آليدا طربيه: ولادةُ التمثال من فاتحة قصيدة
هنري زغيب*
بعد فترة قاسية من الصمت، بسبب غياب المؤَسس، عادت ديالى سيزار نمور تفتح أَبواب متحف “مقام” (MACAM) للفن الحديث والمعاصر (عاليتا – قضاء جبيل) مستعيدةً نشاطَ والدها المؤَسس، واعدةً ببرنامجٍ مقبل في موسمٍ مقبلٍ حافلٍ بنشاطٍ تشكيلي ومسرحي وثقافي عامّ، يعود معه مجدَّدًا إِلى الحياة ذاك المصنعُ المهجور الذي حوَّلَه سيزار نمور سنة 2013 واحةً فريدةً للفن الراقي.
يكون أَن العودة ستارةٌ فَتَحَتْها النحاتة اللبنانية الفنزويلية آليدا طربيه بمعرضٍ (حتى 18 تشرين الأَول/أكتوبر) شاءَت موضوعَهُ مطلعَ قصيدة من مجموعة “ضفَّة حُلم” للشاعر الإِسباني أَنطونيو ماشادو (1875-1939) المعتَبَر أَشهر شعراء القرن العشرين بالإِسبانية، وفي معظم أَعماله عالج مواضيع الحلم والطبيعة والوعي الجمالي.
مطلعُ القصيدة: “أَيها المسافر: لا طريقَ أَمامكَ… أَنتَ بِـخطواتك تشُقُّ الطريق”. ومنه انطلقَت آليدا لتشكِّل معرضها الجديد، بمجموعة تماثيل معظمُها برونْزي ومعها أَعمال بالريزين والسيراميك، بتنظيم إِنجيلو غِــيُــوْوِي (مدير المركز الثقافي الإِيطالي في بيروت).
بعد خطَواته في بيروت قبل أَسابيع (مركز سرڤانتِس الإِسباني – بين 9 أَيار و27 حزيران/يونيو) يُكمل المسافر مشْيته في عاليتا، محاطًا بفيديو يبثُّ المشاهد وصوت رفعت طربيه يقرأُ باقة من قصائد ماشادو، وتشكيل عالَم على طريقة الكاتب والشاعر البريطاني جورج أُورويل (1903-1950) في روايته “1984”(صدرَت في لندن سنة 1949) لمتابعة خيال المسافر المتناهي من الخيال إِلى الواقع.
مراحلُ تشكيل هذا المعرض تبدأُ من نشأَة آليدا في شاتين (المحاذية تنورين في قضاء البترون)، وتجوالها إِلى كاراكاس ونيويورك وبرلين وبايروث (بافاريا – أَلمانيا) وباريس وسواها. كانت تلك رحلتها في البحث عن الذات.
يبدأُ المعرض من خارج المعرض: قدَم تَظهر من بعيد، تُرافق الواصلين قدَمًا بعد قدَمٍ حتى دخول الصالة الكبرى، حيث تَنتصب التماثيل في توزيع تتخلَّله فسُحات: هنا توأَمٌ، هناك امرأَة ذاتُ قناع، هنالك فتاةٌ مع بالونين، قُربها تمثال عروس، بعدها حذاء مستوحد، عودة إِلى تمثال المسافر، قبالَته يدٌ مرفوعة، حدَّهُ وجهٌ مزدوجٌ من أَمامٍ ومن خلْف، في جهة أُخرى ولدٌ بالأَزرق، في جهة مقابلة تمثالُ المرأَة المهاجرة أَمام حقيبتها الجاهزة لمرافقتها في الرحيل، في ناحية منفردة وجهُ امرأَة تَنضح بالسؤَال الحافي، وتتوالى الوجوه، وتتعدَّد الأَقنعة، وتبقى في الفضاء أَصداء صامتة تردِّد وُجهة المسافر الذي يبحث عن وُجهةٍ وهو موقن أَنه ذاهب إِلى اللاوُصول.
وكيف يكون وُصُولٌ ولا طريق، والطريق وَهْم، والحلْم لن يغادر الخيال. أَيكون المسافر وحيدًا؟ أَيَبقى وحيدًا؟ هل هو واعٍ أَنه في رحلة بدون نهاية؟ إِنها المغامرة المجهولة المصير، يرتكبها كل إِنسانٍ ما إِن يعي أَنَّ عليه شقَّ الطريق لتكون خطَواته هي الطريق. لا عجبَ إِذًا أَن يتيه في معارج الحياة عسى تنفتح له واضحةً تلك المعارج.
علامة آليدا طربيه أَنها تجرُؤ. وفي جرأَتها سطورٌ تخطُّها مرةً بالبرونز ومرةً بغيره، لتكتب النحت بلُغة متمايزة تبدأُ خارج المعرض وتكمل داخله في أَعمال تجمع الدهشة الحافية إِلى غرابة السؤَال.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.