تركيا في “بريكس”: مَوسِمُ الهجرة إلى الجنوب
محمّد قوّاص*
عَشِية الزيارة التي قام بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأنقرة، في 4 أيلول (سبتمبر) الجاري، تدافعت تقاريرٌ عدة، أغلبها من موسكو، تتحدّثُ عن طلبٍ قدّمتهُ تركيا للانضمامِ إلى مجموعة “بريكس”، وحضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قمّة المجموعة في قازان في روسيا في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. واستقبل الزعيم التركي ضيفه المصري بعدَ نحوِ عامٍ على دعوةِ “بريكس” مصر للانضمام إليها. وباتت مصر عضوًا “بريكسيًا” ابتداءً من أول العام الجاري، فيما يُفتَرَضُ بقمّةِ الشهرِ المُقبل أن تبتَّ في ملفِّ تركيا.
جاء قرارُ ضمّ مصر والإمارات والسعودية وإثيوبيا وإيران والأرجنتين إلى المجموعة في قمّة آب (أغسطس) 2023 لافتًا. وشكّل الحدث تحوُّلًا يُدشِّنُ توسُّعًا للتكتُّل صوبَ فضاءاتٍ جديدة. يعود إنشاء مجموعة “بريكس” إلى اتفاقِ 4 دول هي البرازيل وروسيا والهند والصين على إنشاء مجموعة أطلقوا عليها “بريك”، (مستخدمين الحرف الأول من اسم كل دولة)، في العام 2006. ثم انضمّت جنوب أفريقيا إلى المجموعة في العام 2010، ليصبح الاسم “بريكس”. غير أن لحدثِ الانضمامِ المُحتَمَل لتركيا (من بينِ دولٍ أخرى) أبعادًا مُتميِّزة قد تكون تاريخية في مشهد الاصطفافات الدولية الراهن.
تهدفُ مجموعة “بريكس” إلى تعزيزِ صوت الاقتصادات الناشئة الكبرى لموازنة النظام العالمي الذي تقوده الدول الغربية. ودعا الأعضاء المؤسّسون للمجموعة إلى إقامةِ نظامٍ عالميٍّ أكثر عدالةً وإصلاحِ المؤسّسات الدولية مثل الأمم المتحدة (ومجلس الأمن الدولي التابع لها) وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. غيرَ أنَّ المجموعةَ تُعتَبَرُ فضاءً جيوسياسيًا قد يُحسَبُ على نفوذ روسيا والصين في العالم. وتطمحُ الدولتان، اللتان أبرمتا، منذ شباط (فبراير) 2022، اتفاق “شراكة بلا حدود”، أن يُحيطا النفس بحلفاءٍ يشاركونهما الطموح والمصلحة والميل نحو أخذ مسافة من الغرب وزعامة الولايات المتحدة على منظومته. مع ذلك، فإنَّ المجموعة، حتى الآن، في بُعدِها الاقتصادي، ليست كذلك، ولا يمكن اعتبار تشكيلة أعضائها من طينةٍ إيديولوجية واحدة تسمحُ بقيامِ “تكتُّلٍ” مُتمرّد على مشهد الغرب المُقابل.
يَجرُّ انضمامُ تركيا ماءً إلى طواحين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المزهوِّ بجذبِ “أطلسيٍّ” إلى “الخندقِ المُقابل”. كان في حزيران (يونيو) الماضي قد رحّب بحبور، في أثناء استقبال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، باهتمامِ تركيا بالتكتُّل، ووَعَدَ بأنَّ موسكو “ستدعم هذا الطموح والرغبة في أن نكون معًا مع دول هذا التحالف، وأن نكون معًا، وأقرب، لحلِّ المشكلات المشتركة”.
تتحدّثُ منابرٌ في أنقرة عن أنَّ تركيا تسعى من خلال الانضمام إلى “بريكس” وغيرها إلى رَسمِ مسارها الخاص في “فترة التحوُّل العالمي”. غير أنَّ التحاقَ تركيا بقطار “بريكس” ليس تفصيلًا عاديًا. فتركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) منذ العام 1952، ولطالما كانت جُزءًا من منظومةِ الغرب في مرحلةِ الحرب الباردة ضدّ المعسكر الشرقي الذي كان يقوده القطبان اللدودان، الاتحاد السوفياتي والصين. ولا رَيبَ في أنَّ خبرَ انضمامِ عضوٍ من عائلة “ناتو” إلى عائلة “بريكس” يؤسّسُ لتصدُّعٍ في قواعد الأحلاف وشروطها. فإذا كان من طبيعة “بريكس” وحكاية تَشَكُّلِ المجموعة أن يكونَ الأعضاءُ من طباعٍ عقائدية مختلفة وحتى مُتعارِضة (نموذجا الصين-الهند ومصر-إثيوبيا مثالان)، فإنَّ ال”ناتو” قام على قاعدةٍ “إيديولوجية” واحدة في المنطلق والتوجُّه والأهداف.
يَكشُفُ الحدثُ حلقةً جديدةً من الحالة التركية “الشاذة” داخل المنظمّة العسكرية الغربية. ولا شك في أنَّ انضمام أنقرة إلى مجموعةٍ غير مُعادية عسكريًا (حتى الآن) مثل “بريكس”، هي أخفّ وطأة من سابقة دراماتيكية، حين اقتنت تركيا في العام 2019 منظومة الصواريخ الروسية من طراز “أس-400” (S-400) المُصَمَّمة أساسًا لمواجهة طائرات “الأطلسي” وصواريخه. وإذا ما ابتلعَ الأطلسيون علقم ذلك “الإثم” وتعايشوا مع تركيا داخل حلفهم في ظروف حرب أوكرانيا، فإنَّ أنقرة من خلال طرق باب “بريكس” وحضور قمّتها، وفي روسيا بالذات، تُمعِنُ في تأكيد التحليق خارج سرب يبدو بدوره مُبتَعِدًا عن مزاج أنقرة يومًا بعد آخر.
في داخلِ الـ”ناتو” صمتٌ بطعمِ الحيرة من التمرُّدِ الدائم لتركيا العضو المُشاكس. لكن همهمات من هناك تشير إلى أنَّ انضمامَ عضوٍ في حلف شمال الأطلسي إلى قائمة الانتظار لعضوية “بريكس” لا يتعارَضُ مع قواعد الحلف العسكري، وأنه من الناحية القانونية لا يوجد ما يردع ذلك. فما زال الأطلسيون يعتبرون أنَّ ليست لمجموعة “بريكس” التزاماتٌ تعاهدية ولا توجد آلية تشغيلية، ويصفونها بأنها “منظمة فضفاضة”. مع ذلك، إنَّ أهلَ الـ”ناتو” يجدون حجّ تركيا صوب “بريكس” يتناقَضُ قليلًا مع عضويتها الأطلسية. وفي واشنطن أيضًا صمتٌ وتأملٌ للحدث. ومن المُرَجّح أن يبقى كذلك. فلا أحدَ في موسم الانتخابات الرئاسية راغبٌ في فَتحِ معركةٍ مع أردوغان الذي “لا يُمكِنُ التنبُّؤ به”، بحسب رأيٍ في البيت الأبيض.
لا يبدو حتى الآن أنَّ تركيا ستُعبّدُ الطريق لتَسَرُّبِ أعضاءٍ أطلسيين آخرين نحو المجموعة الصاعدة. ولا يبدو في المقابل أنَّ تركيا بصددِ هَجرِ “أطلسيتها” والتخلّي عن طموحاتها للانضمام يومًا ما إلى “اتحادٍ أوروبي” ما برحَ، بوقاحة، يُرسِلُ إلى تركيا رسائلَ تَبَرُّمٍ تُساهِمُ في إقفالِ منافذ “أوروبا” أمام طموحات تركيا وآمالها. على أنَّ قرارَ أنقرة وقرار “بريكس” المُحتَمَل في التلاقي يمنحان “بريكس”، الصيني-الروسي الهوى، رئات تنفُّسٍ جديدة لتثبيتِ نضوجِ خياراتٍ بديلة عن النظام الدولي الراهن.
وإذا كانَ أعضاءُ مجموعة “بريكس” هم دولٌ تنتمي إلى تجمُّعات إقليمية ودولية أخرى (جامعة الدول العربية، منظمة التعاون الإسلامي، مجلس التعاون الخليجي، مجموعة العشرين، الاتحاد الأفريقي، منظمة شانغهاي للتعاون… إلخ)، فإنَّ الاستثناءَ التركي سيُشَكّلُ سابقة يصعب فيها الجزمُ بأن يكونَ الأمرُ اختراقًا يقومُ به ال”ناتو” لـ”بريكس” أو العكس. لكنَّ الثابتَ أنَّ تركيا أسقطت في “فعلتها” مُحَرَّمًا أطلسيًا يعودُ إلى حربٍ باردة اندثرت وانتهى زمانها. وكما يُردّدُ الأتراك هذه الأيام: هي أعراضُ “فترة التحوّل العالمي”.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).