روسيا تلعبُ بالنار مع كوريا الشمالية في أوكرانيا

كابي طبراني*

فيما الحربُ في غزة تتوشَّع، حيث تخوضُ إسرائيل الآن صراعًا مُباشرًا مع “حزب الله” في لبنان وإيران، فإنَّ الحربَ في أوكرانيا بدورها تتوسّعُ أيضًا. فمنذُ أن شنّت روسيا غزوها الشامل لأوكرانيا قبل أكثر من عامين ونصف، لم يقتصر التورّط في تلك الحرب على الطرفين المتحاربين الرئيسيين، فقد كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي من أشد المؤيّدين لكييف والمُنحرطين المُشاركين معها في ذلك الصراع من طريق إمدادها بكلِّ شيء، من الأسلحة والتمويل إلى الاستخبارات المُستَهدِفة والتدريب.

وفي الجانب الآخر، تمَّ تمكينُ جهود الحرب الروسية بشكلٍ مباشر من قبل العديد من البلدان، بما في ذلك الدعم الديبلوماسي والاقتصادي والمادي من أعضاء مجموعة “بريكس”، فضلًا عن الصواريخ والطائرات المُسيَّرة التي قدّمتها إيران والذخيرة من كوريا الشمالية.

لكن طبيعة الدعم الخارجي الذي تتلقّاه موسكو تغيَّرت في الأسبوع الفائت، عندما أكدت مصادر استخباراتية أميركية وأوروبية أنَّ بيونغ يانغ أرسلت نحو عشرة آلاف جندي كوري شمالي للتدريب في روسيا. ومن المُرَجَّح أن يتمَّ نشرُ هؤلاء الجنود قريبًا للقتال في منطقة كورسك الروسية لمساعدة الجيش الروسي على صدِّ الهجوم الذي شنّته أوكرانيا على الأراضي الروسية في آب (أغسطس) الفائت.

لا يُمكِنُ المُبالغة في أهمّية هذا التطوّر. لنتأمّل ردود الفعل على تحرّك كوريا الشمالية من قِبَل المسؤولين في واشنطن، الداعم الرئيس لأوكرانيا. حذّرَ الرئيس الأميركي جو بايدن كوريا الشمالية من السماح لتلك القوات بدخول أوكرانيا نفسها، مُوَضّحًا أنها ستكون هدفًا للضربات الأوكرانية إذا فعلت ذلك. وأفاد بعض المعلومات أنَّ مستشار بايدن للأمن القومي، جايك سوليفان، يعملُ عبر القنوات الديبلوماسية مع الصين، الداعم الرئيس لكوريا الشمالية، لإقناع بكين بتقييد استخدام بيونغ يانغ لقوّاتها ضد أوكرانيا. وذهب بعض أعضاء الكونغرس الأميركي إلى حَدِّ وَصفِ استخدام القوات الكورية الشمالية ضد أوكرانيا بأنه “خطٌّ أحمر” ينبغي أن يدفعَ الولايات المتحدة نفسها إلى اتّخاذِ إجراءٍ عسكري مباشر. وهذا غير مُرجَّح، لكنه لا يزال يشيرُ إلى خطورةِ الموقف من منظورِ الولايات المتحدة.

ما هو أساس قلقهم؟ ولماذا بالضبط يهمُّ أن تُرسِلَ كوريا الشمالية قواتٍ إلى روسيا لمساعدتها على مواجهة أوكرانيا؟ هناك ثلاثة أسباب رئيسة:

أوّلًا وقبَل كل ِّشيء، يُوفّرُ هذا الدعم ضخًّا ضروريًا للغاية للقوى البشرية في المجهود الحربي الروسي. رُغمَ أنَّ الأرقامَ تصبُّ في صالح روسيا عندما يتعلّق الأمرُ بحجمِ القوة الإجمالي والتركيبة السكانية مُقارنةً بأوكرانيا، فقد ثبت أنَّ الحفاظَ على تناوُبٍ ثابتٍ للقوّات في القتال أمرٌ صعبٌ بالنسبة إلى موسكو. إنَّ أرقام التجنيد الحالية كافية في أفضل الأحوال لمستوى الاستبدال. لقد نفّذَ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعبئةً جُزئيةً مرّتَين على الأقل. واعتمدت روسيا أيضًا على القوى البشرية التي قدّمتها مجموعة “فاغنر”، على الرُغم من أنَّ اعتمادها على هؤلاء المقاتلين كاد يُقَوِّضُ نظام بوتين. كما جنّدت موسكو مرتزقة من سوريا ومناطق أخرى حيث شاركت القوات الروسية معها في القتال، وكذلك من بين القوات الأفغانية التي درّبتها الولايات المتحدة بعد استيلاء طالبان على أفغانستان في أعقاب الانسحاب العسكري الأميركي.

لكن كوريا الشمالية تُقدّمُ خزّانًا كبيرًا من الأفراد العسكريين المُدرَّبين. في الواقع، في حين يصعب دائمًا الحصول على أرقامٍ دقيقة من كوريا الشمالية، تُقدَّر معلومات الإستخبارات الغربية أنَّ البلاد لديها واحدٌ من أكبر الجيوش في العالم، بأكثر من مليون فرد نشط.

ثانيًا، باعتبارها دولة معزولة عن أغلب دول العالم منذ عقود، ترى كوريا الشمالية في الحرب في أوكرانيا فرصةً للعبِ دورٍ في السياسة العالمية. وتميلُ بيونغ يانغ إلى اتّخاذِ إجراءاتٍ، مثل إطلاق الصواريخ بشكلٍ مُتقطّع، بهدف تذكير الغرب ــوخصوصًا الولايات المتحدةــ بأنه لا ينبغي تجاهلها. لكن هذه الإجراءات كانت تُعَدُّ منذ فترةٍ طويلة نوباتَ غضبٍ لجذبِ الانتباه، وليست خطواتٍ ذات عواقب ملموسة. لكنَّ الأمرَ مختلفٌ هذه المرّة.

وكما أشرنا، كانت كوريا الشمالية تُزوّدُ روسيا أصلًا بالذخيرة والصواريخ، ووقّعت الدولتان مُعاهدةَ دفاع مشترك في حزيران (يونيو) الماضي. لكن في ذلك الوقت، ظلَّ هدفُ المعاهدة غير واضح. وكانت صياغتها الغامضة تعني أنَّ فَهمَ نواياها الحقيقية سوف يتلخّص في نهاية المطاف في السلوك الفعلي للطرفين.

ولكن، كما إنَّ اتفاقَ “بلا حدود” الذي أبرمته موسكو مع بكين في الأسابيع التي سبقت غزو أوكرانيا كان يُنبئُ بدعمٍ ضمني وصريح ومباشر من جانب الصين للجهود الحربية الروسية، فقد أصبحَ من الواضح أيضًا أنَّ الاتفاقَ الذي تمَّ التوصُّلُ إليه في حزيران (يونيو) مع كوريا الشمالية كان أكثر من مجرّدِ كلماتٍ جوفاء. لقد أصبح لكلٍّ من الجانبين الآن دورٌ في اللعبة.

ثالثًا، في حين أنَّ وجودَ القوات الكورية الشمالية في أوكرانيا قد يُغيّرُ ديناميكيات تلك الحرب المُحَدَّدة، فإنه يشيرُ إلى احتمالٍ أكثر إثارةً للقلق: حربٌ عامة. وكما كتب “هال براندز”، الأستاذ في كلية الدراسات الدولية المُتقدّمة في جامعة “جونز هوبكنز” الأميركية، في وقتٍ سابق من هذا العام، فإنَّ الحربَ العالمية الثانية لم تبدأ كصراعٍ عالميٍّ واحد. بل إنها نتجت عن الاندماجِ التدريجي للصراعاتِ الإقليمية المُنفصلة. إن ما كان من المُمكن أن يظلَّ عالمًا مليئًا بالحروب، مع احتدامِ الصراعِ في الصين ثم في أوروبا، اندمجَ في نهايةِ المطاف في حربٍ عالمية واحدة امتدّت على نطاقِ الكرة الأرضية.

نحنُ في عالمٍ مُماثلٍ اليوم، عالمٌ يُهدّد باستهلاك واستنفاد أجزاءٍ كبيرة من أوراسيا. بالإضافةِ إلى نَشرِ قوات كوريا الشمالية في روسيا، دمّرت الضربات الإسرائيلية الأخيرة ضد إيران منشآتٍ إيرانية تنتجُ الصواريخ لروسيا. وحتى قبل هجوم إسرائيل، كانت روسيا وإيران على استعدادٍ لتوقيعِ اتفاقيةِ أمنٍ مُتبادَل خاصة بهما. فهل يؤدّي هذا إلى تعميق علاقات روسيا مع إيران، وإدخال موسكو بشكلٍ أكثر مباشرةً في الصراعِ الحالي في الشرق الأوسط؟ هذه مخاطر حقيقية، وكثيرًا ما تُنذرُ بها تقوية وتعزيز علاقات التحالف. ولكي نكون واضحين، فإنَّ خطرَ وقوع حرب عامة عالمية لا يزالُ مُنخَفِضًا. لكن تصرّفات كوريا الشمالية تُظهرُ كيف يتصاعدُ هذا الخطر.

من الجدير بالملاحظة أنَّ هناكَ عنصرًا مشترَكًا واضحًا يَربُطُ بين هذه الصراعات: روسيا. إنَّ القضايا الأمنية على طرفَي أوراسيا مُترابطة حتمًا، ولكن هذا هو الحال بشكلٍ خاص عندما تكون روسيا مُتورّطة فيها. وكما كتبتُ أخيرًا (12/10/2024)، فإنَّ كيفية التعامُل مع روسيا على النحوِ الأمثل هي مسألةٌ طالما أزعجت الحكومات الغربية. وروسيا بدورها كانت منزعجةً لفترة طويلة من كيفية تعامُل الغرب معها. مِنَ الحربَين العالميتين الأولى والثانية والحرب الباردة إلى الصراعات المستعرة في أوراسيا اليوم، فإنَّ عواقِبَ عَجزِ الجانبين عن التفاهم لا تَقتصِرُ على علاقات الغرب مع روسيا فحسب، بل إنها عالمية.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى