كيف تنشأ العلاقة بين الحاكم المُستَبِدّ والشعب
السفير يوسف صدقة*
أدّى سقوطُ نظام سلالة الأسد في سوريا، بعد معاناةٍ طويلة عاشها الشعب السوري في ظلِّ حُكمٍ تعسُّفي قاده حافظ وبشار الأسد خلال أربعة وخمسين عامًا، إلى تغيير المشهد السياسي في سوريا وفي الشرق الاوسط. حكم آل الأسد البلاد بالحديد والنار، في نظامٍ دكتاتوري قمعي، ازدهرت فيه أجهزة المخابرات التي تقوم بالتجسّس على بعضها وعلى الناس، وتتنافس في العنف وقهر المواطنين لنيل ثقة الحاكم.
إنَّ ما يُميّزُ النظام السوري والزعم أنه الوحيد في العالم حيث شَكّلَ مخابرات، سُمّيت بفرع المخابرات الجوية، والذي يمارس عمله مع أجهزة المخابرات الاخرى كالأمن القومي، أمن الدولة، المخابرات العسكرية … وقد نقل النظام السوري تجربة المخابرات الإلمانية الشرقية “ستاسي” (STASI)، لكنه تفوّق عليها بالقمع والتعذيب والقهر والبطش وإنشاء المتعقلات. ويعتبر هذا النظام القائم على الخوف والتخويف من أكثر الانظمة القمعية وقد يصل الخوف في العائلة الواحدة الى ان يتجسّس أفرادها على بعضهم البعض، كما ذكرت مراسلة التايمز السيدة كالاهان (وفق وثائق المخابرات). وقد تبيّن أنَّ اهتراء النظام من الداخل، والغضب الشعبي العارم من معاناة القهر والإذلال والموت، في السجون، هو الذي سرّع بسقوط النظام وذلك عبر التعاون بين المعارضة والتدخّل الخارجي. ونعرضُ في هذا التقرير إلى العلاقة بين الحاكم المتسلّط والشعب والذي يعتبر نفسه قائد الأمّة ومصدر قوتها وعظمتها، فهو الرجل المثالي والقائد الملهم الذي يحمل هموم الشعب والمولج، بمهمة الدفاع عن قوته وسعادته.
أ- العلاقة بين القائد والشعب : يعمل القائد على خلق إيديولوجية، تعتمد على الوعود البرّاقة بالسعادة والأمل، والتي تهدف الى رفع المعاناة عن الشعب والتخفيف من المصاعب الحياتية اليومية.
يقول عالم الاجتماع دكتور لافلون (Dr LAFLOND): “إن العلاقة بين الحاكم والشعب، قد تستمر في ما إذا كان الحاكم يتمتع بالقدرة على الاستمرار في إطلاق الوعود البرّاقة، بالسعادة والدفاع عن الأمة، إزاء المخاطر. فالقائد هو الذي يصنع إيديولوجيته وهو يتحكّم بالعلاقة مع شعبه بحيث لا يشعر الشعب بالحرمان من عطفه وأبوّته للأمة”.
فالقائد هو الإنسان الوحيد الذي يعرف مآسي الشعب، ويعرف كيفية ايجاد الحلول الملائمة، وهذا ما يقوّي العلاقة بين القائد والقاعدة الشعبية.
يعتبر عالم الاجتماع الأميركي رودني ستارك أن القائد والقاعدة الشعبية يتقاسمان الأرباح والأثمان في الحالة العادية. وقد تتطوّر إلى علاقةٍ تقوم على الإكراه، وهي مرحلة الإقناع بالضغط والقوة، وذلك لمراقبة الأتباع، واتِّباعِ نموذجٍ خاص لإيديولوجية النظام تقوم على الخضوع التام للقائد والإخلاص له، مما يتوجب على الفرد ان يُفضّلَ مصلحةَ الجماعة على حساب حريته وكرامته الشخصية.
فالفرد في الأنظمة الشمولية يخضع لتحديث أفكاره عبر نشر بروباغندا القائد أو الحزب الحاكم، في ظل تعايش جماهيري قسري تسمح فيه السلطة لأجهزتها التدخّل في حياة الفرد الخاصة.
ب- تقنيات السلطة في مراقبة المجتمع: تلجأ السلطة إلى تقنيات وآليات لاستقطاب المُريدين وقد تكون مُريحة في البداية، إلّا أنها قد تُهدّدُ نزاهته الفكرية والنفسية والجسدية في النهاية. نذكر في السياق بعض هذه الآليات، على سبيل المثال لا الحصر:
- بناء التماثيل وعرض صور القائد في الساحات العامة وفي المؤسسات الرسمية في أوضاع مختلفة: امتشاق السيف أو حمل البندقية – أو كالأب العطوف يحضن الأطفال أو يحضن خارطة الوطن الخ … وكذلك تأليف الاغاني الحماسية والأهازيج في مدح القائد المفدى؛
- مراقبة الجماعة ووسائل الإعلام الموجهة إليها عبر أجهزة النظام.
- مراقبة العلاقات بين أفراد المجتمع وتأثير النخبة الفكرية، في أدائها على مكوّنات المجتمع بشكلٍ عام.
- التلاعب الغامض بالأفكار، عبر الدعاية الموجَّهة، بحيث يقتنع أفراد المجتمع، بأنَّ القائد يمتلك قدرات فكرية وسياسية خارقة، كالتركيز على دور القائد في دوره الريادي في نيل الاستقلال إزاء المستعمر، أو دور القائد في قيامِ انقلابٍ على نظامٍ فاسد، أو قيامه بانقلابٍ تحت شعار “انشاء حركة تصحيحية” من أجل مصلحة الوطن والمواطن.
- يُطلَب من التابعين، الإخلاص للقائد، والاعتراف أمام الجميع في المؤتمرات الحزبية بالأخطاء واستلهام أفكار القائد لتصحيح المسار الفكري للجماعة.
- التعبئة الإيديولوجية، القائمة على اعتبار القائد بمثابة الشخص الوحيد، القادر على تسيير أمور الأمة، عبر التلاعب بمعاني ومسميات معروفة، مثل الدستور وآلية الانتخاب والتجديد الدائم للقائد، حتى يصل بعض المؤتمرات الشعبية المعبَّأ بالبروباغندا الهادفة والمدروسة، الى المطالبة بالتجديد للقائد لمدى الحياة، كما يطالب الخطباء المفوَّهون التابعون للنظام بمنح القائد السلطات الكاملة.
ج- سيطرة القائد على القاعدة: تُعتَبرُ التقنيات المذكورة أعلاه، أداةً لسيطرة القائد على كل تحركات التابع، كما يُحددها عالم الاجتماع دايف ليفتون، حيث يعمد القائد مع أزلامه، إلى استعمال تقنيات الغش والتخويف والتهديد للمواطن، كالتهديد النفسي والجسدي. يعتمد القائد على بروباغندا الحزب الحاكم ومؤسّسات السلطة الشمولية، حتى يصل الخوف بأغلبية الأفراد إلى الاعتبار بأنَّ اختفاءَ القائد، هو حدث غير قابل للتصديق: فهو الوحيد القادر على اتخاذ القرارات، وحلّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين. وهذا ما يمنح القائد السلطة لتكريس الهيمنة على أفراد السلطة الحاكمة.
إنَّ اعتمادَ تقنية الإقناع القسري، تؤدّي إلى تغيير حياة الناس، على الصعيد الفكري والمجتمعي. وهذا ما يُدخِلُ الفرد في أزمة الهوية، مما يجعل العلاقة تنحو إلى علاقةٍ وحودية مع الحاكم، بحيث يعتمد العنف الجسدي والمعنوي لإقناع التابعين بصوابية التبعية للزعيم القائد.
يصل المواطن أو التابع، وفق دكتور هيرمان، إلى أن يعتبر عمل القائد المخالف للدستور والقوانين عملًا شرعيًا، إذ ما اعتمد الحاكم الأسلوب العاطفي والحماسي في اقناع الشعب بصوابية نهجه (فالدستور هو صنيعة الفكر الغربي الاستعماري مثلًا).
د-نرجسية القائد وتبعية المواطن: تعتبر عالمة الاجتماع الألمانية مارية ميس، أنَّ نرجسية القائد هي حاجة للأتباع، بحيث هناك تكامل بين الاثنين، وأنَّ القائد يتمتع بمهمة قيادة الاخرين. وعلى المواطن ان يميز بين القائد الملهم والآخرين. تؤكد ميس أن هناك عشقًا مثاليًا ين القائد والتابع، بحيث يعمد القائد على تغيير شخصية التابع، وعبر التقليل من الاستقلالية الذاتية التي يتمتع بها الفرد، حتى يتأكد الزعيم من الطاعة الأساسية للتابع .
” يعلّم القائد شعبه عقيدة الإيديولوجية لمواطنيه، فيتبنّى التابع الإيديولوجية الحاكمة كمرجعٍ أساس للقرارات والخيارات والتصرفات”. يعتبر عالم الاجتماع الايطالي كاسوني أن التابع يخضع إلى سيطرة القائد، حيث يعتبره كمثلٍ أعلى. وفي بعض الأحيان، يفتقد الأفراد القدرة على التمييز بين الخطَإِ والصواب، بسبب التعبئة النفسية والإيديولوجية، بحيث يضمن القائد الولاء الكامل. إنَّ هذه العلاقة التكاملية بين الاثنين الطرفين تسمح للقائد واتباعه باللجوء الى العنف ضد فئات اجتماعية غير منضوية تحت راية القائد. يرغب القائد التأكد من عظمته وذلك عبر اختيار حماسة الشعب، بحيث يلجأ الى تقنية الاشباع النرجسي (NARCISSIC GRATIFICATION) فيما تمثلّه مثالية القائد. فيصبح التابع عندئذ متسامحًا إزاء تجاوزات القائد على صعيد الممارسات التعسّفية ضد الأخصام. فيركّز الإعلام الموالي للقائد بأنَّ الشعب لديه خيار واحد هو القائد المفدّى، والذي يحقُّ له أن يعيّن او يطرد من يشاء من السلطة الحاكمة.
يعتبر عالم الاجتماع كاسوني أنَّ العلاقة تبدو شبه منظمة بين القائد والتابعين له، وقد تتخذ منحى الإكراه والعنف بحيث يتحوّل القائد إلى خيار أساسي، لا غنى عنه في الوقت الحاضر والمستقبل، بحيث يعمل القائد على تعزيز العلاقة الخاصة والتفاعلية مع التابعين له.
تعطي غالبية الدراسات المنهجية حول القائد والتابع دورًا وأحجامًا مختلفة. فالقائد هو المعلّم والجلّاد وقد تصنّفه البروباغندا في بعض الأنظمة بنصف إله.
في المحصلة النهائية، فإنَّ القائد قد يتحوّل إلى دكتاتور في ممارسته للسلطة، بعدما يكون قد أنجز إيديولوجية النظام ونجحت بروباغندا السلطة في تعويم بطولاته. يقع الحاكم في أوهام جنون العظمة فلا يَعُد يفكر بالمستقبل او بمعاناة شعبه، فهو القائد مدى الحياة لأنه هم من أسس الدولة وصنع تاريخ الأمة، وبنى أمجادها. فمتى يدرك الحكام أنَّ للظلم نهاية وأن المحاسبة ستأتي عاجلًا أم آجلًا وأنَّ عليه أن يحكم من أجل مصلحة شعبه وليس خدمة لنرجسيته ومجده وأوهام العظمة.
- السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني نتقاعد.