لبنان: رئيسٌ جديد ومَسارٌ إنقاذيٌّ مَطلوب

الدكتور ناصيف حتي*

خطابُ القَسَمِ الذي ألقاه الرئيس جوزيف عون، والذي أشارَ في بدايته إلى أنَّ لبنانَ يعيشُ أزمةَ حُكمٍ وحُكّام، قَدَّمَ فيه رؤيته حولَ ولوجِ بابِ الإصلاحِ الشاملِ والمُترابطِ الأبعاد، من السياسي إلى الأمني الوطني، إلى القضائي والإداري والاقتصادي والاجتماعي، وإلى اعتمادِ مفهومِ الحيادِ الإيجابي في السياسة الخارجية لتحصين الأمن الوطني، وتعزيز العلاقات مع الأُسرة العربية.

اعتمادُ استراتيجيةِ الإصلاحِ الشامل أمرٌ أكثر من ضروري، ولم يَعُد من المُمكِنِ تأجيله، حتى ينطلق  مسار الإنقاذ الوطني الذي دعا إليه خطابُ القَسَم الرئاسي. فلم تَعُد تنفع  سياسة المراهم، بل هناكَ حاجةٌ ل”عمليةٍ جراحية” لإطلاقِ المسارِ المطلوب. الإصلاحُ الذي يطالُ مختلف أوجه مسؤوليات وأدوار ووظائف الدولة في الحياة الوطنية. الإصلاحُ الذي يعني أساسًا الانتقالَ من نظامٍ يقومُ على شخصنةِ السلطة وعلى الطائفية السياسية إلى نظامٍ يقومُ على مأسسةِ السلطة وتعزيزِ الحَوكَمة الرشيدة والمُساءلة والشفافية، وهي أمورٌ تُعزّزُ مفهومَ المُواطَنة ودورَ ووظيفةَ دولة المؤسّسات لا دولة المُحاصَصة التي هي نقيضٌ لدولة المؤسّسات؛ الشرط الضروري لتعزيز مفهوم الدولة الوطنية على حساب فيدرالية الأمر الواقع التي تُعزّزُ وتتعزَّزُ على الطائفية السياسية. فيدرالية زعماء الطوائف، وإن زادت أو تراجعت بعض الشيء قوّة هذا الطرف أو ذاك  في مرحلةٍ مُعَيَّنة، تتحكّم بأشكالٍ مختلفة بالدولة في لبنان، وتُضعِفُ منطقَ الدولة وثقافة الدولة في الحياة الوطنية. الأمرُ الذي جعل لبنان بسبب هشاشة البنيان السياسي مُنكَشفًا على صراعات الخارج وجاذبًا وجاهزًا لأن يكونَ ملعبًا لتلك الصراعات بقواه السياسية المختلفة أيًّا كانت العناوين التي تحملها هذه القوى. إنَّ هشاشةَ الإجماع اللبناني، وضعفَ الدولة الفعلي، والجاذبيةُ الجغرافية السياسية لموقع لبنان، كلُّها جعلت التنوّع السياسي والعقائدي والاجتماعي مصدرًا للضعف بدل أن يكونَ مصدرًا للغنى وبالتالي للقوّة، في ظلِّ غيابِ دولة المؤسّسات الفعلية والفاعلة. خطابُ القَسَم يمكن اختصاره بأنه يُشكّلُ مشروعًا  للعودة إلى استنهاضِ وتطوير دور الدولة في كافة مهامها ومسؤولياتها لتكون على مستوى التحدّيات القائمة والمقبلة، الداخلية والخارجية. تحدّياتٌ تُغذّي وتتغذّى بعضها على البعض الآخر .

الشرطُ الثاني بعد انتخابِ رئيسٍ للجمهورية يملكُ الإرادة والرؤيا للإصلاح ويعي كما دلت كلمته مخاطر التسويف والتأخير في ولوج طريق الإصلاح يقتضي تأليف حكومة، سمّيناها دائمًا في الظرف الذي يعيشه لبنان ب”حكومة مهمّة” (بعد تكليف القاضي نواف سلام برئاستها). حكومةٌ لا تقومُ على مفهوم المحاصصة بين القوى المشاركة في السلطة تتنافس وتتنازع بين أطرافها على تقاسُم “قالب الحلوى” في ممارسة السلطة عبر توزيع المنافع والمغانم أيًّا كانت العناوين الوطنية التي سيَدّعي هذا الطرف أو ذاك المشارك في الحكومة أنه يعملُ على خدمتها.

المطلوب تشكيل ما يُعرَف ب”حكومة مهمّة” تعملُ بالتنسيق مع رئيس الدولة على ترجمة ما دعى إليه في خطاب القَسَم إلى سياسات وبرامج إصلاحية. الأمرُ الذي يوقف مسارَ الانهيار ويُحصّن المجتمع والدولة، ويُعيدُ ثقة المواطن اللبناني ب”الدولة العائدة” والعادلة. كما يُعيدُ هذا الأمر ثقة “الخارج” الشقيق والصديق بلبنان. الأمر الذي. يساهم في إعادة تعزيز المناعة الوطنية في الداخل وتجاه الخارج في فترةٍ يعيشُ فيها الخارج القريب تغيّرات عديدة لم تتضح بعد كافة معالمها.

الشرطُ الثالث الأكثر من ضروري أيضًا يستدعي وَضعَ جدولٍ زمني مع خريطة طريق في إطلاق “ورشة” الإصلاح المطلوب والمُتعدّد الأبعاد .فالوقتُ عنصرٌ ضاغطٌ، كما إنَّ كلَّ تاخيرٍ يحملُ مزيدًا من التكلفة على الوطن والمواطن. مسارٌ ليس بالصعب النجاح به إذا ما توفّرت الإرادة الوطنية، سلطةً ومجتمعًا على ولوجه.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى