لماذا يَتواصَلُ سمير جعجع مع “حزب الله” الذي يُعارِضه؟
مايكل يونغ*
منذُ الانتخابات العامة في لبنان في العام 2022، تمتّعَ حزب “القوات اللبنانية” بأكبرِ كتلةٍ مسيحية في البرلمان. مع ذلك، نادرًا ما استغلَّ زعيمه سمير جعجع هذه الميزة لتشكيلِ السياسة في اتجاهٍ مُعَيَّن. لقد ظلَّ خارج الحكومة، وبينما قد تكون كتلته نشطة في الشؤون التشريعية، كانت هناك نتائج ملموسة قليلة يُمكِنُ ربطها مباشرةً بجهودِ حزبه.
لكن، في الأول من أيلول (سبتمبر)، في القداس السنوي الذي يُقيمه حزب “القوات اللبنانية” ل”شهدائه”، ألقى جعجع خطابًا مُثيرًا للاهتمام، والذي عَنى أنه يهدفُ إلى استخدامِ مكانةِ حزبه بقوّةٍ أكبر. كرّرَ نقاطًا خطابية مألوفة من الماضي -على سبيل المثال كيف يقوم “حزب الله” بتنفيذِ خطةٍ إقليمية إيرانية على حساب الدولة اللبنانية ومصالحها- لكنه فتح أيضًا أبوابًا كانت جديدة حقًّا.
كانت هناكَ خمسةُ استنتاجاتٍ رئيسة من خطابه. أوّلها كان إصرار جعجع على أنَّ العالم العربي والمجتمع الدولي لن يتحدّثا إلى “حزب الله” بعد الصراع الحالي مع إسرائيل، بل سيتحدّثان بدلًا من ذلك إلى أمثال “القوات اللبنانية”: “الجميع في اليوم التالي للحرب سيتفاوضون مع مَن يملك مفاتيح اليوم التالي، مفاتيح المستقبل، معْ مَنْ يملك الرّؤيا والخطّة والإصلاح”. ولهذا السبب، اختتم جعجع بقوله: “بُكرا إلنا” (الغدُ لنا).
وقد أكّدَ هذا على النقطة الثانية التي أشار إليها جعجع، وهي أنه حتى لو كانت الأعداد الديموغرافية المسيحية تنخفض، فإنَّ المجتمع لا يزال يلعب دورًا مركزيًا في لبنان. وفي ضوء ذلك، كان المُحاورُ الرئيس مع المجتمعات المُسلمة (ومع المجتمع الدولي) على الجانب المسيحي هو حزب “القوات اللبنانية”، وليس “التيار الوطني الحر” الذي يتزعمه ميشال عون وجبران باسيل، والذي يُعاني حاليًا من خلافاتٍ وانقساماتٍ داخلية.
واستطرد جعجع مؤكِّدًا أنَّ رئيسَ الجمهورية اللبنانية، وهو مسيحي ماروني تقليديًا، لا يُمكِنُ اختياره من قبل الثُنائي الشيعي، “حزب الله” وحليفته حركة “أمل” التي يتزعّمها رئيس مجلس النواب نبيه بري: “الطريق إلى القصر الرئاسي في بعبدا لا يمرُّ في [مقر حزب الله في] حارة حريك، والدخول إلى قصر بعبدا لا يتم من بوابة [مقر إقامة السيد بري في] عين التينة”.
والنقطة الرابعة المُستَفادة هي أنَّ جعجع وَضَعَ نفسه في موقفِ المُدافع عن مشروع الدولة. لقد فعل هذا في وقتٍ تتفكّكُ الدولة اللبنانية وتنهار تدريجًا، وتغيب عن قرارِ الدخول في الحرب مع إسرائيل، ويبتلعها الفساد، وتواجه بنية عسكرية موازية في هيئة “حزب الله”. ولا بُدَّ أنَّ جعجع قد تعلّمَ درسًا من الرئيس عون، الذي استمدَّ شعبيته في العام 1988 من دفاعه عن الدولة ضد الميليشيات التي كانت في زمن الحرب، والتي كان جعجع أحد قادتها.
وأخيرًا، أدلى جعجع بتصريحٍ كان له صدى كبير. وكان مُوَجَّها في المقام الأول إلى “حزب الله”: “فلننتخب أوّلًا رئيسًا للجمهورية، وفقًا للدستور. وبعد ذلك، نحن مستعدون للدعوة إلى طاولة حوار وطني صادقة في قصر بعبدا حيث سنتناول جميع همومنا الوطنية. وينبغي أن تُركّز المناقشة على سؤال واحد: أي نوع من لبنان نريد؟ … لقد حان الوقت لحل النزاعات الأساسية التي تمنع إقامة دولة عاملة وتُبقي لبنان مرتعًا للفوضى والفساد وعدم الاستقرار”.
لقد عَبَّرَ جعجع هنا عن استعداده لمُناقَشة تجديد النظام السياسي اللبناني مع “حزب الله”. وليس من المُستَغرَب أن يُثيرَ هذا الأمر قلق البعض داخل الطائفة السنّية في البلاد الذي رأى في كلماته رغبةً مُحتَمَلة في التخلّي عن دستور الطائف، والذي يعتقد الكثيرون في الطائفة أنه يصبُّ في مصلحتهم.
وباتباعِ هذا النهج، بدا جعجع وكأنّهُ يُحاوِلُ فرضَ مُعادلةٍ جديدة في النظام السياسي. كان هدفه الأوّل هو تصوير نفسه كشخصٍ لديه رؤية لدولةٍ قوية، على حدّ تعبيره، وهو الشخصية المسيحية المارونية الأبرز، والتي لم يعد بإمكان “حزب الله” تجاوزها. بعبارةٍ أخرى، هو شخصٌ يجب أن يكونَ له رأيُ مُهم بالنسبة إلى مستقبل لبنان.
إنَّ هذا يبدو أشبه بمشروعٍ رئاسي، حتى وإن كان جعجع يُدرِكُ أنه لن يتمكّنَ أبدًا من أن يصبح رئيسًا طالما ظلَّ مُعارِضًا ل”حزب الله”. مع ذلك، فإنَّ لديه العديد من الأهداف التي لا ترقى إلى الرئاسة. فهو يريدُ حشدَ أغلب الناخبين المسيحيين إلى جانبه، وبالتالي تهميش العونيين بشكلٍ دائم كقوةٍ سياسيةٍ مسيحية رئيسة ومَنع “حزب الله” من استغلال الانقسامات في المجتمع المسيحي.
ويبدو أنَّ جعجع يُريدُ أيضًا أن يحتلَّ مكانةً كبديلٍ من “حزب الله”، وهو البديل الذي يُمكنُ للعالم العربي والمجتمع الدولي أن يتحدّثا معه في المستقبل، وخصوصًا في غياب رئيسٍ للجمهورية. ومن خلال القيام بذلك، فإنه يحاول أيضًا أن يُصبحَ “صانع الرؤساء” لأيِّ رئيسٍ مستقبلي.
من خلال الحديث عن إحياءِ الدولة، يسعى جعجع إلى إعادة اختراعِ نفسه كسياسي وطني، وليس مجرّد سياسي ماروني طائفي. والمشكلة هي أنه فَشلَ إلى حدٍّ كبير في ذكر السكان السنّة، وهم أكبر طائفة في لبنان، مُفضّلًا توجيه تعليقاته بشكل مباشر أو غير مباشر إلى “حزب الله” الشيعي. في الواقع، وكما لاحظ أحد المشاركين في القداس، لم يُدعَ أيٌّ من السياسيين المسيحيين الذين كانوا في كتلة رئيس الوزراء السابق سعد الحريري إلى الحفل.
قد يُحذّرُ البعضُ من أن جعجع يبالغ في تقدير قوته وموقفه. ربما، ولكن في هذه المرحلة ليس لديه ما يخسره. لقد خلقت الانقسامات في المعسكر العوني فرصةً له ليبرز باعتباره الشخصية المارونية الأبرز في لبنان، في حين يبحث العديد من اللبنانيين عن شخصٍ يَدَّعي أنه يمتلك رؤية وطنية في الوقت الذي يرون دولتهم تنهار.
إذا كان “حزب الله” يتطلّعُ إلى تهدئة الطوائف الأخرى وإيجادِ أساسٍ أكثر صلابة لوجوده المسلح المُتنازَع عليه بشدّة في لبنان من ذلك الموجود اليوم، فقد يجد الحزب صعوبةً في تجاهُلِ جعجع. وهذا هو رهانه على أيِّ حال.
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.