أَرثيكَ؟ أَم أَرثيني بكَ؟

هنري زغيب*

(إِلى وحيدي “هنري”، خَطَفَتْهُ من قلبي ذَبحةٌ قلبية)

حين زلْزَلَتْني أُمُّكَ بالخبر الفاجع سمعتُ في حنانِ دموعها وطنًا من الأُمومة ينهارُ في خَبَر… كان لي وحيدَان: أَنتَ ووطني.. فكيف أَحتملُ، وأَنتَ ولَدي الوحيدُ وكنتُ وعَدْتُني بأَملٍ أَن تشاركَني تعلُّقي بوطني الوحيد؟

يوم ناءَتْني عنكَ الأَميركا، كنتُ أَرتضيه نأْيًا مُوَقَّتًا لم يُغْرِهِ طيبُ إِقامتِنا معًا ستَّ سنواتٍ في أَميركا، عشْتُها بحنين الرجوع إِلى وطني، حتى أَنني كنتُ من هناك أُوقِّع مقالاتي في “النهار” بـ”المنأَى الموَقَّت – بحيرة الليمون – فلوريدا”، هرَبًا بـ”الموَقَّت” من غُصَّةِ أَنني باقٍ طويلًا في هذا البعيد… وكنتَ أَنتَ تَتَنَشَّق حنيني وتخفِّفُ منهُ فتُعلِّلني، وأَنتَ وحيدي، بعودتنا معًا إِلى الوطن الوحيد الذي كم كنتَ تراقبُني أَنتظر رُجوعي إِليه… وحين عدتُ إِليه وحدي رحتُ أَنتظر فيه أَن تُوافيني أَنتَ أَيضًا فتُحْييني بفرحةِ اللقاء… لم أَحدُس لحظةً أَن تُفرِّق بيننا ذبحتُكَ القلبية فتصدُم في قلبي اللقاء بالرثاء…

أَرثيكَ؟ أَم أَرثيني بكَ؟

يا ولَدي الوحيد: تختنقُ في نبضيَ الكلمات، ويوجعُني ارتكابُ الرثاء لإِيماني أَنَّ مَن صوتُهُ يُغادرُ هذا العالم يَترك بعدَه صدًى يتردَّد في التذكار… فكيف وأَنتَ صوتٌ دائمٌ في عينيَّ حتى لأَرثيني حيًّا لو رُمْتُ رثاءَكَ في كلمات؟

أَكتبُ إِليكَ من البيت الذي فيه وُلدْتَ نورًا أَزرقَ مثلَ فجرٍ واعد، ونشأْتَ فيه بين حنانِ أُمِّكَ وطُموحِ أَبيكَ الأَدبي، حتى أَني لم أَجد لكَ اسمًا غيرَ اسمي أَمنحُكَ إِياه تحملُه وتكْملُ به حيثما أَكون توقفْتُ عند حدود ما تمنحني الحياة من عمْر…

يوم ولادتكَ قبل 51 سنة، كتبتُ لكَ في قصيدتي احتفاءً بكَ:

“جَسَّدتُ فيكَ تصاويري التي وُعدَت…أَنا الأَنانيُّ فاغفِر لي تصاويري”…

اليوم، بعد 51 سنة من تلك القصيدة، أَراني مجدَّدًا أَعتذرُ إِليكَ لا عن تصاويري بل عن تقصيري حيالَكَ إِن كانت أُبوَّتي لم تحتضِنْكَ كما تتوقَّعُها بُنُوَّتُك، ولو من هذا البُعاد الذي كنتَ تعيش فيه أَو أَنا عنه بعيد…

فضْلُ هذا البُعاد أَنه ناءَاني عن رؤْيتكَ مُطفَأَ العينين وكانت في عينيكَ شمسٌ من ذكاءٍ كم خلْتُه لا إِلى غروب… وفيما يَؤُول جسمُكَ إِلى رمادٍ أَبتهلُ إِلى الأَثير الذي سيحتضن رمادَكَ أَن يتعهَّده بعنايةٍ تعوِّض عن احتضانيه الذي لا أَحتملُهُ، كي أَظلَّ أَنتظر أَن يرنَّ هاتفي وتكون أَنتَ وتسأَلني كالعادة أَن أُلاقيكَ إِلى المطار كي أَضُمَّكَ إِلى صدري…

كان لي وحيدان: أَنتَ ووطني… وها أَنت غادرتَ، وحيدًا غادرتَ، وبقيَ لي وحيدي الآخَر: وطني، أَنصرفُ إِليه كي أَظلَّ أَجدُ فيه ما يليقُ بكَ لو انكَ يومًا ستزورُه فتفهمُ حبي إِياه حتى الرمق الأَخير من كلماتي فيه…

يا ولَدي الوحيد: غدًا يوم أَمضي، سأُغْمض عينيَّ لا عن هذا العالم بل على نور عينيكَ انطَفَأَتَا ولم أَكُن حدَّكَ يومَ سَرَقتْكَ مني الذبحةُ القلبية… عسى غيابي يبرِّرُ لكَ تقصيري فيلتقي غيَابَانا عند لحظةٍ لا تنكسر، ويكون لقاؤُنا حضورًا دائمًا في دنيا دائمةٍ ليست من هذا العالم.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى