ علاقتها الجيدة مع ترامب لدفعه نحو الاعتراف باحتياجات وحقوق الفلسطينيين. وفوق كل شيء، ستعتمد السياسة الأميركية على توازُن القوى المُتقلّب في الشرق الأوسط، والذي أصبح أكثر تغيُّرًا مما كان عليه منذ عقود. والفلسطينيون ليسوا تحت أيِّ وَهمٍ بأنَّ ترامب هو حليفهم، لكن البعض لا يزال يأمل في أن يقومَ رئيسٌ، لا يمكن التنبّؤ بتصرّفاته، يعملُ في منطقةٍ سريعة التقلُّب، ببعض التغيير الذي تشتدُّ الحاجة إليه.

بوادر سيئة

كان التنبّؤ بمستقبل الشرق الأوسط محفوفًا بالمخاطر دائمًا، ويُصبحُ القيام بذلك أكثر صعوبة عند وَضعِ سلوك ترامب المُتقلّب والمزاجي في الاعتبار. إنَّ ولايته الأولى في المنصب تُقدّم لنا أدلّة حول الكيفية التي قد يتعامل بها مع الشرق الأوسط اليوم: على الرُغم من أنه صرّحَ في البداية بأنه لا يُفضّل حلَّ الدولتين أو حلَّ الدولة الواحدة، إلّا أنه اعترف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وقطع المساعدات عن الأونروا والفلسطينيين، وأعلن أنَّ المستوطنات الإسرائيلية -التي اعتبرتها واشنطن والمنظمات الدولية دائمًا غير قانونية- شرعية وقانونية.

وقد بلغت سياسته في الشرق الأوسط ذروتها في اتفاقيات أبراهام في العام 2020، وهي سلسلة من الاتفاقيات الثُنائية التي طبَّعت بموجبها أربع دول عربية علاقاتها مع إسرائيل. وكانت غالبية الدول العربية وعدت سابقًا، من خلال التوقيع على مبادرة السلام العربية التي عُقدت في بيروت في العام 2002، بإقامة علاقات كاملة مع إسرائيل فقط في مقابل تحقيق حلّ الدولتين. ومع ذلك، كانت الاتفاقيات مَبنيةً على فكرة مفادها أنَّ السلام الإسرائيلي-الفلسطيني يُمكن فرضه من الخارج بمجرّد إقامة علاقاتٍ عربية-إسرائيلية – وهو عكسُ الحكمة التقليدية. لقد فَصَلَت الاتفاقيات إلى حدٍّ كبير التطبيع العربي-الإسرائيلي عن مصير فلسطين. من خلال التوقيع عليها، جعلت البحرين والمغرب والإمارات العربية المتحدة والسودان فلسطين أقل مركزية في أجنداتها الإقليمية. وحاول بايدن توسيع السياسة لتشمل السعودية لكنه لم يتوصَّل إلى اتفاقٍ قط، حيث ظلَّ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مُتردّدًا في تطبيع العلاقات مع إسرائيل حتى تتم معالجة مخاوفه الإقليمية الأخرى، وخصوصًا مستقبل فلسطين وما يراه السعوديون تهديدًا إيرانيًا.

كان ترامب يأمل أن تقترنَ اتفاقيات أبراهام بما سمّاه “صفقة القرن”: وهي خطة للسلام الإسرائيلي-الفلسطيني تميلُ لصالح إسرائيل للغاية. ستسمح هذه الخطة للدولة العبرية ضمَّ جُزءٍ كبير من الضفة الغربية رسميًا ورفضَ عودة اللاجئين الفلسطينيين، في مقابل الاستثمار الإقليمي والوعود بدولة فلسطينية منزوعة السلاح وتفتقر إلى السيادة المطلوبة. رفضت منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل المعترف به للشعب الفلسطيني، الصفقة لأسباب مفهومة؛ حيث كانت ستمنع احتمال إقامة دولة حقيقية وتتنازل عن الأراضي والحقوق الفلسطينية المشروعة.

يُقدّمُ مانحون ومستشارون ومرشّحون لترامب مؤشّرات أخرى حول الكيفية التي قد يتعامل بها مع الشرق الأوسط – وهي أسبابٌ تدعو للخوف بين الفلسطينيين. تبرّعت ميريام أديلسون، المليارديرة المؤيّدة لإسرائيل، بأكثر من 100 مليون دولار لحملة ترامب. وقال مايك هاكابي، السفير المُعيَّن من قبل ترامب إلى إسرائيل، إنَّ “الضفة الغربية لا وجود لها، بل هي يهودا والسامرة”، وهو ما يعني ضمنًا أن هذه المنطقة تابعة لإسرائيل. ويؤكد بيت هيغسيث، مرشح ترامب لمنصب وزير الدفاع، أنَّ “مَن يحب أميركا، يجب أن يُحبَّ إسرائيل”، ورفض فكرة حلّ الدولتين باعتبارها مجرد “خدمة لفظية”. وقال مايك والتز، المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي، إن الإدارة ستدعم هجومًا إسرائيليًا آخر على غزة إذا لم يصمد وقف إطلاق النار، الذي أُعلِنَ عنه في الخامس عشر من كانون الثاني (يناير) الجاري.

والأمر الأكثر أهمية هو أنَّ الخطوات التالية التي سيتّخذها ترامب ستتأثر بالطريقة التي تهبُّ بها الرياح في إسرائيل. فمنذ هجوم “حماس”، نجح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في إبقاء إسرائيل مُعَلّقة في مزاجِ الانتقام الأعمى. ووفقًا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة “غالوب”، يُعارض 64% من الإسرائيليين الآن حل الدولتين، ارتفاعًا من 30% في العام 2012. وتحرصُ حكومة إسرائيل المتطرفة على تفكيك أي تظاهُرٍ ومظاهر بوجود دولة فلسطينية ومؤسّسات وحكومة. الواقع أنَّ بعض الإسرائيليين عازمٌ على شيءٍ أسوَإِ من صفقة القرن التي طرحها ترامب. اقترحَ أعضاءٌ في الحكومة، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتامار بن غفير، استعادة المستوطنات الإسرائيلية في غزة، ونقل أو طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من غزة، وضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، وانهيار السلطة الفلسطينية. ومن الواضح أنَّ الفلسطينيين لا يستطيعون بمفردهم منع مثل هذا الهجوم.

لكن في الوقت نفسه، كانت الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي وداخل الشتات اليهودي تتسع ــ بين الإسرائيليين العلمانيين والمُتدينين، وبين أولئك الذين يطالبون بالمساءلة عن أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وأولئك الذين يحاولون تحويل اللوم أو ببساطة المضي قدمًا، وبين الإسرائيليين الذين يبدو أنهم على استعداد للتوصّل إلى تسوية مع الفلسطينيين وأولئك الذين لا يحبّذون ذلك، وبين مصالح حركة الاستيطان ودولة إسرائيل، وبين الناس الذين يعطون الأولوية ليهودية الدولة وأولئك الذين يعتقدون أنَّ الديموقراطية ينبغي أن تكون القوة التوجيهية لإسرائيل. وفي مرحلة ما من العام 2025، سوف يضطر نتنياهو وحكومته إلى مواجهة الحساب مع شعبهما بشأن هذه التوترات. وتتضاءل احتمالات قدرته على الاستمرار في تجنُّب المساءلة والحفاظ على تماسك ائتلافه اليميني الضعيف مع إغلاق كل جبهات الحرب.

العامل المجهول

إن الكيمياء الشخصية بين القادة الإسرائيليين والأميركيين سوف تُشكِّلُ أيضًا السياسة الأميركية تجاه إسرائيل. فبوسع ترامب أن يُجبِرَ نتنياهو على القيامِ بأشياء، مثل السماح بدخول المساعدات الإنسانية التي تشتّدُ الحاجة إليها إلى غزة، بطرُقٍ لم يستطع بايدن أو لم يرغب في القيام بها. وخلال المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار، قرأ ستيفن ويتكوف، مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، على نتنياهو قانون الشغب، ليدفع الصفقة إلى الأمام ــ حتى قبل أن يتولى ترامب منصبه. وقد أعلنت الحكومة الإسرائيلية الحالية علنًا ​​معارضتها لأيِّ شكلٍ من أشكال الدولة الفلسطينية والحكم الوطني، وتستمرُّ في فرض عقوبات مالية وسياسية على السلطة الفلسطينية الضعيفة. ولكن إذا وضع ترامب نصب عينيه الانحراف عن سياسة بايدن تجاه إسرائيل، فلا ينبغي أن تكونَ لديه أي مشكلة في التدخُّل في السياسة الإسرائيلية للترويج لزعيمٍ على استعداد لتقديم تنازلات أفلتت منها إسرائيل حتى الآن. وربما يكتشف نتنياهو بعض الحقيقة في المثل العربي الشعبي “العدو المعقول أفضل من الصديق المجنون”.

وبقدر ما يبدو المستقبل القريب قاتمًا بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإنَّ المجهول الآخر سوف يؤثر في ما يفعله ترامب في الشرق الأوسط. إنَّ من أهمِّ هذه التحديات هي الديناميكيات الإقليمية المتغيِّرة. فقد أصبحت طهران في موقف دفاعي، ودخل الصراع على سوريا مرحلةً جديدة مع تسابق القوى الإقليمية على النفوذ. وقد استغلت إسرائيل الفراغ باحتلال أراضٍ سورية وقصف مخازن الأسلحة والمنشآت العسكرية في مختلف أنحاء البلاد.

هناكَ عاملٌ آخر يتمثل في غرور ترامب: فهو يتوقُ إلى مجدِ تأمينِ صفقةٍ كبرى بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وربما تعلّمَ من ولايته الأولى أنَّ الصفقة لا يُمكِن أن تتمَّ بدون موافقة فلسطينية وقبول عربي. وقد يكون استعدادُ ترامب للانخراط في الأمر ذا قيمة كبيرة اعتمادًا على المشاركة السعودية والفلسطينية. فقد قالت السعودية إنَّ التطبيع مع إسرائيل “غير وارد” حتى يصبح هناك طريق إلى الدولة الفلسطينية (وهو مطلب أقل من إقامة دولة ــ وهو ما وعدت به في العام 2002). كما تريد الرياض إبرام اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة والمساعدة في برنامجها النووي المدني في مقابل تطبيع علاقتها مع إسرائيل. وإذا كانت الرياض متحمّسة في السعي إلى التطبيع وجادة بشأن التقدم نحو فلسطين، فقد يضطر ترامب إلى تقديم اتفاق أفضل من خطته لعام 2020.

بعدَ كل المعاناة التي عاشها الفلسطينيون، فإنَّ مستقبلهم الأكثر ترجيحًا هو “لا حرب، ولا سلام”: مقاومة وقمع منخفض المستوى، ومواجهات مع المستوطنات الإسرائيلية المُتعدّية، وإغاثة إنسانية ضئيلة والتعافي، وواقع الدولة الواحدة الشبيه بنظام الفصل العنصري. يبدو أن تداعيات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) قد استنفدت الإمكانات والتبريرات اللازمة لشنِّ هذا النوع من النضال المسلح الذي كانت منظمة التحرير الفلسطينية تدعو إليه ذات يوم، ثم “حماس” و”الجهاد الإسلامي” الآن. ولكن الإيمان بحق الفلسطينيين في المقاومة من أجل تأمين حقوقهم الوطنية والإنسانية لم يمت بأيِّ حال من الأحوال في الرأي العام الفلسطيني والعربي والعالمي. وعلى هذا، ففي الأمد القريب، ما دامت إسرائيل تُعرقل أجندة الحقوق الوطنية الفلسطينية، فإنَّ هدف الدولة من المرجح أن يفسح المجال للمطالب المتزايدة من جانب الفلسطينيين تحت الاحتلال والمواطنين من الأقليات في إسرائيل بالمساواة والتمثيل والموارد والتدخّل القضائي والحرية السياسية.

لكي تُتاحَ الفرصة للنضال من أجلِ مستقبلٍ أفضل، يتعيّن على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وإسرائيل والشتات أن يَتَّحِدوا حول مهمّة مشتركة. ويتعيّن عليهم أن يكونوا على استعدادٍ للتخلُّص من المؤسسات والوسائل العتيقة المتقادمة للمقاومة من أجل مشروعٍ مُتجدّد لتقرير المصير الوطني يشترط إقامة علاقات فلسطينية مع إسرائيل على أساس السلام العادل والسيادة الحقيقية للشعب الفلسطيني في وطنه. ولكن هذه الحقوق لا ينبغي أن تكون مشروطة بتفاصيل تقنية لا نهاية لها، مثل إصلاح الحكم. بل يتعيّن على الفلسطينيين أن يُنشِئوا مؤسّساتهم الجديدة في إطار الدولة الفلسطينية المفترضة، باعتبارها العنوان المُوَحّد لوطنيتهم ​​وقدرتهم على التصرّف، في حين يُخففون ويُخفّضون من البؤس في غزة. في الوقت الحالي، قد لا تكون الدولة الفعلية خيارًا فوريًا لتحقيق الحقوق الفلسطينية. وإذا كانت هناك أي فرصة لمسارٍ حقيقي نحو الدولة الفلسطينية، كما تصوّرتها منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1988 وأيدها المجتمع الدولي، فسوف تحتاج الإدارة الأميركية إلى التصدّي للنوع الصهيوني الذي يتبنّاه أولئك الذين يتولون قيادة حكومة إسرائيل اليوم.

إنَّ الوحدة الفلسطينية والتجديد، جنبًا إلى جنب مع الموقف السعودي الذي يعزز قيام الدولة الفلسطينية، قد يضع إسرائيل وترامب في موقفٍ دفاعي ويُوفّرُ فرصةً أخيرة للتوصُّل إلى اتفاقٍ عادل على أساس حل الدولتين في المنطقة، إذا كان لا يزال قائمًا. ولكن إذا تخلت الرياض عن الفلسطينيين، كما فعل معظم العالم، فقد يكون خيارهم الأفضل هو ببساطة الصمود والبقاء على قيد الحياة في مواجهة مذبحة إسرائيل بأفضل ما يمكنهم، بدعمٍ من حلفاءٍ شجعان، مثل إيرلندا وجنوب أفريقيا، وتعاطُف عالمي متزايد.

  • رجا الخالدي هو خبير اقتصادي فلسطيني في مجال التنمية، والمدير العام لمعهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى