من مِذْوَدِ وِلادَتِكَ إِلى قِيامَةِ لبنان

هنري زغيب*

قالُوكَ تُولَد في مذود.. ووسَمُوه “حقيرًا” ليكبُروا بتواضعك ويخشعَ أَمامه الملوكُ الروحيون والزمنيون في كل زمن.. ولاحقًا سيفتَتح يوحنا تبشيرَه بالآية الساطعة: “في البدء كان الكلمة، والكلمةُ كان عند الله، وكان الكلمةَ الله”.. فيا سُبحان كلمتكَ حين ستقولها للعالَمين بعد ثلاثين..

وقالُوكَ تفتَتح أُلوهتكَ في لبنان يومَ عرس قانا حيث تكونُ أُمكَ في انتظاركَ فتطيعُها وتُغيِّر مجرى الزمان منصاعًا لِمشيئتها فتجترحُ أُعجوبتكَ الأُولى ولن تكون أَتَتْ ساعتُكَ بعد، كما سيَنقُل على لسانك يوحنا..

ويكونُ أَن يجتذبَكَ لبنان إِنسانًا فإِلهًا، فعتمدَ في نهر الأُردن النابعة مياهه من ثُلوج على حرمون الـمُتَوِّجِ جنوبَ لبنان..

ويكونُ أَن تهنأَ إِلى جنوب لبنان، فيكتب مرقس أَنكَ تزور صيدا وصور والصرفند (سربتا) مبشِّرًا ومستريحًا بعيدًا عن “غلاظة الفرِّيسيين”..

ويكونُ، وأَنتَ في صيدا، أَن تلمسَ إِيمانَ المرأَة الكنعانية فتَشفي لها ابنتَها من مسِّ الجنون، كما سيذكُر متى..

ويكونُ أَن ترافقَكَ مريم أُمُّكَ في بعض جولاتكَ التبشيرية، وتنتظركَ في مغارةٍ عند تلَّةٍ على شط لبنان تهنأُ عليها اليوم كنيسةٌ قامت على أَنقاض معبد عشتروت، هي “سيِّدة الـمَنْطَرة” في مغدوشة، كما يجري التواتُر جيلًا عن جيل..

ويكونُ، بعد تجوالكَ في قيصرية فيلبُّس، أَن تصطحبَ تلامذتَكَ بطرس ويعقوب ويوحنا وترقى بهم “إِلى جبلٍ عالٍ منفردين” كما سيقول متى، فيصبحُ منذئذٍ “الجبل المقدس” الذي اسمُه حرمون، تُطلُّ منه على لبنان وسائر فلسطين، ويُكْملُ الجبلُ نبوءَة بن سيراخ بلسان الحكمة التي “ارتفعَت كالسَرو في حرمون وكالأَرز في لبنان”..

هكذا قالوكَ، منذ أَنتَ في المذْود، سيكون لكَ موطئٌ آمنٌ في لبنان شاطئًا وجبلًا ومُدُنًا وأَعاجيب..

غير أَنَّ أَمانه لم يكن أَرضًا هانئة.. ففرِّيسيُّو العصر دنَّسوا جنوبه الذي قدَّسَتْهُ قدماكَ فقذفُوه بصواريخهم ودباباتهم وفوسفورهم سفَّاكين مدمِّرين..

لكنَّ لكَ في لبنان سماءً لا تُدَنِّسُها خيانات.. ولبنان في رحابتكَ الروحانية أَقوى منه جغرافيًا وبشريًّا، وأَنتَ أَدرى، وستغفِر وتبارِكُ مَن فيه وما فيه، وتشهَد على ما يَجرحُه ومَن يتطاوَل عبثًا على صمود أَرزه..

فيا ما “أَلطفَ” يوضاسَكَ (يخونُكَ مرةً في بستان الزيتون) أَمام يوضاسيين في لبنان خانُوه سبعين مرةً سبعَ مرات في بساتين الآخرين ولم يَرعَوُوا بعد..

ويا ما “أَهْوَن” بُطْرسَك (يُنكرُكَ ثلاثَ مراتٍ قبْل صياح الديك) أَمام بطارسةٍ في لبنان أَنكَروا هُويَّتَهم لا ثلاثَ مراتٍ قبْل صياح الديك بل ثلاثينَ مرةً ثلاثَ مراتٍ قبل صياح الضمير ولم يَصْحُ بعدُ فيهم ضمير..

ويا ما “أَسهلَ” بيلاطُس (يُرسلُكَ في أَربع عشْرة مرحلةً إِلى الجلجلة) أَمام بلاطُسيين في لبنان ما زالوا يُرسلونه مراحلَ بعد مراحلَ إِلى جلجلةٍ أَقْتَلُ ما فيها أَنهم يَدَّعون العمل على خلاصه فيما هم صالِبُوه..

يا طفل المغارة:

أَرى إِليكَ في مذودٍ خشبيٍّ فيَتراءَى لي في خشَبه صليبٌ ستصرُخ عليه وأَنت نازف: “إِغفِر لهم يا أَبتِ لأَنهم لا يَدرون ماذا يفعلون”.. يومَها، وأَنت تَصرخُها، تَذَكَّرْ لبنان وما كان لكَ فيه من حُضُور، ولا تَسْتَثْنِ جَلَّاديه لأَنهم يَعرفون تمامًا ماذا يَفعلون..

وإِذ تتذكَّر لبنانَ على الصليب، أُذكُرْهُ وأَنتَ تلتفتُ إِلى اللص اليمين كي تَعِدَهُ بالجنَّة، وَ… صَلِّ لوطني أَن ينزِلَ معكَ عن الصليب، ثم ينهضَ معكَ، ويتدحرجَ عن صدره الحجرُ فيمزِّقَ أَكفانَه ويُشرقَ ساطعًا عليه فجرُ القيامة في يومه الثالث.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى