لبنان إلى أين؟
الدكتور ناصيف حتّي*
إذا كانت السنةُ الأولى للحربِ الإسرائيلية سنةَ غزّة والضفة الغربية، من دون أن يعني ذلك في نهايةِ العام الأوَّل الانتهاءَ من تلك الحرب، حرب الإلغاء والتدمير، وتحقيقَ الأهداف الإسرائيلية المُعلَنة، فإنَّ هذه الحرب في سنتها الثانية التي بدأت منذ أسبوع صارت حربَ إسرائيل في لبنان وفي الإقليم. تودُّ الدولة العبرية بالطبع أن تُوَظِّفَ استراتيجيةَ “وحدة الساحات” عند أعدائها لتحقيق أهدافها المُرتفعة السقف أيضًا من خلالِ تدميرِ البشرِ والحجر، ومحاولة التخلُّص كُلِّيًا، رُغمَ استحالةِ ذلك، من “المقاومة الإسلامية” في لبنان لما تحمله من تداعياتٍ إيجابية على إسرائيل على الصعيدِ الاستراتيجي في الإقليم. فالحربُ على الجبهة اللبنانية تمتدُّ عمليًا من لينان إلى الخليج وإلى البحر الاحمر، وتحديدًا من بيروت إلى دمشق والمدن السورية الأخرى، كما نشهدُ كل يوم إلى بغداد وإلى طهران، كما نسمع من تهديدات كل يوم. إنها حربٌ مفتوحة كما نذكر دائمًا في المكان والزمان.
الحديثُ في لبنان عن سلّةِ حلولٍ تشملُ وقفَ الحرب وانتخابَ رئيسٍ للجمهورية وإعادةَ إحياءِ المؤسّسات الدستورية من حكومةٍ وغيرها تذهب عمليًا نحو البدء بالحديث عن وقف الحرب. وقفٌ مؤقَّت في البداية كما أشارت إليه الورقة الأميركية-الفرنسية-العربية مع دولٍ أخرى. إسرائيل مُستَمرّة في رفضها وقف القتال، مُحاوِلةً إنجاز ما يُمكن إنجازه من مكاسب على الأرض، وهي لا تستطيع أن تُحقّقَ المزيد من “الإنجازات” إلّا بالمزيد من القتل والدمار. تُحاولُ إسرائيل الاستفادة من الزمن المُتبقّي للانتخابات الرئاسية الأميركية علَّ “الصديق دونالد ترامب” صاحب الهدايا من “كيس” فلسطين وسوريا، يعودُ إلى السلطة ويُطلقُ يد إسرائيل بشكلٍ أفضل في ما يتعلق بشكلٍ خاص في استراتيجية المواجهة مع إيران وحلفائها. الجديدُ اليوم هو أنَّ إسرائيل صارت تستهدفُ كرسالةٍ واضحة “قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (يونيفيل) لإخراجها من لبنان، مما يسمحُ لها التحرُّكَ بشكلٍ أفضل على المسرح القتالي اللبناني. إنها رسالةٌ أيضًا إلى جانبِ رسائل رَفضِ وقف إطلاق النار من قبل إسرائيل. رسائلٌ تقول إنَّ الحربَ مُستمرّة إلى أن تُحقّقَ إسرائيل أهدافها من إقامةِ منطقةٍ آمنة حسب مفهومها للأمن في جنوب الليطاني، وربط عودة المهجّرين اللبنانيين بعودة مواطنيها إلى شمال إسرائيل بشروطها ايضًا. الرسالةُ الإسرائيلية قوامها عدم العودة الى الترتيبات التي كانت تُنظّمُ وجود ال”يونيفيل” في جنوب لبنان تحت عنوان ما كان مُتَّفَقٌ على تسميته بالتنفيذ التدريجي للقرار 1701. تنفيذٌ يقومُ منذ 2006 على قواعد اشتباك تبلورت على أساسِ تفاهُماتٍ تكرّست مع الوقت.
على الصعيد اللبناني، هناك، رُغمَ الخطابِ المُرتَفع، حالةٌ من الانتظار لتنتظم الأمور في واشنطن للتفرُّغِ، كما يحلو للبعض أن يتصوَّرَ أو أن يحلمَ، للملف اللبناني. بدأ الحديث عن انتظارِ تفاهُمٍ يُسمى اختصارًا بتفاهم “ألف ألف” أو تفاهُم أميركي-إيراني يُذكِّرُ بتفاهماتٍ ماضية بين القوى الفاعلة حينذاك، حول قضايا إقليمية مختلفة. تفاهمٌ يُشكّلُ الأرضية للتسوية السياسية في لبنان. بالطبع كلُّ طرفٍ ينتظرُ أن يعكسَ التفاهمُ المطلوب توازنَ القوى في لحظةِ حدوث التفاهم لمصلحة هذا الطرف أو ذاك والكلُّ يحاول أن يُحسّنَ من وضعه على الأرض في لبنان أو في الخارج. إنهُ نوعٌ من القدرية السياسية في لبنان كرَّسَها العديدُ من تجارب الماضي. يتغيّرُ اللاعبون ولا تتغير قواعد اللعبة. إنه نوعٌ من شراء الوقت يقومُ على تسوياتٍ مؤقّتة هشّة تسقُطُ عند أوّلِ تغيُّرٍ في موازين القوى يشعر به أحدُ أطراف اللعبة أنّهُ لصالحه: تسوياتٌ مؤقّتة لا تصلُحُ لوقف النزيف الذي يُعاني منه لبنان على كافة الصُعُد: من دولة مؤسّسات مُعطَّلة أو مشلولة أو مُغَيَّبة، إلى انقساماتٍ مُجتمعيةٍ حادة مهما حاول البعض تغطيتها، إلى أزماتٍ بُنيويةٍ ماليةٍ واقتصادية وسياسية حادة تزداد سوءًا كل يوم. أضف إلى ذلك وجود أكثر من مليون نازح عددهم بتزايد كل يوم، وهناك الحاجة والضرورة الوطنية والأخلاقية لتوفير كافة أنواع المساعدات لهم.
الحديثُ عن العودةِ إلى الوَضعِ الذي كان قائمًا من قَبلٍ صارَ شبهَ مُستحيل، كما يذكر أكثر من مسؤولٍ أُممي ودولي، من دون أن يعني ذلك بالطبع القبول بالشروط الإسرائيلية، علمًا أنَّ إسرائيل كانت تخرق بنود القرار 1701 بشكلٍ مُستمر. اليوم هناك مسؤوليةٌ لبنانية تطالُ كافة المكوّنات الرئيسة للبحثِ في صيغةٍ عملية جديدة تحصلُ على الدعم الدولي والأُممي لتحقيق الهدوء الفعلي والثابت في الجنوب (جنوب الليطاني) حتى الخط الأزرق، والعمل على تثبيتِ الحدود الدولية للبنان، وهي الحدود التي تقومُ أساسًا على خط الهدنة. ياتي ذلك بالطبع تدريجًا في مرحلةٍ لاحقة.
إنَّ استراتيجيةَ توفير الأمن والاستقرار في الجنوب ليعود أبناؤه إليه هي مسؤوليةٌ لبنانية تستدعي التفاهُم الفعلي بين المُكوّنات السياسية كما أشرنا. تفاهمٌ يجب ان يكون عنوانه الإسراع، ولا نقول التسرُّع، في بلورةِ استراتيجيةٍ دفاعية، مستفدين من دروس الماضي، قوامها أنَّ قرارَ الحرب والسلم، كما ذكرنا دائمًا، وقرار أعمال الردع والإكراه في مواجهة العدو الاسرائيلي تبقى من مسؤولية السلطة السياسية اللبنانية. وللتذكير فانَّ كافةَ القوى السياسية، وفي طليعتها قوى المقاومة، تُشارك في هذة السلطة وبالتالي في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. إنها مسؤوليةٌ ليست بالسهلة خصوصًا في خضمِّ حرب التدمير والإبادة التي تقوم بها إسرائيل ضد لبنان. ولكنها بالضرورية حتى نرتقي الى مستوى بناء دولة المؤسسات والقرار الوطني المُوحَّد كفعلٍ وليس كشعارٍ فولكلوري، في كافة محالات الحياة الوطنية: فإصلاحُ لبنان مُجتمعًا ودولةً ومؤسّسات فعلٌ مُقاوم ليس بالسهل القيام به، ولكنه ضروريٌّ لبناء وطن لجميع أبنائه، أيًّا كانت انتماءاتهم السياسية أو العقائدية.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).