في الوطن الضائع: ما الذي حَطَّمَ المشرقَ العربي، وهل يُمكِنُ إصلاحه؟

في الأمدِ البعيد، ونظرًا لموهبةِ وديناميكيةِ شعوبها، فإنَّ بلدانَ المشرق العربي مُقدَّرٌ لها أن تنهضَ من جديد، ولكنَّ السنواتَ المقبلة لا تزال مليئة بالعقبات الكبرى والعديد من الطرق المسدودة.

طريق مطار بيروت: تعتقد أنك في طهران!

بول سالم*

العودة

بعد 11 عامًا قضيتُها في الولايات المتحدة، عُدتُ إلى الأرض التي أُدعوها وطني. كانَ مطارُ بيروت مُزدَحِمًا وفوضويًا كعادته، لكنني وزملائي الركاب تَمَكّنا جميعًا من تجاوُزِ فَحصِ جوازاتِ السفر واستلامِ الأمتعة بكفاءةٍ مُدهِشة. ضربني الهواءُ الحارُ الرَطب، الذي تفوحُ منه رائحة البحر الأبيض المتوسط ​​القريب، وأنا أسيرُ خارج المطار. كنتُ أتوقّعُ مزاجًا كئيبًا، ولكنني بدلًا من ذلك استقبلتني طبولٌ احتفالية و”ناي” من القصب لشابٍ عائدٍ للتوِّ من الحجِّ أو يَستَعِدُّ لحفل زفاف – لم أستطع أن أُحَدّدَ أيَّهما.

صعدتُ إلي السيارة التي انطلقت بي على طريق المطار: بعيدًا من حركة المرور المجنونة والدرّاجات البخارية التي تنطلقُ في كلِّ اتجاه، ذكّرتني المُلصَقات الكبيرة والكثيرة على ضفّتي الطريق لشهداء “حزب الله” وزعماء الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالبلد المُحَطَّم الذي كنتُ أعودُ إليه. لقد انخرطتُ سريعًا في تأمّلاتٍ قاتمة حول كيف انحدرَ لبنان، الذي كان ذات يوم ملاذًا فريدًا من نوعه مُزدَهرًا وسلميًا وتعدُّديًا، إلى هذا المستوى المُتدنّي: دولةٌ مُنهارةٌ تقريبًا، واقتصادٌ مُدَمَّرٌ مع نظامٍ مصرفيٍّ مُغلَق، وجماعةٌ مُسلَّحة قوية ــتدعَمُها إيران ــ تُهيمِنُ على رُقعةِ الشطرنج السياسية، وطبقةٌ سياسيةٌ فاسدة تجلُس على قمّة الأنقاض، وبلدٌ على شفا حربٍ كبرى أخرى مع جارته الجنوبية إسرائيل. لكن أفكاري تجاوزت لبنان إلى المشرق العربي الأوسع، إلى سوريا والعراق، وبالطبع فلسطين. المشرق العربي، الذي كان قبل سبعة أو ثمانية عقود فقط يبدو وكأنه يحمُلُ كلَّ الوعدِ بصعودٍ ناجح وازدهارٍ في أواخر القرن العشرين وما بعده، أصبحَ الآن في حالةِ خرابٍ وفوضى إلى حدٍّ كبير. وتساءلتُ: ما الذي حطّمَ المشرق العربي؟ وهل يُمكِنُ إصلاحه؟ في الأمد البعيد، من المؤكد أنَّ هذا سيكونُ مُمكِنًا، لكن في الأمد القريب، يبدو أنَّ الطريقَ إلى الأمام مسدودٌ بشكلٍ خطير.

الإرثُ الطويلُ للمشرق العربي

في بحثي عن إجابات، ذهَبَت أفكاري أوّلًا إلى الفترة التأسيسية الطويلة للحُكمِ العثماني. على عَكسِ مصر أو المغرب، لم يكن هناك سوى القليل من الشبه بالحكم الذاتي أو السيادة في الحكم العثماني للأقاليم التي تُشكِّلُ الآن جُزءًا كبيرًا من المشرق العربي. حَكَمَ الأتراك العثمانيون معظم هذه الأقاليم بشكلٍ مباشر وقوي، مُعتَمِدين في المقام الأول على استخدامِ القوة أو التهديدِ بها، وإدارة السياسة من موقع قوة مع الأعيان المحلّيين والزعماء الدينيين ومُلّاك الأراضي. وقد عاد هذا النمط من سياسة القوة أوَّلًا إلى الظهور في أنظمة حزب “البعث” القمعية في عهد صدام حسين في العراق وعَهدَي حافظ وبشار الأسد في سوريا. انحرفَ لبنان -أو جبل لبنان، كما كان معروفًا في العصر العثماني- عن نَمَطِ الحُكمِ المباشر هذا، حيثُ تمتّعَ بقدرٍ من الحكم الذاتي في الجبال؛ وطوّرَ سياساته الخاصة لتقاسُمِ السلطة والمساومة بين العائلات الطائفية وشبه الإقطاعية في المتصرّفية، بينما اجتذبَ أيضًا جميعَ أنواعِ الدول الأجنبية لمُحاولةِ اكتسابِ ميزةٍ محلّية – وهو النمطُ الذي لا يزال مستمرًّا بشكلٍ مأسوي حتى يومنا هذا.

تسامحت السلطنة العثمانية مع التنوُّع. على الرُغمِ من كونها نظامًا طائفيًا يُهيمن عليه أهل السُنّة، إلّا أنها منحت الشرعية للُمجتمعات المسيحية واليهودية داخلها. كان هذا التنوُّع إحدى إيجابياتها، لكنه عنى أيضًا أنَّ الهويات الطائفية ظلّت قوية طوال الوقت؛ وبينما حاول العديد من دول المشرق العربي -باستثناء لبنان- ونجحَ إلى حدٍّ ما مؤقتًا في التغلب على الانقسامات الطائفية لصالح القومية الأوسع وبرنامج بناء الدولة الطموح، فإنَّ هذه الهويات الطائفية عادت بقوة في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين لتمزيق هذه المجتمعات وتسميمها.

لكن في حين حافظت الفترةُ العثمانية على قرونٍ عديدة من الهدوءِ النسبي، ونظامٍ اجتماعي تعدُّدي ومتنوِّعٍ إلى حدٍّ ما، وشبكاتٍ اقتصاديةٍ واسعة، فإنها كانت أيضًا فترةً لم تتطوَّر فيها ممارسات أو مؤسّسات الحُكم الذاتي؛ بل كانت بدلًا من ذلك تتمتّعُ بتجربةِ الحكم البريتوري إلى حدٍّ كبير. في الوقت نفسه، حافظ التسامُحُ مع التنوُّع، الذي حظي بإشادةٍ كبيرة، على أنماطِ الهوية الطائفية التي عادت لاحقًا لتأكل نصيبها من “اللحمِ الحي المشرقي”.

الولادةُ المُضطربة للدول المَشرقية

أطلقَ انحدارُ السلطنة العثمانية وانهيارُها العنانَ للآمالِ والطموحاتِ العالية بين السكان النشطين في الولايات العربية الشرقية. لكن التسويات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى وتأسيس الحكم الانتدابي البريطاني والفرنسي وضعت حَدًّا لهذه الآمال. فقد تمَّ التخلّي عن الوعود بإقامةِ دولةٍ عربية موحَّدة، على الأقل في هذه الولايات العربية الشرقية، التي قطعها البريطانيون أثناء الحرب، لصالح تقسيم المنطقة إلى دويلاتٍ تعسُّفية إلى حدٍّ ما تحت الحكم البريطاني أو الفرنسي. وفي العام 1917، وعدت المملكة المتحدة أيضًا الحركة الصهيونية بإقامةِ وطنٍ يهودي في فلسطين، الأمر الذي مهّدَ الطريق لقرنٍ ــحتى الآن ــ من الصراعات، والتي كان آخرها الصراع الذي هزَّ المنطقة منذ تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي.

كانت الحدودُ التعسُّفية التي خلقت بلدان فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى بمثابةِ عَيبٍ خُلقي مُعوّق، حيث كان من المُفتَرَض أن تقومَ دولةٌ قوميةٌ حديثة تتعايش بين هويةٍ وطنية واضحة ودولة متوافقة تجلس على رأسها. وقد غذّت مسألةُ الهوية الوطنية الصراعَ السياسي والمسلح على مدى عقود -بين القوميين العرب الذين يدعون إلى اتحادٍ أوسع والقوميين المحلّيين؛ بين الإسلاميين الذين ينتقدون الحدود الاصطناعية للدولة العلمانية ويدعون إلى دولة إسلامية أوسع، بما في ذلك الحروب الأخيرة مع تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)؛ وبين الجماعات دون الوطنية، على سبيل المثال، الأكراد في العراق وسوريا أو المسيحيون خلال فترات الحرب الأهلية اللبنانية، الذين يدعون إلى الانفصال ودولٍ أصغر وأكثر تجانُسًا عرقيًا وطائفيًا. كانت سلطات الانتداب أيضًا في الأساس أشكالًا للحُكمِ تعتمد على القوّة أوّلًا، مع فَرضِ النظام والحفاظ عليه بالإكراه في المقام الأول. كما اعتمدت على تمكين الأقلّيات للمساعدة على احتواء الأغلبية السنّية الكبيرة والمُعادية إلى حدٍّ كبير في المنطقة وموازنتها. لقد استمرت الحرب الأهلية، الإرث الرئيس لهذا التكتيك، في سوريا، حيث دمّرَ النظام الذي يُهيمنُ عليه العلويون البلاد من أجل البقاء في السلطة، وفي لبنان، حيث تركت الهيمنة المارونية البلاد غير قابلة للحُكم إلى حدٍّ كبير، وفي فلسطين، حيث أشعلت الهيمنة اليهودية صراعًا دام قرنًا ولا يزال مستمرًّا.

من ناحيةٍ أخرى، جلبت قوى الانتداب معها أيضًا مؤسّسات الديموقراطية الليبرالية، والحكومة التمثيلية، وفصل السلطات، وسيادة القانون، وما إلى ذلك. والواقع أنَّ تفويضَ عصبة الأمم لهذه القوى كانَ يتلخّصُ في إعداد هذه الدول الجديدة للاستقلال والحُكم الذاتي. ففي سوريا ولبنان، كان الحكمُ عبارةً عن شكلٍ جمهوري من أشكال الديموقراطية الناشئة، في حين كان الحكم في العراق والأردن مَبنيًا على أساسِ المَلَكية الدستورية. ومن المثير للاهتمام أنَّ هذا الشكل الحديث المُتعدّد الأحزاب من السياسات الليبرالية التنافسية شكّلَ الحياة السياسية الرئيسة في هذه البلدان، حتى في مصر خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، ولفترةٍ قصيرةٍ بعدَ الاستقلال.

الاستقلالُ والحربُ الباردة

جلبت الحرب العالمية الثانية نهايةً للنظامِ الاستعماري ومنحت الاستقلالَ لهذه الدول الجديدة. وقد أثارَ هذا التطوُّر التفاؤلَ حيث وقعت النُخَب الوطنية بفخاخِ الحكم الديموقراطي وحاولت جعله يعمل ــ لفترة قصيرة في سوريا والعراق، ولفترة أطول في لبنان. ولكن الحرب العالمية الثانية كشفت أيضًا عن المحرقة في أوروبا وجدّدت الشعور بالإلحاح لإقامةِ وطنٍ يهودي وملاذٍ آمن في فلسطين. ولقد أدى هذا بسرعة إلى اندلاعِ صراعٍ مسلّح في فلسطين، والذي اجتذب الدول العربية المجاورة وانتهى بانتصار الجماعات المسلحة الصهيونية وتأسيس دولة إسرائيل. وسرعان ما تحوّلَ نزوحُ اللاجئين الفلسطينيين إلى الدول المجاورة وعواطف هذا الصراع إلى قوةٍ دافعة في السياسة الإقليمية، وعلى الرُغم من المَدِّ والجزر، لا يزال صداها يتردّد على نطاق واسع في جميع أنحاء المنطقة كما نرى اليوم، بعد 76 عامًا. وعلى التوالي، استسلمت مصر وسوريا والعراق للانقلابات القومية، وأزالت تجاربها شبه الديموقراطية، وألغت الحياة المدنية والسياسية الحرة، وأمّمت الكثير من اقتصاداتها، وبنت دكتاتوريات عسكرية أو حزبية واحدة ذات سجل قاسٍ على نحوٍ متزايد من القمع. وتمسَّكَ لبنان بنموذجه الديموقراطي التعدّدي حتى استسلم للحرب الأهلية في العام 1975، وحافظ الأردن على نظامه الملكي في حين صدَّ محاولات انقلابية. ومن غير المستغرب أن يطوِّر الفلسطينيون في نهاية المطاف وسائل مختلفة للمقاومة المسلحة.

لم تؤدِّ الحربُ الباردة إلّا إلى ترسيخِ هذه الانقسامات. فقد دعم الغرب إسرائيل والأردن ولبنان، في حين دعم الاتحاد السوفياتي سوريا والعراق ومصر بعد الانقلاب. كما عزّزت الحرب الباردة النمط القديم المتمثِّل في الاعتماد على القوى الخارجية للحصول على الدعم، ومنحت النخب الحاكمة المحلية دعمًا أجنبيًا لمقاومة التغيير السياسي في الداخل. ولكن الاهتمام الأميركي والسوفياتي بالمنطقة جلب معه أيضًا الدعم الخارجي للتنمية المحلية، سواء من حيث بناء الدولة أو من حيث التنمية الاجتماعية والاقتصادية؛ وتحققت مكاسب في مستويات التعليم والإسكان والرعاية الصحية ونمو الناتج المحلي الإجمالي. كما أعطى النظام الثنائي القطبي القوي قدرًا من الاستقرار والقدرة على الإدارة للنظام غير المُنَظَّم في الشرق الأوسط.

صدمات العام 1979

جاءت صدمةٌ كبرى لهذا النظام في العام 1979 مع الإطاحة بشاه إيران وتأسيس الجمهورية الإسلامية، التي لم تتناسب مع نظام الشرق والغرب، ولم تتوافق مع الكتلة السوفياتية الاشتراكية العلمانية أو الغرب الديموقراطي العلماني الليبرالي. لقد أشارت إلى طريقٍ إسلامي ثالث. وتعزّزَ هذا بفضل المقاومة الإسلامية القوية والناجحة في نهاية المطاف للغزو السوفياتي لأفغانستان في العام 1979، والتحوّل الإسلامي في المملكة العربية السعودية بعد الهجوم على المسجد الحرام في مكة، في العام 1979 أيضًا. وكانت القومية العربية العلمانية تلقت أصلًا ضربةً قاصمة في العام 1967 مع الهزيمة المدمِّرة التي لحقت بمصر في عهد جمال عبد الناصر والدول المتحالفة معها في مواجهة القوات الإسرائيلية. وقد أعطت هذه الديناميكيات التشجيع لمختلف الحركات الإسلامية، السُنّية والشيعية، في مختلف أنحاء المشرق العربي، والتي كانت الحركات القومية واليسارية العلمانية طغت عليها إلى حدٍّ كبير خلال العقود العديدة السابقة.

أعلنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالطبع عن عدائها للولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ما كان من شأنه أن يؤدّي في حد ذاته إلى زيادة التوترات في المشرق العربي، لكنها أعلنت أيضًا عن طموحاتها في تصدير ثورتها إلى الخارج، بما في ذلك إلى الخليج والمشرق العربي. وقد شنَّ العراق بقيادة صدام حسين، بدعمٍ من دول الخليج، حربًا على إيران استمرت لما يقرب من عقد من الزمان. ونتيجةً لهذا، ابتعد العراق من مسار التنمية الذي شرع فيه في الأصل وعانى من المزيد من القرارات المتهوّرة التي اتخذها صدام، بما في ذلك غزو الكويت في وقت لاحق، والحرب في نهاية المطاف مع الولايات المتحدة. وبالنسبة إلى إيران، أدّى الصراع على الفور إلى تقوية النظام الجديد، وزيادة شعوره بعدم الأمان، وشجّعه على مضاعفة الجهود لإيجاد وبناء حلفاء مسلّحين في الدول العربية. وقد عزز هذا تحالفها مع سوريا، والتزامها ب”حزب الله” في لبنان، وفي نهاية المطاف، أدى إلى تشكيل وكلاء على غرار “حزب الله” في العراق واليمن وسوريا.

الفُرَص والمخاطر التي يفرضها نظام ما بعد الحرب الباردة

جلبت نهاية نظام الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي فرصًا ولكن أيضًا عدم استقرار خاص به، كان أهمها أنه ترك الولايات المتحدة من دون رادع. وقد أدّى هذا إلى أول تدخل عسكري أميركي مباشر كبير في الشرق الأوسط بالحرب التي قادتها أميركا لطرد العراق من الكويت. وقد دعمت الحرب معظم دول المنطقة وعلى المستوى الدولي، ولكن من العدل أن نقول إنَّ الولايات المتحدة لم تكن لتُفَكِّر في مثل هذا الانتشار المباشر خلال الحرب الباردة. خلق نجاح حرب الخليج الأولى سابقة وتوقّعات بالنجاح والتي تبعتها بعد عقد مبادرتان عسكريتان أخريان بقيادة الولايات المتحدة وانتهتا بشكل كارثي: الحرب للإطاحة بطالبان في أفغانستان وغزو واحتلال العراق. يمكن القول إنَّ حربَ الخليج الأولى كانت عملية استقرار لاستعادة النظام الإقليمي بعد الغزو العراقي، وقد دعمتها حتى سوريا؛ كانت للحرب الثانية في المشرق العربي ــ غزو العراق ــ تأثيرات مزعزعة للاستقرار متعددة: خلقت فراغًا في السلطة في العراق، وعززت نفوذ إيران، وأعطت وقودًا جديدًا لتنظيم “القاعدة” والجماعات المتطرفة المماثلة، والتي تحوّلت في ما بعد إلى تنظيم “الدولة الإسلامية”.

لقد اكتسب  تنظيم “القاعدة” وغيره من الجماعاتِ المُتَطَرِّفة بالفعل قوةً بعد هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وحوَّلَ هذا الزخم إلى حرب ضد الولايات المتحدة. وبدوره استخدم تنظيم “الدولة الإسلامية” هذا الزخم أيضًا لمحاولة الاستيلاء على المشرق العربي واستبدال الدول الهشّة القائمة بدولةٍ إسلاميةٍ خاصة به.

الانتفاضات العربية

في العقد الثاني من القرن الحالي، كانت الانتفاضاتُ العربية مدفوعةً إلى حدٍّ كبيرٍ بعوامل محلية كانت تختمر لسنواتٍ عديدة، ولكن من العدل أن نقولَ إنَّ المُحتَجِّين استَمَدُّوا بعضَ التشجيع من الانتفاضات الناجحة قبل عقدَين في أوروبا الوسطى والشرقية وانهيار الأنظمة الشمولية القائمة هناك. وفي المشرق العربي، ضربت الانتفاضات العربية سوريا بشدة. وكانت الدكتاتورية في بغداد أُطيحت أصلًا قبل عقدٍ تقريبًا، وكان العراقُ يكافح مع وفرةٍ من الانقسامات الداخلية والصراعِ والفسادِ وقضايا الأمن، وإن كان ذلك في سياق الانتخابات وحكومات تقاسم السلطة والنظام الدستوري المُهتَز والهشّ. ولبنان أيضًا لم تكن لديه دكتاتورية يمكن إزاحتها، لكنه كان يُعاني من ميليشيا “حزب الله” الراسخة وأوليغارشية طائفية فاسدة كان من الصعب إزاحتها، حتى مع انتخاباتٍ مُنتظمة. وتعرّضَ الأردن لضغوطٍ شديدة، لكن مثله كمثل الأنظمة الملكية الأخرى في المغرب والكويت، كان بوسع المملكة الأردنية أن تُديرَ التوازُن بين التكيُّفِ والقمع، وهو ما لم تتمكّن الجمهوريات الاستبدادية العلمانية مثل سوريا من تحقيقه. فالملوك قادرون على التكيُّفِ مع الانتخابات وتقاسُم السلطة مع المسؤولين المُنتَخَبين، لأن وضعهم كحكامٍ لا يقوم على الانتخابات ولا يمكن الطعن فيه على هذا الأساس؛ أما الرؤساء العلمانيون فلا يملكون هذا الخيار. كما تعلّمَ الرئيس السوري من الرؤساء في تونس ومصر وليبيا واليمن أن التكيُّفَ مع المُحتَجّين المُطالبين بتقاسُم السلطة كان مُنحَدَرًا زَلِقًا من شأنه أن يؤدي إلى الإطاحة بالرئيس أو ما هو أسوأ. وكان الدرس الذي تعلمه هو أنَّ الأمرَ كان عبارةً عن معركةٍ إما كلّ شيء أو لا شيء، وهذه هي الطريقة التي واجه بها الانتفاضة بين شعبه. وقد أدّت هذه المواجهة إلى تدمير سوريا ــالدولة المركزية في المشرق العربي ــ وتركتها بلا مسار واضح لإعادة البناء والتعافي في المستقبل المنظور.

ثلاثُ عقباتٍ رئيسة على الطريق إلى الأمام

عندما هبطتُ عائدًا إلى المشرق العربي، كان هذا هو المشهد الذي عاينته. لبنان تُهيمِنُ عليه ميليشيا مدعومة من إيران، مع حُكمٍ طائفي فاسد، ودولةٍ مُنهارة بالكامل تقريبًا، ونظامٍ مصرفيٍّ مُفلِس، واقتصادٍ مَريضٍ بشدة. سوريا مُمزَّقة إلى أشلاء وركعت على ركبتيها، ولا يوجد مسارٌ واضحٌ لها للمضي قُدُمًا. العراق يحاولُ السيرَ إلى الأمام، لكنه مُثقَلٌ بمشكلةٍ كبيرة مع الميليشيات المدعومة من إيران، ومستوياتٍ عالية من الفساد، وانقساماتٍ داخلية حادة مُستَمرّة. فلسطين الضعيفة عالقة في صراعٍ مع إسرائيل القوية، ولا توجَدُ أيُّ آفاقٍ حقيقية لحلٍّ في الأفق. والأردن، وحده في المشرق العربي، يُكافحُ للحفاظ على دولةٍ فعّالة وسيادتها، وإن كانَ يعتمدُ بشكلٍ كبير على الدعم الخارجي.

هل يُمكِنُ إصلاح المشرق العربي المُحَطَّم؟ في الأمد البعيد، بالتأكيد يُمكِنُ ذلك؛ ولكن في الأمد القريب، من الصعب أن نرى أيَّ مسارٍ سريع للمضي قُدُمًا. ثلاثُ عقبات رئيسة تسدُّ الطريق. العقبة الأولى هي الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني الذي لم يُحَل بَعد وغيابُ أيّ مسارٍ لحلِّ الدولتين من شأنه أن يُوفِّرَ نهايةً مُستدامة ومقبولة لهذا الصراع الذي دامَ قرنًا من الزمان. إنَّ عدمَ حلِّ هذا الصراع لا يؤثّرُ في حياة الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، بل إنه يَنشُرُ أيضًا التطرُّفَ وعدم الاستقرار في مختلف أنحاء المنطقة. والعقبة الثانية هي الوضع الذي استثمرته الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والذي يتمثل في الوجود العسكري الدائم في ثلاث دول في المشرق العربي (لبنان وسوريا والعراق) من خلال الميليشيات الحليفة/العميلة التي تُموّلها وتُسلّحها وتُشرِفُ عليها، ورفضها النظر في أيِّ إعادةِ تفكيرٍ جذرية في هذه الاستراتيجية. والحقيقةُ أنَّ إعلانها عن نفسها في صراعٍ دائمٍ مع إسرائيل والولايات المتحدة ــواستخدامها الدول العربية لخوض هذا الصراع ــ يجعلُ الأمور أسوأ. والعقبة الثالثة هي الانسداد الأساسي في سوريا ورفض نظام الأسد النظر في أيِّ مفاوضاتٍ أو إصلاحٍ لإعادة توحيد بلاده المدمّرة والمُقسّمة من جديد.

إنَّ التغيير في المسار الإسرائيلي-الفلسطيني يبدو أبعد من أيِّ وقتٍ مضى بعد هجمات “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) والحرب الإسرائيلية الواسعة النطاق على غزة التي أعقبت ذلك. لكن حلَّ الدولتين يظلُّ أيضًا الخيارَ الوحيد القابل للتطبيق في الأمد البعيد. وإذا ظهرت قياداتٌ جديدة في إسرائيل وفلسطين، إلى جانبِ قياداتٍ أكثر فعالية من جانب الولايات المتحدة وموقفٍ أكثر جرأة من جانب المملكة العربية السعودية، فإنَّ حلَّ الدولتين في مرحلةٍ ما من الطريق ليس مستحيلًا. سوفَ يتطلّبُ الأمر تحوُّلًا عميقًا مثل التحوّل الذي أحدثته فرنسا وألمانيا بعد أن قررتا وضع حربين عالميتَين خلفهما وبناء أوروبا أكثر استقرارًا.

عندما يتعلّقُ الأمرُ بإيران، لا أحدَ يُشكّك في أنَّ طهران سوف تظلُّ دومًا لاعبًا رئيسًا في الشرق الأوسط، لكن هل يُمكنها أن تصلَ إلى نقطة التخلّي عن سياستها المُتمثّلة في بناءِ أمنها على انعدام الأمن وانتهاك سيادة جيرانها العرب في المشرق العربي؟ هذا أمرٌ يُمكِنُ تصوُّره. ورُغمَ صعوبةِ الحصولِ على قراءاتٍ دقيقةٍ للرأي العام في إيران، فقد أعربت غالبية الشباب الإيرانيين مرارًا وتكرارًا عن أولوياتها في تلبية الاحتياجات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية المحلية. إنَّ التغييرَ قد يأتي إلى إيران، إما من خلال ظهورِ قيادةٍ وسياسةٍ جديدة داخل الجمهورية الإسلامية أو من خلال تغييرٍ أكثر جوهرية.

في الوقت نفسه، منَ المُمكن أن يكونَ هناكَ شكلٌ من أشكالِ خَفضِ التصعيد وتخفيف الصراع، كما كان الأمرُ مع الاتفاق السعودي-الإيراني في آذار (مارس) 2023 الذي توسّطت فيه الصين. لكن لا شكَّ أنَّ إيران ذات التوجُّهِ المُختلف، التي تتوقُ وترغبُ في أن تُصبِحَ شريكةً في إعادةِ بناءِ السيادة في الدول المنهارة، وحلِّ الميليشيات، والسعي إلى إيجادِ حلول للصراعِ الإسرائيلي-الفلسطيني والنزاعات الأخرى في المنطقة، سوف يكونُ لها تأثيرٌ إيجابي كبير في المشرق العربي.

في سوريا، من غير الواقعي أن نتوقّعَ أيَّ تغييرٍ من نظام الأسد. فقد نجا من أول هجوم على وجوده ــ بدعمٍ حيوي حاسم من إيران ووكلائها وروسياــ وخرج منه ضعيفًا إلى حدٍّ كبير لكنه ما زال على قيد الحياة؛ وليس من الواضح ما إذا كان بوسعه أن ينجو من هجومٍ آخر. بهذا المعنى، يبدو الأمر وكأن سوريا دولةٌ ميتة تمشي على قدمين. حتى لو استعاد نظام الأسد السيطرة المادية على المزيد من أراضيه بعد الانسحاب الأميركي و/أو التركي، فإنه لا يزال يفتقر إلى عَقدٍ سياسي فعّال أو شرعية دائمة مع غالبية شعبه، ولا يملك مسارًا نحو التعافي والتجديد السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. والتغيير الحقيقي في سوريا يتطلب إما قيادة جديدة في دمشق، أو تغييرًا إقليميًا كبيرًا، مثل تحوُّل السياسة من جانب إيران.

في لبنان والعراق، على الرُغمِ من المشاكل النظامية المستمرة ــ وخصوصًا غياب السيادة ــ هناك بعض التقدّم المحدود الذي يمكن إحرازه في تعزيز مؤسسات الدولة وهياكل الحكم، حتى لو لم تضمن السيادة الكاملة، وتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية. وسوف تتطلب التحسينات الكبرى تغييرات أكبر في واحدة من العقبات الثلاث التي أشرتُ إليها أعلاه. لكن من الأفضل تحقيق تقدُّمٍ والاستعداد للفرص الكبرى عندما تظهر، بدلًا من العكس.

الخاتمة

في الأمد البعيد، ونظرًا لموهبة وديناميكية شعبها، فإنني أؤمن بأنَّ بلدان المشرق العربي مُقَدَّرٌ لها أن تنهضَ من جديد، ولكن السنوات المقبلة لا تزال مليئة بالعقبات الكبرى والعديد من الطرق المسدودة. وبينما كنتُ أشقُّ طريقي من المطار إلى أعلى الطرق المتعرّجة في الجبال اللبنانية القديمة، فكّرتُ في كلِّ الناس في كلِّ المدن والقرى على بُعد مئات الأميال منها، وهم يكافحون لتحمّل الظروف الصعبة، ويأملون في حياة أفضل، ويتخيّلون مستقبلًا مختلفًا. وكنتُ أصارعُ مشاعرَ مُتضاربة ــ الرضا بالعودة إلى الوطن، واليأس إزاء الظروف التي يعيشها لبنان والدول المجاورة له، والأمل في إمكانية تحقيق تقدّم، والالتزام ببذل كل ما في وسع المرء للمساعدة على تحقيق ذلك.

  • بول سالم هو نائب رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن للمشاركة الدولية. وهو يُركّز على قضايا التغيير السياسي، والانتقال، والصراع، فضلًا عن العلاقات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره بالإنكليزية على موقع معهد الشرق الأوسط (واشنطن).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى