إِدغار آلن پُــو: 9 احتمالات لموته المأْساوي الغامض (2 من 4)
هنري زغيب*
من المُبدعين (أُدباء، شعراء، فنانين، أَعلامًا،…) مَن يُثيرون جدلًا في حياتهم بين سيرتهم الخاصة والشخصية ومسيرتهم المهنية، فتدور حول حياتهم تفاسيرُ وأَقوال واحتمالات وتقديرات وتنظيرات.
ولكنَّ من النادر أَن يثير موتُ مبدعٍ أَقوالًا واحتمالاتٍ حول سبب وفاته أَو ظروف ميتته. وهذه حال الشاعر الأَميركي إِدغار آلِن پُو Poe عن وفاته في ظروف مأْساوية غامضة ما زالت حتى اليوم تُسِيل آراء وتكهنات.
هذا المقال من أَربع حلقاتٍ عرضْتُ منها في الحلقة الأُولى مقدِّمةً وأَوَّل هذه الاحتمالات.
وهنا احتمالان آخَران في هذه الحلقة الثانية.
- الإِرغام على التصويت
يرى بعض المحلِّلين أَنَّ پـو وقع ضحيةَ ظاهرةٍ راجت في الولايات المتحدة إِبان القرن التاسع عشر، وهي دَفْعُ جمْعٍ من المأْجورين إِلى تهديد مواطنين بالقوَّة، أَو خطْفهم أَو ضَربهم، لإِرغامهم على التصويت لِمرشَّحٍ معيَّن، ثم تمويههم مجدَّدًا بملابس أُخرى ومظهر آخَر ليعودوا إِلى قاعة الانتخاب كي يَقترعوا للمرشَّح ذاته بـ”بطاقة انتخاب” مزورة أُخرى. وثَبُتَ لاحقًا أَنَّ تلك الظاهرة انتشرت كثيرًا في بالتيمور تحديدًا، نحو منتصف القرن التاسع عشر، والدليل واضح بأَن جوزف ووُكِر وجَد الشاعر پـو مرميًّا مترنِّحًا على باب القاعة التي كان يجري فيها الانتخاب. وتبيَّن أَن مدخل هذه القاعة كان محطَّ أُولئِك المأْجورين، لإِرغام الناخبين على الخضوع لارتكاباتهم المؤْذية. وهذا ما يفسِّر المظْهر الغريب الذي كان عليه پـو، وكيف وجدَه جوزف وُوكِر نهار الانتخاب.
الشاعر الضحية
مع تَعَدُّد الاحتمالات حول سبب الوفاة، يبدو منطقيًّا هذا الاحتمالُ بأَن يكون الشاعر ضحية تلك الظاهرة المُؤْذية. وانتشر هذا الاحتمال واسعًا حتى تبنَّاه باحثُون كثيرون. وقبل أَن تتَنَبَّهَ الدولة وتعْمَدَ حازمةً إِلى مكافحة هذه الظاهرة، كان المأْجورون يُغْرون الناخب بإِهداهم مجانًا كُؤُوسَ الخمر تكرارًا حتى يُتعتعَهم السُكْر. وقد ينطبق هذا على الحالة التي كان فيها پــو من التيَهان والضَياع والهذَيان والسُكْر كي يقترع مرةً بعد مرة، وكلّ مرةٍ في مظهر آخَر.
سنة 1877 تلقَّى جون هنري إِنغْرام (كاتبُ سيرة الشاعر) عددًا من الرسائل ترجِّح إِمكان سبَب الوفاة بهذا الشكل الـمُذِلّ. وبين ما تلقّاه إِنغْرام: رسالة من الـمُحاضر في جامعة جون هوبْكِنْز البروفسور وليام هاند بْراون (1828-1912) جاء فيها: “أَظن أَنَّ هذا الاحتمال منطقيٌّ، وأَن يكون الشاعر نهار الانتخاب وقعَ بين أَيدي أُولئك المأْجورين فاعتقلوه وأَسكَروه وأَرغموه على الدخول مجدَّدًا للاقتراع، ثم تركوه متكوِّمًا عند باب قاعة الانتخاب (تفصيل الحادثة ورد في الحلقة الأُولى من هذا المقال) ومن يومها راحت صحته تتدهور حتى أَدَّت إِلى وفاته البائسة.
- الجرعة الزائدة من الخمْر
يؤَكِّد كريستوفر سِمْتْنِر (مدير “متحف إِدغار آلِن پــو” في ريتْشْموند – ولاية فرجينيا) أَنَّ “مؤَرخين كثيرين ركزوا تحليلاتهم مع الوقت على أَن پـو لم يكن يحتمل الخمر فكان بعد أَول كاس يضيع ويشعر بالدوار الشديد، وكذا شقيقتُه كانت تعاني الانزعاج ذاته، ما يدلُّ على أَن الظاهرة وراثيةٌ في الأُسرة”.
وكان الشاعر، قبل وفاته، عضوًا في جمعية للمداواة من مفاعيل الـمُسكرات، شفاءً مما عانى منه طيلة حياته. وهي ذي الكاتبة سوزان آشِر وايس، في كتابها “إِدغار آلِن پــو في أَيامه الأخيرة”، تسرُد حادثةً نحو الفترة الأَخيرة من حياته في ريتْشْمونْد تؤَكِّد على نظرية مَن يعتبرون إِدمان الكحول سببًا في وفاته. والحادثة: مرض پـو في ريتشموند، وبعد فترة أَبَلَّ من مرضه الخطِر فحذَّره طبيبُه من الكحول لأَن وقوعه في المرض مجدَّدًا سيَقضي عليه. فكان جوابه واضحًا: “إِن لم يُرغمني أَحد عليه قسْرًا، فلن أَعود إلى الخمْر”.
لكنه سقط في الخمْر ولو قسرًا
المقرَّبون منه في أَيامه الأخيرة كانوا مقتنعين بأَنه وقع في إغراء التجربة واحتسى من الـمُسكرات ما أَوقعه في الحالة البائسة التي انتهى إِليها. ومن تلك الوثائق المباشرة: شهادةُ صديقه المقرَّب في بالتيمور جون بِنْدِلْتون كيندي (1795-1870)، إِذ كتب في 10 تشرين الأَول/أُكتوبر 1849: “الثلثاء الماضي توفي إِدغار آلِن پــو هنا في المستشفى بسبب إِدمانٍ زائد وإِهمالِ صحته. ويبدو أَنه وقع في شرَك مجموعة طافرين أَغروه بالخمر بعدما كان طلَّق السُكْر قبلذاك بفترة طويلة، فبدأَ يعاني من حمَّى زائدة وضَياع ونوبات جنون خارجة عن وعيه وإِرادته حتى دفع حياته بعد أَيامٍ بسبب ذلك معزولًا في غرفة مستشفى… مسكين پــو… كان مبدعًا لكنه انتهى كما ينتهي المشرَّدون”.
نظرية افتراضية
هذه الظاهرة بأَنه تُوفي بسبب جرعة زائدة من الكحول لا تشرح غيابه خمسة أَيام غامضةً قبل ذاك النهار المشؤُوم (3 تشرين الأَول/أكتوبر)، ولا تبرِّر مظهرَه لابسًا ثيابًا رثَّة عتيقة ليست له. والأَرجح أَنها نظرية افتراضية عمَّمَها جوزف سْنُودْغراس (الذي كان أَول من وَجَدَه على باب قاعة الانتخاب) وهو كان عضوًا في جمعية تحظِّر تناول الـمُسكرات، وراح يلقي محاضرات في أَماكن عدة أَن الشاعر مات من جرعة خمر زائدة. لكن العلْم الحديث كذَّب نظرية سْنُودْغراس لأن عيِّنة من شَعر پــو بعد وفاته أَثبتَت نسبة قليلة من الخمر في دمه ، ما يدلُّ على أَن الشاعر ظلَّ وفيًّا لوعد امتناعه عن الـمُسْكرات حتى كان ذاك النهار المشؤُوم.
في الحلقة الثالثة من هذا المقال: احتمالاتٌ أُخرى لسبب الوفاة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.