ترامب العائد والشرق الأوسط
الدكتور ناصيف حتي*
يختلفُ المراقبون حول ما ستكون عليه السياسة الأميركية في المنطقة مع عودة دونالد ترامب الى البيت الابيض، وفي ظلِّ الحربِ الدائرةِ من غزة إلى لبنان والحاملة لمخاطر الانزلاق نحو حربٍ إقليمية. يقولُ البعضُ أنَّ سياسةَ ترامب لن تكونَ أسوَأَ من سياسةِ ادارة جو بايدن في ما يتعلّقُ بالموقف وبالتعامل مع هذه الحربِ المفتوحةِ في الزمان والمكان. من ناحيةٍ أُخرى يَعتَبرُ بنيامين نتنياهو أنَّ هناكَ إرثًا كبيرًا من المكاسب التي تمَّ تحقيقها مع إدارة ترامب الأولى، الأمرُ الذي يُشجّعُ حكومةُ إسرائيل على الاستمرارِ في سياسةِ التصعيدِ العسكري. من أهمِّ تلك المكاسب المواقف الخاصة بالصراعِ الفلسطيني-الإسرائيلي، الذي لم يَكُن على رأسِ جدولِ القضايا الإقليمية الساخنة حينذاك، تأييدُ ترامب واعترافه بضمِّ القدس الشرقية ومرتفعات الجولان إلى إسرائيل. الأمرٌ الذي وُصِفَ حينذاك أنه بمثابة “هدية” من ترامب لإسرائيل بالطبع من “كيس” العرب. وهو ما شَكّلَ خرقًا فاضِحًا لمبادئ القانون الدولي ولقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، والتي أيّدتها الولايات المتحدة بالطبع، ولم تَحُل دون صدورها من خلال اللجوء الى استعمال حق النقض (الفيتو).
من جهةٍ أخرى يقول الرئيس العائد إلى البيت الأبيض إنه سيُحقّقُ السلامَ في المنطقة: بالطبع هو عنوانٌ أو شعارٌ لا تُعرَفُ بَعد المضامين التي يشيرُ إليها. كما يرى كثيرون أنَّ التوصُّلَ إلى وقفِ إطلاق النار على الجبهة اللبنانية ذات الأهمّية القصوى لإسرائيل، مُقارنةً بجبهةِ غزة، بسبب القدرات التي تتمتّع بها الأطراف المُمسِكة بها تحت عنوان “وحدة الساحات” وأيضًا العُمق الاستراتيجي لتلك الجبهة، لن يكونَ بالأمرِ السهل. ستستمرُّ إسرائيل في حربها المُتصاعدة في الجغرافيا والأهداف لتحقيقِ أقصى ما يُمكنُ من مكاسب في الفترة الانتقالية التي يصفها البعض ب”الرمادية” حتى تَسَلُّم الرئيس الأميركي المُنتَخَب السلطة في العشرين من كانون الثاني (يناير) المقبل.
الشروطُ الإسرائيلية لتحقيقِ وقف إطلاق النار، ردًّا على المبادرة الأميركية في هذا الخصوص والتي يلحَظُ بعضُها كنقاطٍ للتفاوض، لا تسمحُ بالفعل باستكمال تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم ١٧٠١ وذلك لاحتفاظ إسرائيل، حسب أحد هذه الشروط، بحقِّ خرق هذا القرار تحت عنوان حماية أمنها في وجه المخاطر التي تراها. هناكَ تفاؤلٌ عند البعض باحتمالِ حصولِ خَرقٍ ديبلوماسي والتوصُّل إلى وقفِ إطلاق النار وتراجُعِ إسرائيل عن تلك الشروط والعودة الى اقتباس بعض قواعد تفاهُم نيسان (أبريل) للعام ١٩٩٦ خصوصًا تلك المُتعلقة بمجموعةِ المراقبة. ولكنه يبقى أمرًا ضعيفًا في ظلِّ غيابِ ضغطٍ دوليٍّ فاعلٍ على إسرائيل بخاصة من طرف الولايات المتحدة. ويرى البعضُ أنَّ إسرائيل قد تُقدِّمُ “هدية” وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية وتولّي الجيش اللبناني السيطرة الكاملة والكُلّية على المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني بالتعاون مع قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان “اليونيفيل”، إلى إدارة ترامب حال تسلم مسؤولياتها: “هديةٌ” مقابل حصول إسرائيل على مزيد من الدعم الأميركي لعملية ضم الضفة الغربية، مثل الاعتراف بسيادة إسرائيل على المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، كما يُشيرُ بعضُ التسريبات الإسرائيلية أخيرًا، الأمرُ الذي سيزيد من احتمالاتِ التوتُّرِ وتسخين الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية خصوصًا في الضفة الغربية التي هي قلب الصراع والحاملة لتداعياتٍ كثيرة مختلفة الأوجُه والأطراف التي تتاثر بتبعاتها وتلك التي قد تستطيع توظيفها في الصراعات في الإقليم.
ستأتي إدارة ترامب إلى السلطة في فترةِ غليانٍ إقليمي قابلٍ للتوسُّعِ بأشكالٍ ودرجاتٍ مختلفة وقابلٍ للاحتواء. وهذا الأمرُ الأخير يتطلّبُ توجُّه واشنطن، بالتعاون بالطبع مع القوى الدولية والإقليمية الأُخرى المؤثّرة في المنطقة ولو بأوزانٍ مختلفة، إلى الانخراطِ الفاعل في بلورةِ تسوياتٍ لإطفاءِ الحرائق المُشتَعلة وتبريدِ النقاطِ الساخنة. تسوياتٌ يعتمدُ نجاحها واستمرارها على احترامِ الأُسُس والمبادئ التي تُعالِجُ المُسبِّبات الفعلية لتلك الحرائق.
فهل تكونُ ادارة ترامب الثانية استمرارًا شبه كلّي في رؤيتها وتعاملها مع القضايا الساخنة والمتشابكة في الإقليم، وبعض من اختيروا لمواقع أساسية في الادارة المقبلة يدفع للحديث عن الاستمرارية، أم إنَّ دروسَ الماضي والمُعطيات الجديدة قد تدفعُ إلى مُقارباتٍ مختلفة، مقارباتٌ ليست بالضرورة نقيضةً كلّيًا للمقاربات السابقة ولكنها مستفيدة من دروسها لإعادة تصويب المسار؟ هذا ما سنشهده أو نشهد بدايته بعد شهرين من الزمن.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).