عَمَلِيّاتُ القَتلِ الإسرائيلية المُستَهدِفة لن تُدَمِّرَ “حزبَ الله”

يُشيرُ السجلُّ المُتعلّق بالقتل المُستَهدِف إلى أنَّ هجمات إسرائيل على “حزب الله” سوف تُضعفه ولكن من غير المرجح أن تدمّره. كانت إسرائيل تستخدم هذا التكتيك ضد المجموعة منذ عقود، وبدلًا من الانهيار، أثبت “حزب الله” قدرته على الصمود والتكيُّف. وقد أدت محاولات قطع رأس القيادة إلى المزيد من العنف والتوسُّع التنظيمي وزيادة النفوذ الإيراني.

من أثار عملية القتل التي استهدفت السيد حسن نصرالله في الضاحية الجنوبية لبيروت.

سارة باركنسون وجونا شولهوفر-وول*

في السابع والعشرين من أيلول (سبتمبر) الفائت، اغتالت إسرائيل السيد حسن نصر الله، الأمين العام ل”حزب الله”، بإسقاط ما بين 60 إلى 80 قنبلة خارقة للتحصينات على حيٍّ مُكتَظٍّ بالسكان في الضاحية الجنوبية لبيروت. أسفرت الضربة عن مقتل العديد من قادة “حزب الله” الآخرين، وجنرال في الحرس الثوري الإسلامي، وما لا يقل عن 33 مدنيًا. كما أُصيبَ 195 آخرون.

يُمثّلُ هذا الهجوم، والهجمات الأخرى التي تلته، والغزو البري الإسرائيلي للبنان، تصعيدًا لتصعيدٍ تدريجي دامَ عامًا ضد قيادة “حزب الله”. وفي ذلك الإطار الزمني، قتل الجيش الإسرائيلي مئات المسلّحين وآلاف المدنيين. ومن بين هؤلاء ما لا يقل عن عشرين قائدًا عسكريًا ومسؤولًا رفيع المستوى، بمَن فيهم خليفة نصر الله المُتَوَقَّع، هاشم صفي الدين. وفي الثامن من تشرين الأول (أكتوبر)، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنَّ الحملة كانت ناجحة. “لقد قضينا على آلاف الإرهابيين، بمَن فيهم نصر الله نفسه، وبديل نصر الله، وبديل بديله”، كما قال.

ووفقًا لمنطقه، ومنطق مسؤولين حكوميين إسرائيليين آخرين، فإنَّ هذه الاغتيالات ستُساعِدُ على تدمير “حزب الله” بشكلٍ دائم. لكنَّ الواقعَ هو أنها من غير المُرَجَّحِ أن تنجح. “حزبُ الله” منظّمة عمرها 40 عامًا ولديها قاعدة اجتماعية كبيرة، وحزب سياسي مُمَثَّل في البرلمان والحكومة في لبنان، ويتمتّع بدعمٍ كبير من الدولة الإيرانية. إنه تنظيمٌ قابلٌ للتكيُّفِ ومَرِن. قد تنجح إسرائيل في تفتيت المجموعة مؤقتًا، لكنَّ “حزب الله” من المرجّح أن يُعيدَ تكوينَ نفسه. ومن المُرَجّح أن ينتقمَ القادةُ الجدد من إسرائيل لإثباتِ مصداقيتهم وإظهارِ أهمّية المنظمة.

وحتى لو نجحت حملة الاغتيالات الإسرائيلية في إضعافِ “حزب الله” بشكلٍ دائم، فمن المُحتمل أن تظهرَ مجموعةٌ أُخرى لملءِ الفراغ. فعلى مرِّ التاريخ، عندما تُلحِقُ عملياتُ القتلِ المُستَهدِفة أضرارًا لا يُمكِنُ إصلاحها بالمنظمات المسلحة، تتجمّعُ مجموعاتٌ أُخرى عادةً لتحلّ محلّها. ويرجع هذا جُزئيًا إلى أنَّ الاغتيالاتَ تكتيكِيّة، وليست حلًّا سياسيًّا. فهي لا تفعل شيئًا لحلِّ القضايا الأساسية التي تُحرّكُ الصراع. وسواء كان ذلك من طريقِ الخطَإِ أو كضررٍ جانبي، فإنَّ عملياتَ القتلِ المُستَهدِفة تقتلُ وتُشوِّهُ المدنيين بشكلٍ روتيني بينما تُدمّر البنية الأساسية. وهي تعمل على تضخيم المظالم الشعبية، وتدفعُ إلى تجنيد المتشدّدين، وتُعطّلُ المفاوضات. بعبارةٍ أخرى، تعمل عمليات القتل المُستَهدِفة على إطالةِ أمدِ العُنفِ بدلًا من إنهائه.

عواقب غير مقصودة

لأكثرِ من خمسين عامًا، اغتالت إسرائيل زعماءً مُتشدّدين في لبنان باستخدام غارات ال”كوماندوز” والسيارات المفخّخة والغارات الجوية. وقد ركّزت هذه الهجمات أهدافها على ما يسمّيه بعض الخبراء والاستراتيجيين العسكريين “قطع رأس القيادة”: قتل أو أسر زعماء الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة على أمل تدهور قدراتها وتحفيز انهيارها.

إنَّ “القتلَ المُستَهدِف” أو “قطعَ رأس القيادة” ليسا مُصطَلَحين رَسمِيَين في القانون الدولي. ويَزعمُ العديدُ من الخبراء أنَّ كليهما مجرّدُ تعبيراتٍ مُلَطَّفة لعملياتِ الإعدام خارج نطاق القضاء، التي تُحظّرها قوانين الصراع المسلح. ويَدَّعي أنصارُ هذه التكتيكات، وخصوصًا إسرائيل والولايات المتحدة، أنها وسيلةٌ فعّالة عسكريًا ومُبَرَّرة أخلاقيًا لإذلالِ الجماعات المسلّحة المُنَظَّمة وهزيمتها. ويذهبُ هذا المنطقُ إلى أنَّ مثلَ هذه الضربات يُمكِنُ أن تقضي على أفرادٍ ضروريين لعَمَلِ منظّمةٍ مسلّحة مع تقليلِ الضررِ الواقع على المدنيين. لكن حتى في ظلِّ التفسيراتِ الأميركية والإسرائيلية، يجب أن تحترمَ عمليات القتل المُستَهدِف مبدأَ التناسُب، وهذا يعني أنَّ المكاسبَ العسكرية للعملية يجب أن تُبرّرَ الخسائرَ المدنية الناتجة. كَتَبَ قاضي المحكمة العليا الإسرائيلية أهارون باراك في رأيه في العام 2006: “خُذ الحالة المُعتادة لمُقاتلٍ أو قنّاصٍ إرهابي يُطلقُ النار على جنودٍ أو مدنيين من شرفته. إنَّ إطلاقَ النار عليه مُتناسِب حتى لو أدّى ذلك إلى إيذاءِ جارٍ مدنيٍّ بريء أو مارّة. ولكنَّ الأمرَ ليس كذلك إذا تمَّ قصفُ المبنى من الجو وتضرّرَ العشرات من سكانه والمارّة”.

وبموجبِ أغلب تفسيراتِ قوانين الصراعِ المسلّح، بما في ذلك تفسير اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإنَّ الكثيرينَ من الأشخاص الذين تقتلهم إسرائيل يتمتّعون بوَضعٍ مَحمِي. ووفقًا لهذه القراءات، فإنَّ الأشخاصَ العاملين أو المُتَطَوِّعين في الخدماتِ الاجتماعية والأجنحة السياسية ل”حزب الله” يُعتَبَرون غير مُقاتلين، ما لم يشاركوا بشكلٍ مُباشِرٍ في الأعمالِ العدائية. لكنَّ إسرائيل والولايات المتحدة لديهما تفسيرٌ أكثر تساهُلًا لما يُشكّلُ مُشاركةً مباشرة في الأعمال العدائية. ففي هجومٍ شنّته إسرائيل في السادس عشر من تشرين الأول (أكتوبر) على مبنى بلدي في مدينة النبطية اللبنانية، على سبيل المثال، قتلت إسرائيل رئيس البلدية المُنتَخَب ــالذي ترشح على قائمة مشتركة ل”حزب الله” و”حركة أمل”ــ ومسؤولين في لجنة الأزمة التابعة لخدمات الطوارئ في المدينة.

حتى لو كانت الضربات الإسرائيلية تقتلُ المقاتلين فقط، فإنَّ عملياتَ القتلِ المُستَهدِفة تواجه مشكلةً أُخرى: فهي تأتي بنتائج عكسية. ورُغمَ أنَّ الأبحاثَ حول هذا التكتيك أسفرت عن مجموعةٍ كبيرةٍ من النتائج المُتناقِضة على ما يبدو، ويرجع هذا جُزئيًا إلى مقاييس مختلفة للنجاح، فإنها تشيرُ عمومًا إلى أنَّ مثلَ هذه الهجمات تفشلُ في تحقيقِ أهدافها في الأمد البعيد. لكن في الواقع، لم تنجح هذه الحملات، على سبيل المثال، خلال الحملات الأميركية في أفغانستان والعراق وباكستان والصومال وسوريا واليمن. وتُقدّمُ الدولةُ الأولى مثالًا واضحًا على ذلك. فوفقًا للأستاذة في جامعة جونز هوبكنز ديبالي موخوبادياي، الخبيرة الرائدة في الحرب الأميركية في أفغانستان، وقعت الولايات المتحدة في فخِّ حملاتِ القتل المُستَهدِف: فقد ركزت على الانتقام والمكاسب السياسية القصيرة الأجل بدلًا من إيجادِ حلولٍ دائمة.

ويَزعَمُ أنصارُ عملياتِ القتلِ المُستَهدِف أنَّ الهجماتَ ضدّ الأفرادِ المُشاركين بنشاطٍ في التخطيط وتنفيذ العنف تُقلّلُ من قدرةِ المنظمة وتؤدّي إلى انهيارِ الروح المعنوية. وتزعَمُ الحكومة الإسرائيلية أنَّ عملياتها الحالية في لبنان تُحقّقُ هذه الأهداف بالضبط. ومع ذلك فقد أثبتَ “حزب الله” قدرته على الصمود في مواجهة هذه الهجمات. ويرجعُ هذا إلى حدٍّ كبيرٍ إلى كونه مؤسّسيًا وبيروقراطيًا إلى حدٍّ كبير. وقد وضعت مثل هذه المجموعات إجراءاتٍ وخططًا للخلافة عندما يتم ترقية قادتها أو وفاتهم أو تركهم لمناصبهم. ويتمُّ تدريبُ الوحدات الشبيهة بالخلايا على العمل بشكلٍ مُستقل، بحيثُ لا يؤثر قتل كبار قادة المجموعة بشكلٍ دائمٍ في قدرتها.

في أعقابِ اغتيالِ كبير، من المؤكّدِ أنَّ الجماعات قد تُعاني من انقطاع الاتصالات والارتباك والحزن والجنون. ومع ذلك، حتى لو قُتِلَ قائدٌ متوسّط ​​المستوى أو شخصية عسكرية كبيرة أو زعيمٌ كبير، فإنَّ نوّابهم ينتظرون في الكواليس ويمكن للمقاتلين مواصلة الهجمات. منذ وفاة نصر الله، على سبيل المثال، أطلق “حزب الله” مئات الصواريخ والقذائف والطائرات المُسَيَّرة الإنقضاضية على القواعد العسكرية الإسرائيلية والمدن الكبرى مثل حيفا ومقر إقامة نتنياهو.

في الواقع، قد تكون المجموعة التي فقدت علنًا شخصياتٍ رئيسة أكثر تصميمًا على إثباتِ قدراتها وإعادةِ بناءِ قوتها. لقد قصف “حزب الله” شمال إسرائيل لأول مرة في أعقاب جنازة الأمين العام الأسبق ل”حزب الله” السيد عباس الموسوي، الذي اغتالته القوات الإسرائيلية في العام 1992. دفعَ مقتلُ الموسوي قادةَ “حزب الله” إلى الردّ وأتاح للمُتَطرّفين في المنظمة نشرَ عملياتٍ متزايدة التعقيد ضد الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان المحتل وتصعيدها إلى هجمات دولية. لقد ربط رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية من العام 1991 إلى العام 1995، أوري ساغي، اغتيال الموسوي بشكلٍ مباشر بتصعيد “حزب الله”، بما في ذلك تفجير المجموعة الشيعية للسفارة الإسرائيلية والمركز الثقافي اليهودي في الأرجنتين في العامين 1992 و1994. وبعد ما يقرب من عقد من الزمان على وفاة الموسوي، أصبح “حزب الله” أقوى وأكثر قدرة. أدّت سنواتٌ من الجمود الدموي في جنوب لبنان إلى انسحابِ إسرائيل في نهاية المطاف في العام 2000. استمرّت الدولة العبرية في تنفيذِ عملياتِ قتلٍ مُستَهدِفة ضد “حزب الله” في السنوات التي تلت ذلك، لكنَّ نفوذَ المجموعة استمرَّ في النمو. في 12 تموز (يوليو) 2006، شنّ الحزب غارةً عبر الحدود وقتل واختطف جنودًا إسرائيليين. وكانت النتيجة حرب تموز (يوليو) 2006.

إنَّ الاغتيالات قد تؤدّي أيضًا إلى صعودِ قادةٍ أكثر تطرُّفاً أو فعالية. فقد أدى اغتيال الموسوي إلى صعودِ نصر الله الأكثر كاريزمية. وبصفته أمينًا عامًا، يُنسَبُ إلى نصر الله –إلى جانب كبير الاستراتيجيين العسكريين في “حزب الله” عماد مغنية– الفضلُ على نطاقٍ واسع في تحويل الجماعة الشيعية من ميليشيا محلّية إلى جيشٍ غير حكومي أقوى من القوات المسلحة اللبنانية الشرعية. وعلى نحوٍ مُماثل، قد تؤدّي الاغتيالات إلى دعوةِ جهاتٍ خارجية تُقدّمُ المساعدة المالية والدعم الفني. فعندما قتلت إسرائيل مغنية في العام 2008، أصبح مستشارو الحرس الثوري الإيراني أكثر تورُّطًا في العمليات اليومية ل”حزب الله”. وعلى نحوٍ مُماثل، في غزة، مَهّدَ اغتيال زعيم “حماس” ومؤسّسها الشيخ أحمد ياسين في العام 2004 الطريق أمام تورُّطٍ إيراني أعمق مع المنظمة الإسلامية السنّية  المتشددة ـ وهي العلاقة التي كان يُعارضها ياسين.

العنفُ يُوَلِّدُ العنف

حتى عندما تنجحُ عملياتُ القتلِ المُستَهدِفة في تدهورِ هياكل القيادة في المنظّمات مؤقتًا، فإنها قد تؤدّي إلى المزيدِ من العنف. ففي الجماعات التي تستخدم التقسيم والهياكل الخلوية، قد تنشأ فصائل ذات مصالح وأجندات مستقلّة. إنَّ القادة الصاعدين يستخدمون العنفَ للتنافُس على الاهتمام والموارد والمكانة ـ وهي المُمارسة التي يَطلُقُ عليها خبراء السياسة “المُزايَدة”. والنتيجة هي أنَّ هجمات المجموعة المُستَهدَفة غالبًا ما تُصبحُ أقل قابلية للتنبّؤ وأكثر إثارة.

وقد حدثت هذه العملية بالفعل في لبنان. في العام 1982، غزت إسرائيل لبنان بهدفِ استئصالِ منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل المسلحة الفلسطينية، التي كانت تَطلُق الصواريخ وتشنُّ الغارات العسكرية من جنوب لبنان إلى شمال إسرائيل. وقتلت إسرائيل أو سجنت قادةً فلسطينيين، إلى جانب الآلاف من المدنيين، تاركةً الوحدات العملياتية الفلسطينية بلا قيادة وبدون تنسيق. ومع احتلالِ إسرائيل لجنوب لبنان حتى مدينة صيدا الساحلية، نشأت ميليشيات فلسطينية محلّية غير مُرتبطة بهياكل القيادة والسيطرة التقليدية. وعملت هذه الميليشيات بالتعاون الفضفاض مع المتمرّدين اللبنانيين، وأحدثت دمارًا هائلًا في صفوف القوات الإسرائيلية والمتعاونين معها.

ونتيجةً لذلك انسحبت إسرائيل في العام 1985 إلى منطقة الحدود، التي احتلتها حتى العام 2000. ولكن لبنان لا يزال يعيشُ مع إرث تلك الحرب. أحد القادة الفلسطينيين الذين برزوا في خضم الفراغ في السلطة في ثمانينيات القرن العشرين، كان من بين الذين استهدفتهم إسرائيل في غارة تشرين الأول (أكتوبر) الفائت على مخيم عين الحلوة في صيدا.

إنَّ عواقبَ الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982 تُوَضِّحُ حقيقةً صارخة أخرى: وهي أنَّ إضعافَ منظّمةٍ ما أو حتى هزيمتها بشكلٍ دائم قد يؤدّي إلى ظهورِ منظّماتٍ جديدة. لقد وفّرَت هزيمة الفلسطينيين واحتلال إسرائيل للبنان مُبَرِّرَ وجود “حزب الله”. ففي آب (أغسطس) 1982، غادر 14,398 مقاتلًا فلسطينيًا بيروت في أعقاب وقف إطلاق النار الذي توسّطت فيه الولايات المتحدة. وقد ترك نفي الزعماء السياسيين الفلسطينيين إلى دمشق وتونس فراغًا جاء “حزب الله” لملئه.

العقابُ الجماعي

إنَّ أحدَ المُبرّرات الأساسية لعملياتِ القتلِ المُستَهدِفة هو الادِّعاءُ بأنها تُقلّلُ من عدد القتلى المدنيين. مع ذلك فإنَّ العملياتَ التي تستهدفُ الأفراد قد أسفرت عن دمارٍ وخسائر بشرية واسعة النطاق بين المدنيين. فقد أدّت الغارة الجوية التي قتلت نصر الله إلى تدميرِ حيٍّ كامل في أحد أكثر أحياء لبنان كثافة سكانية. كما أدى هجوم إسرائيل في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) الذي استهدفَ وفيق صفا، ضابط الاتصال بين “حزب الله” وأجهزة الأمن اللبنانية، إلى انهيارِ مبنى سكني من ثمانية طوابق في وسط بيروت، مما أسفر عن مقتل 22 شخصًا وإصابة 117 آخرين. وتقول الحكومة الإسرائيلية إنها كثيرًا ما تستخدمُ المكالمات الهاتفية والرسائل النصّية والمنشورات التي يتمُّ إسقاطها جوًّا لحَثِّ السكان على إخلاء المناطق المُستَهدَفة قبل مهاجمتها. ولكن في تشرين الأول (أكتوبر)، أفادت منظمة العفو الدولية أنه إذا وصلت إشعارات الإخلاء، فإنها غالبًا ما تكون غير واضحة أو لا تمنح المدنيين الوقت الكافي لمغادرة المنطقة.

حتى العمليات التي يُشيدُ بها المحلّلون العسكريون لتطوّرها التقني تفتقر إلى الدقّة اللازمة لتجنُّبِ إلحاقِ الضرر بالمدنيين على نطاقٍ واسع. فقد اندَهَشَ العديد من المراقبين، على سبيل المثال، عندما فجّرت إسرائيل في أيلول (سبتمبر) في وقتٍ واحد آلاف أجهزة النداء واللاسلكي التي يستخدمها “حزب الله”. ولكن هذه الهجمات قتلت وأصابت العشرات من الناس الذين لا ينتمون إلى الجماعة الشيعية. ووصف مدير وكالة الاستخبارات المركزية ووزير الدفاع الأميركي السابق ليون بانيتا هذه الهجمات بأنها “شكلٌ من أشكالِ الإرهاب”.

في كثيرٍ من الحالات، لا يستطيعُ المدنيون الذين يُريدونَ الفرار ببساطة أن يفعلوا ذلك. وقد لا يكون كبار السن أو المرضى أو المعوَّقون قادرين على الفرار. وفي بلدٍ يعيش فيه ما يقرب من نصف السكان في فقر، لا يملك كثيرون آخرون الوسائل المالية اللازمة للإخلاء.

ونظرًا للعواقب المُدمِّرة، يتعرّضُ المدنيون في لبنان لهجماتٍ مُستَهدِفة كعقابٍ جماعي. بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية، ربما يكون هذا هو الهدف. فهي تأملُ بالتأكيد أن تُحَوِّلَ الصعوبات المدنيين ضد “حزب الله”. في تشرين الأول (أكتوبر)، هدّدَ نتنياهو لبنان “بالدمار والمُعاناة كما نرى في غزة” ما لم يَثُر الناس ضد المنظمة. وإذا ألقى الناس باللوم على “حزب الله” في تدميرِ بلدهم، فإنَّ المنطقَ يقول إنهم سيساعدون إسرائيل على استهدافِ أعضاءِ الجماعة وتفكيك نفوذها.

لكنَّ هذا التحوُّلَ من غير المرجح أن يَحدُث. بل إنَّ العكسَ هو الصحيح. فإسرائيل قوة أجنبية غزت لبنان أصلًا ثلاث مرات وشنّت عملياتٍ عسكرية أصغر حجمًا ولكنها مُدمِّرة. خلال فترة الاحتلال من العام 1982 إلى العام 2000، مارست إسرائيل وحشيةً في مراقبة سكان جنوب لبنان، وسجنت الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين، وأذكت التوتّرات الطائفية من خلال الاستعانة ب”جيش جنوب لبنان” ذي الأغلبية المسيحية لتنفيذ أعمال العنف. وقد أدى الاحتلال، إلى جانب القمع والصعوبات التي رافقته، إلى جذب وحشد مُجنَّدين جدد في صفوف “حزب الله” وغيره من الأحزاب السياسية اليسارية اللبنانية المسلّحة.

إنَّ تجربةَ المدنيين مع الضربات الإسرائيلية العشوائية والمُنتشرة في كلِّ مكان تؤثّر بشكل أكبر في عملية اتخاذ القرار لديهم. سوف تعمل هذه الهجمات على تعزيز قناعات أنصار “حزب الله” المدنيين. وقد يُصبحُ الذين لم يكونوا مقاتلين من قَبل على استعدادٍ أكثر للانضمام، ويقرّرُون أنَّ الوصولَ إلى الأسلحة والراتب والمعلومات هو أفضل طريق لديهم، وخصوصًا عندما قد يتم قتلهم عشوائيًا حتى أثناء محاولتهم تجنُّب الأعمال العدائية المتصاعدة. وكما حدث بين العامين 1982 و2000، فقد تحشد قطاعات أكبر من السكان اللبنانيين ضد إسرائيل.

بشكلٍ عام، يُشيرُ السجلُّ المُتعلِّقُ بالقتل المُستَهدِف إلى أنَّ هجمات إسرائيل على “حزب الله” ستُضعفه ولكن من غير المرجح أن تُدمّره. فقد كانت إسرائيل تستخدم هذا التكتيك ضد المجموعة لعقود. وبدلًا من الانهيار، أثبت “حزب الله” قدرته على الصمود والتكيُّف. وأدّت محاولات قطع رأس القيادة إلى المزيد من العنف والتوسُّع التنظيمي وزيادة النفوذ الإيراني.

لا أحد يعرف هذا الواقع أفضل من الشعب اللبناني نفسه. في تشرين الأول (أكتوبر)، قال رامي مرتضى، سفير لبنان لدى المملكة المتحدة، ردًّا على تهديد نتنياهو بتحويل لبنان إلى غزة: “إنَّ الهجمات الإسرائيلية سوف تعمل على ترسيخ مكانة “حزب الله”. وسوف تزيد من الإحباط بين السكان. وسوف تلعب لصالح ما كان “حزب الله” يُردّده منذ أربعين عامًا ــ أن إسرائيل لا تفهم إلّا لغة القوة”.

  • سارة باركنسون هي أستاذة مشاركة في العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة جونز هوبكنز. وهي مؤلفة كتاب “ما وراء الخطوط: الشبكات الاجتماعية والمنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان في زمن الحرب”.
  • جوناه شولهوفر-وول هو أستاذ جامعي في العلوم السياسية في جامعة لايدن وأستاذ زائر في مركز أبحاث “تحولات العنف السياسي” في جامعة غوته فرانكفورت ومعهد أبحاث السلام فرانكفورت. وهو مؤلف كتاب “المستنقع في الحرب الأهلية”.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازُنًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِن أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى