عُدْ يا سعد
رشيد درباس*
لا أحد أكبر من بلده
رفيق الحريري
انجَلَت الانتخابات الأميركية عن فوزِ الفيلِ الأحمر الأرعن، على الحمار الأزرق “المُتَعَقِّل”، وسيطرة كلية للحزب الجمهوري على الكونغرس بمجلسيه.
لا شكَّ أنَّ العالمَ كلُّهُ كان يترقَّبُ النتيجة، لما للبيت الأبيض من تأثيرٍ على سياسات الدول، اقتصاديًّا وأمنيًّا. لكنَّ الشرق الأوسط بالتحديد كان يَحبُسُ أنفاسه، لما يتعرَّضُ له من حروبٍ وقلق، ولما للدور الأميركي من تأثير حاسم على مجرى الأحداث، أثبته الضبطُ المُحكَم جدًّا للتقاصُفِ الإيراني- الإسرائيلي، وإطلاقُ يد إسرائيل في تدمير غزة ولبنان. في المقابل، كان الرئيس الأميركي المُنتَخَب، دونالد ترامب، يُعلنُ تأييده الكامل لبنيامين نتيناهو، في حلقاتٍ تخلّلتها فواصل قصيرة أظهر فيها “محبّته الغامضة” للبنان، التي قد تظلُّ مؤجّلةَ التنفيذ إلى ما بعد تكوين إدارته الجديدة.
كان لافتًا أنَّ رئيسَ الوزراء الإسرائيلي أقال وزير حربه عشية الانتخابات الرئاسية ليُصبح مطلق التصرُّف في الإعداد لمرحلةٍ جديدة من توسيع حملته البرية، وهذا يُنذِرُ بمزيدٍ من الشهداء والتدمير، ومزيدٍ من المهجّرين الذين يتلاطمون بين القذائف، وتزدحمُ بهم المناطق في غيابِ أيِّ خطّةٍ لبنانية أو عربية أو دولية لاحتواءِ هذه الكارثة غير المسبوقة، ما خلا المساعدات العربية والدولية التي تُمثّل، حتى اللحظة، إغاثةً بحتة خالية من أيِّ تدبيرٍ يَصونُ الحياة الآمنة في المجتمع اللبناني.
أمّا الجيش اللبناني الذي يُشكّلُ حجرَ الزاوية في تنفيذ القرار 1701، فيتعرَّضُ لحملةٍ مقصودة، تُهمِلُ دوره الوطني في حفظِ الاستقرار، وتُذكّرهُ بماضٍ ولّى إلى غيرِ رجعة عن حالاتِ الانقسامِ التي تعرَّضَ لها سابقًا. هذه الحملةُ لحُسنِ الحظّ لا تلقى آذانًا مُصغِية، لأنَّ مؤسّسةَ الجيش مع الجهات الأمنية الأخرى، تحظى دون سواها بمحبّةِ وثقةِ الغالبية الساحقة من الشعب اللبناني، التي تخشى أن يؤدّي التشكيكُ بالقوى العسكرية إلى انفلاتِ حَبلِ الأمن، فتسهلُ السيطرة على الفوضى لمَن يُريد، بعدما انفَلَتَ زمامُ السيطرة على النظام.
لقد حانَ الوقتُ الذي لا يَحتَمِلُ أيَّ تأخير، من أجلِ قيامِ ورشةٍ وطنية لبنانية من مختلف المشارب، هدفها الإمساك بلجام التدهور في ظلِّ انكفاءٍ عام عن تقديم الحلول ومدِّ يد العون، علمًا أنَّ أيَّ عونٍ لن يأتي إذا لم نُثبِت جدارتَنا الوطنية والسياسية، وتمسّكَنا بالدولة اللبنانية، بشعبها كله وحدودها ودستورها وديموقراطيتها.
وبعيدًا من المثالية، تبقى الطوائف مُترَبِّصًا بعضها ببعض، أو قلقًا بعضُها من بعض، ولا مَن يقومُ بمبادرةٍ لتزخيمِ جَمعِ الشملِ والتواصُل المُجدي، استكمالًا للقمّة الروحية وحركة الرؤساء أمين الجميل وميشال سليمان وفؤاد السنيورة، إذ يجبُ أن تَنصَبَّ الجهودُ على دَعمِ الحكومة وما تبقّى من الدولة. هنا أذكُرُ أنَّ رفيق الحريري جاء إلى لبنان بقضّهِ وقضيضه، وكانت عاصمته دمارًا ومتاريس ومنصّات قنص، فحوَّلها مدينةً عريقة للمستقبل، وبذلَ وسعه، وسخَّرَ صداقاته العربية والدولية لاستنقاذ هذه الجمهورية العزيزة على قلبه. وهو في يوم ما، كما سمعتُ من السيدة نازك والرئيس السنيورة قدّمَ أملاكه ضمانة، كما حَوَّلَ وديعةً كبيرة لأمر مصرف لبنان لتأمين سيولة بدأت تشحُّ لديه، وهو في كلِّ ذلك لم يَكُن يشعرُ أنه يُسَلِّفُ الدولة، بل كانَ يَستَلِفُ منها مُستقبلًا آمنًا لأبنائه وأبنائها. وهو القائل “لا أحد أكبر من بلده” وهو الذي سارَ وقد تَيَقَّنَ أنَّ مَصرَعَهُ امامه.
وَقَعَ الاختيارُ على سعد فَسَلَّفُهُ الشعبُ محبةً وازت محبّةَ أبيه، فأصبحَ مديونًا مرّتين: الأولى لِمَن مَحَضُوهُ ثقتهم، والثانية لأبيه الذي لن يقرَّ عينًا في مرقده إلّا إذا تحقّقَ ما فاته أن يُحقّقه بفعل الجريمة الغادرة.
أضَعُ أمامَ دولة الرئيس سعد الحريري ما يلي:
أوّلًا: جمهورك بحاجة لِمَن يلمّهُ ويَشُدُّ أزره لكي يشتدَّ أزرُ لبنان.
ثانيًا: أنتَ قادرٌ على ضَخِّ دَمِ التواصُلِ وإنقاذِ الوَضعِ من التطرُّف، باعتبارِكَ ركن الاعتدال ووريثه الشرعي وزاهد بالمنصب.
ثالثًا: لقد مارستَ السياسةَ ثريًّا فنبتت حولك طُفيليات وحامَ الذبابُ السياسي فوقعت في أخطاء، ولذلك أتمنّى عليك أن تعود إلى السياسة وقد فقدت صفة الملياردير، فترى أيَّ الحقولِ أخصَب وأيَّ النفوسِ أطيَب.
رابعًا: لقد طال غيابك فانطوى على مَظِنَّة التخلّي أو شبهة الإرغام، فهل فاتكَ أنَّ والدك واجَهَ الموتَ وهو يَرفُضُ التخلّي والإرغام كليهما.
خامسًا: لقد وَظَّفَكَ الشعبُ اللبناني بموجبِ مرسومٍ مُوَقَّعٍ من مئات آلاف الأصوات والقلوب، فلا تستقل من وظيفتك.
سادسًا: إن لم تَعُد الآن، فهل تكون هناك عودة؟!
- رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).