من فْرنسي غريب إِلى لبنان الحبيب
هنري زغيب*
قبل أَيامٍ جاءني نصٌّ مؤَثِّر عن لبنان كتبه الممثل والمخرج الفْرنسي أُوليفييه سوتون Sauton، ترجمتُه وأَقتطف منه فقرات بدون تعليق حتى لا أُفسد سياقه المنساب في عاطفة عميقة.
“حين ترجلْتُ من الطائرة على أَرض وطن الأَرز نهار 8 أُكتوبر 2023، كنتُ أَزور للمرة الأُولى بلدًا لا أَعرفه تاريخًا ولا شعبًا ولا طبيعةً ولا مآكل. مَن علِموا بتصميمي على السفر إِلى لبنان، تساءَلوا باستغراب: “أَمجنون أَنت؟ أَلم تدْرِ بما حصل في 7 أُكتوبر”؟ سوى أَنني لم أُجِب. وحين جلستُ في مقعد الطائرة المتوجهة إِلى بيروت، مرَّ في بالي أَنْ قد أَموت فيها، ولم يمرَّ في بالي أَنني سأُولد فيها من جديد. كانت حياتي رمادية في فْرنسا حتى عرفتُ لبنان فازهوهرت حياتي، وتعلمتُ من لبنان أَن أُحبَّ الحياة وأُحبَّ الإِنسانية. أَعطتني أَرضُ الأَرز أَن أُحبّ المسيحيَّ والمسلم، الغنيَّ والفقير، الرجالَ والنساء، الأَطفالَ والشيوخ. إِنَّ في لبنان حسًّا بالحياة مغايرًا عما في سواه، مختلفًا عن ببَّغاوية الغرب. في لبنان أَتكلم مع أَيِّ شخص فلا تكون له بي غاية أَو مصلحة. قد أُصادف غريبًا في الشارع أَسأَله فيُجيبُني بتَوَدُّدٍ لطيف، من دون توجس أُصادفه لو سأَلتُ فْرنسيًّا. التباعُدُ في فْرنسا تقابله الأُخُوَّةُ في لبنان. وإِذ الأُخُوَّة عنصر من شعار فرنسا المثلَّث (الحرية، المساواة، الأُخُوَّة) لم أَجِدْ للأُخُوَّة مَعنًى كما وجدْتُهُ في لبنان.
وفي لبنان وجدتُ الله. في فْرنسا كنتُ سمعتُ به ولم أَشعُر بوجوده كما في لبنان. منذ وَطِئَتْ قدمايَ أَرضَه ارتفع جبيني نحو سمائه. كأَنما اللهُ وُلِد في لبنان، كأَنما الغيوم فوق بيروت بساطٌ يستريح عليه الله، كأَنما نجومُ الليل في البقاع تحفةٌ جماليةٌ من تُحَف الله، كأَنما كلُّ وجه في لبنان، أَيا تكُن طائفته، هو انعكاسٌ لوجه الله. هكذا صالحني لبنان مع الله والإِنسان. كلُّ ما فيه استثنائي: طبيعتُه الفريدة، شعبُه الوَدود، تاريخُه العظيم. لذا أَتنشق فيه الفرح والسعادة وأُدمن الحياة برغم ما فيه، كما في فواجع الميثولوجيا الإِغريقية، من أَحداث مُرعبة عسكريًّا سياسيًّا اقتصاديًّا مافياويًّا، كأَنَّ القدَر يعاقبه على ما فيه من جَمال.
أَكتُب هذه الأَسطر والقذائفُ تسَّاقط حولي، والانفجارات تهدِّم البيوت، والمجازرُ تغتال المواطنين، فأَحزنُ، وأَخجل أَنا الفْرنسيُّ من شعب لبنان، وكيف تخلَّت عنه بلاديَ فْرنسا وما زالت تُغْرقُه بالشعارات اللفظية. لبنان لا يحتاج أَقوالًا بل أَفعالًا سريعةً شُجاعةً فاعلة. لذا أَشعرُ أَنني لبنانيٌّ أَكثرَ من كونيَ فْرنسيًّا، وأَشعر أَنني أُريد العمل من أَجل لبنان، وأَنني أُريد العيش في لبنان، ويوجعني أَن أُغادرَ لبنانَ الحرب لأَعيش في فْرنسا السلْم.
في الطائرة بكَيْتُ في صمتي وأَنا أَصرخ: “يا شعبَ لبنان، خُذْ من تاريخكَ عِبَرًا وكُن قويًّا صامدًا شجاعًا. أَعرفُ أَنَّك مرهَقٌ وتتوق إِلى لحظاتِ نَفَس وراحةٍ وهدوء، وأَعرف أَنكَ كنتَ واحةَ راحة وهناءة فحسدُوكَ وجرَّحوكَ وشوَّهوك، إِنما لا تنسَ أَنكَ سليلُ شعبٍ غيرِ عاديٍّ، وبرغم ما فيكَ من أَبنيةٍ تهدَّمَت وعائلاتٍ تَيَتَّمَتْ وأَطفالٍ تشرَّدوا ومواطنين أَفْلسوا، ما زالت فيك قوةٌ ستنهضُ بكَ وبوطنِك كما نهضَ به أَسلافُك. أُحبُّكَ يا لبنان، كما يحبُّكَ كلُّ من زارَكَ وعرفَكَ. وسوف أَعودُ إِليك. بين قذيفتَين سأَعودُ إِليك، وسوف نفرح معًا ونبكي معًا ونغني معًا، لأَنك وطنُ المعجزات الكبيرة والمشاعر العالية والاحتفالات الكبرى بدوام الحياة”.
نصُّ أُوليفييه ساتون أَطولُ بعد، إِنما أَكتفي بهذه المقاطع لِمَن يشاركُني كلماتها، وهي ليست أَقلَّ من صلاةِ إيمانٍ بمجْد لبنانَ الذي، كأَرزه الخالدِ على جبينه العالي، يَلْوي… يلْوي… لكنَّه لا ينكسر، ولنْ.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib