السعودية تُوَسِّعُ حملاتَ مُكافَحةِ الفَساد على الكبيرِ والصغير

ما بدأ بشكلٍ دراماتيكي في العام 2017 تطوّرَ إلى حملةٍ مُتواصِلة لمُكافحة الفساد، ما وضع المملكة العربية السعودية على الخارطة الإقليمية في هذا المجال.

21 دولة وقعت على إتفاقية مكة لمكافحة الفساد.

أميمة شلبي وروبرت بيشيل*

قبل سبع سنوات، أطلق وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان حملةً واسعةً لمكافحة الفساد. امتدّت هذه الحملة حتى العام 2019 وأسفرت عن توقيف مئات الشخصيات البارزة بتُهَمٍ شملت غسل الأموال والرشوة والابتزاز وغيرها. ويُقدَّر أنّ الحملة نجحت في استعادة أصول إلى خزانة الدولة تفوق قيمتها 100 مليار دولار.

رُمِيت هذه الحملة وقوبلت بتُهَمِ التسييس والتذرّع بمزاعم الفساد من أجل استهداف الخصوم السياسيين. كما تعرّضت لانتقادات بسبب “غياب الإجراءات القانونية” وطبيعة التسويات “خارج إطار المحاكم”. مع ذلك، يبدو أنّها لقيت صدى إيجابيًا في أوساط بعض شرائح المجتمع السعودي التي لطالما اشتكت من استشراء الفساد. وعلى مدى السنوات السبع الماضية، استمرّت جهود مكافحة الفساد في المملكة في التطوّر والتقدّم، ما يؤشّر إلى أنّ تلك الحملة لم تكن حدثًا عابرًا، بل بداية مسار أوسع وطويل الأمد يهدف لمحاربة الفساد والتربّح غير الشرعي.

وخلال العقد الذي سبق العام 2017، حقّقت السعودية تقدّمًا تدريجيًا في أجندة مكافحة الفساد. فقد تأسّست هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة) في العام 2011، لتصبح الجهة العليا المعنية بمكافحة الفساد في المملكة. وفي 2013، صادقت السعودية رسميًا على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي كانت وقّعت عليها في الأساس في العام 2004.

استمرّت الملاحقات القضائية التي استهدفت كبار المسؤولين منذ 2019 على سبيل المثال، تمّ في كانون الثاني (يناير) 2024  توقيف رئيس الهيئة الملكية لمحافظة العُلا، المسؤول عن تطوير المنطقة الشمالية الغربية التاريخية في المملكة بتُهَمٍ تتعلّق بتبييض الأموال وسوء استغلال السلطة. وفي قضيةٍ أخرى حديثة، حُكِمَ على مسؤولٍ أمني سابق بالسجن عشر سنين وغُرِّمَ مبلغ مليون ريال سعودي (حوالي 260 ألف دولار)، وأُمِرَ بإعادة مبالغ مالية وعقارات بملايين الريالات كان قد حصل عليها من رشاوى وأموال مختلسة.

إلى جانب استهداف “الرؤوس الكبيرة”، كثّفت المملكة جهودها لاجتثاث الفساد على المستويات الأدنى أيضًا. ففي العام 2018، جرى تعديل نظام مكافحة الرشوة، الذي كان أُقرّ لأوّل مرة في العام 1992، ثمّ وُسِّعَت صلاحياته في العام 2021 ليشمل أيضًا القطاعات الخاصّة وغير الحكومية. في الوقت نفسه، عزّزت هيئة “نزاهة” عملياتها، وأطلقت حملة مكثّفة تستهدفُ موظفي القطاع العام. اليوم، يُعدُّ موظفو القطاع العام السعودي الأكثر عُرضةً للملاحقة القضائية على خلفية قضايا فساد على مستوى الشرق الأوسط. ووفقًا لأحدثِ تحليلٍ يستند إلى بياناتٍ مُستَخلَصة من وكالات مكافحة الفساد الوطنية، فإنّ احتمالَ تعرّض الموظفين العامين في السعودية للمحاسبة أو الملاحقة القضائية على خلفية قضايا فساد يبلغ نحو واحد من بين 658 موظفًا في السنة. ويُعتبر هذا الرقم إيجابيًا مقارنةً بهونغ كونغ (1 من 845) وسنغافورة (1 من 1,000). كما تتفوّقُ المملكة في هذا المؤشر على كثيرٍ من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مثل الأردن (1 من 1,251)، وفلسطين (1 من 4,839)، والكويت (1 من 66,267).

وقد شهدَ القضاءُ حملةَ إصلاحاتٍ واسعة أيضًا في خلال العقد الماضي، كما فرضت المملكة أخيرًا عقوبات مشدّدة على ممارسات الفساد والأنشطة غير المشروعة في القطاع العام. وبموجب القوانين الجديدة المُنظِّمة لهيئة “نزاهة”، فإنّ موظفي القطاع العام الذين يُدانون بتُهَمِ الفساد سيُفصَلون من وظائفهم. ويتضمّن التشريع الجديد إجراءات أكثر صرامةً للحدّ من الإثراء غير المشروع في القطاع العام، ويعكس التزامًا بتعزيز جهود مصادرة الأصول. ويشمل ذلك بدء إجراءات استعادة الأصول في حال فرار مشتبه به أو وفاته، واحتمالية التوصّل إلى اتفاقيات تسوية مع السلطات في بعض الحالات.

إلى ذلك، شهدت المملكة تطوُّرًا ملحوظًا في مجال حماية الشهود والمُبلّغين عن الفساد، حيث أصدر الملك سلمان بن عبد العزيز مرسومًا ملكيًا في العام 2018  يضمن حماية المُبَلِّغين عن الفساد من أيِّ إجراءاتٍ تأديبية أو تداعيات سلبية. كما أقرّ مجلس الوزراء في شباط (فبراير) 2024 نظام حماية المُبَلِّغين والشهود والخبراء والضحايا.

وقد أسهمت هذه الإجراءات، إلى جانب حملات التوعية العامّة المُكثّفة التي أطلقتها هيئة “نزاهة”، في تحقيق نتائج ملموسة، لا سيّما في تشجيع المواطنين على التقدّم بشكاوى تتعلّق بالفساد. وقد سجّلَ عددُ هذه الشكاوى ارتفاعًا ملحوظًا اعتبارًا من العام 2019، حيث بات السعوديون أكثر استعدادًا للإبلاغ عن قضايا الفساد مُقارنةً بنظرائهم في دول المنطقة.

اللافت أنّ هذا الارتفاع لم يقتصر على المناطق الحضرية، إذ تُشيرُ البيانات التفصيلية المُوَزَّعة حسب المناطق إلى أنّ معدّلات الإبلاغ عن الفساد كانت مرتفعة في المناطق الريفية ذات الكثافة السكانية المنخفضة، تماماً كما في المدن الكبرى مثل الرياض وجدّة.

نظرًا لصعوبةِ قياس مستوى الفساد الفعلي في أيِّ دولة من الدول لأسبابٍ منهجية ومعرفية مُتعدّدة، غالبًا ما يستعيضُ علماء الاجتماع عن ذلك بآراء المواطنين حول الفساد. ووفقًا لهذا المقياس، يبدو أن جهود السعودية في مكافحة الفساد تؤتي ثمارها. تتسّمُ مؤشّرات الفساد العالمية، مثل مؤشرات الحوكمة العالمية الصادرة عن البنك الدولي أو مؤشّر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، بالثبات النسبي وصعوبة تغيّرها بشكل ملحوظ بمرور الوقت. ومع ذلك، سجّلت السعودية تحسّنًا تدريجيًا على مؤشَّر مدركات الفساد، حيث سجّلت 52  من أصل 100 في العام 2023، مقارنةً ب49  في العامين 2017  و2018. وهذا يفوق بكثير متوسّط دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، البالغ 33.

إلى ذلك، سُجِّلَ تراجُعٌ كبير في التصوّرات العامة حول مدى انتشار الفساد في البلاد. فبحسب استطلاعات برنامج “المؤشّر العربي” لقياس الرأي العام، انخفضت نسبة السعوديين الذين يعتقدون أنّ الفساد المالي والإداري منتشرٌ إلى حدّ كبير أو متوسّط في بلادهم من 60 في المئة في العام 2016 إلى 23 في المئة في العامين 2021  و2022. وفي السياق ذاته، سجّلت نسبة السعوديين الذين يعتقدون أنّ الحكومة جادّة جدًّا في مكافحة الفساد المالي والإداري زيادةً ملحوظة، حيث ارتفعت من 56  في المئة في العام 2016 إلى 71 في المئة في العامين 2021  و2022.

وفي حين أنّه من المهم الإشادة بجهود المملكة في مكافحة الفساد، لا يزال بإمكانها إحراز المزيد من التقدّم في هذا المجال. فلا بُدَّ من تكثيف الجهود للحدّ من مخاطر الفساد في بعض القطاعات، مثل إدارة الأراضي والدفاع. ومن الضروري أيضًا أن تعالج التحدّيات الناشئة عن محدودية التنسيق بين المؤسسات المختلفة، وهي قضيةٌ لطالما شكّلت تحدّيًا لهيئة “نزاهة”. وفيما ترفع الهيئة تقارير جيدة حول جهودها في مجال مكافحة الفساد، مُقارنةً بالدول الإقليميّة الأخرى، فهي لا تزال بحاجة لزيادة الشفافية، بالأخصّ في ما يتعلّق بالإفصاح عن ميزانيتها وتركيبة موظفيها. إلى ذلك، من الضروري تعزيز دور منظّمات المجتمع المدني في جهود مكافحة الفساد في المستقبل.

تُثبتُ التجاربُ العالمية أنّ جهود مكافحة الفساد الأكثر فعّالية تعتمد على التقدّم المتواصل والتدريجي مع مرور الوقت. وعلى الرغم من أنّ الجهود السعودية بدأت بقوّة من خلال حملة بارزة شملت اعتقالات رفيعة المستوى واستعادة للأصول، إلّا أنّ المملكة واصلت تقدّمها بثبات على جبهات متعدّدة. ويبدو أنّ هذه الجهود تؤتي ثمارها، وقد تصبح السعودية في المستقبل نموذجًا يُحتذى به لبقية دول المنطقة.

  • أميمة شلبي هي زميلة زائرة في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. تخرّجت أخيرًا من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، حاملةً شهادة الماجستير في اقتصاديات التنمية. تشتمل مواضيع بحثها على الفساد، والحوكمة، واقتصاديات التنمية، وريادة الأعمال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
  • روبرت بيشيل هو زميل أوّل غير مقيم في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وهو يقدّم أيضًا استشارات بصفة مستشار أوّل حول الحوكمة وإدارة القطاع العام للبنك الدولي وعدد من الشركات الاستشارية المرموقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى