“يا سلفادور دالي: إِعلَم أَنَّكَ وَصَلْت”

“تَفَكُّك الذاكرة” (1952)

هنري زغيب*

بعد 35 سنة على وفاته، ما زال الرسام الإسباني سلفادور دالي (1904-1989) مثار إدهاش في رسوم له كانت بعدُ غير معروفة من الجمهور الواسع، حتى ظهرَت أَخيرًا 30 قطعة منها (لوحات ورسوم على ورق) في “متحف بوسطن للفنون” في معرض خاص لأَربعة أَشهر (1 أَيلول/سبتمبر-1 كانون الأَول/ديسمبر)، مستعارةً من “متحف سلفادور دالي” في سانت بيترسبورغ/فلوريدا.

وهنا أَضواء عليه وعليها.

“طبيعة صامتة ناطقة” (1956)

اسمُهُ طفلًا على قبر

ولد سلفادور يوم 11 أَيار/مايو 1904 في مدينة فيغيريس (مقاطعة كاتالونيا الإسبانية) بعد 22 شهرًا على وفاة شقيق له بالاسم ذاته. وفي طفولته الأُولى كانت أُمه تصحبه إِلى قبر شقيقه فكان يتأَثر مرعوبًا من رؤْية اسمه محفورًا على بلاطة القبر. لذا أَمضى لاحقًا حياته كلَّها مرعوبًا من فكرة الموت. وذات يوم صرَّح في حديث صحافيّ: “في حياتي محركان استبدّا بفني وذهني: شبَقُ الغريزة الجنسية، والقلقُ من الموت. ولا أَذكر فترةً واحدة من حياتي غادرتْني فيها فكرة الموت، حتى وأَنا في أَزهى أَوقات فرحي”.

مُدمن على العمل بلا توقف

بلغ من إِدمانه على العمل أَن كان أَحيانًا يرسم 18 ساعة في اليوم، كأَنه يرضي شبَقه أَو يَضيع عن قلقه. وقال أَكثر من مرة إِنه في ساعات الرسم يكون في غيبوبة انخطافية ويظل يرسم حتى تسقط الريشة من يده وينهار إِلى نوم عميق يُريحه من التفكير بالموت ومن حس الشبق. وفي معظم ساعات الرسم كان يرسم رموز الموت كأَنما ليُبعدَها عنه. فهي تلاحقه منذ الثانية من عمره (حين كانت أُمه تصطحبه إِلى قبر شقيقه)، ثم في السابعة، فالعاشرة حين اندلعت الحرب العالمية الأُولى وعاش أَهوالها طيلة سنواتها الأَربع. وبعد سنتَين (1916) توفيَت والدتُه فزاد اقترابًا من شبَح الموت.

مطالعه في الرسم بدأَت باكرًا، متأَثرًا بفناني أُوروبا في القرون الخامس عشر حتى الثامن عشر، وخصوصًا بأَعمال دورر وإِلغريكو وفيلاسكيز وغُوْيَا. وفي مدريد شارك مع لويس بونويل بفيلمَين سورياليَّيْن ضد رجال الدين، فحل عليهما معًا غضب هؤُلاء في أُوروبا طيلة خمسين سنة.

“المجلس المسكوني” (1960)

نحو ريادة السوريالية

في باريس، وكان في الرابعة والعشرين، التقى بابلو بيكاسو وخوان ميرو ورائد السوريالية أَندريه بروتون. وهذا الأَخير وجد في دالي نموذج تطبيق الفن السوريالي الغرائبي في الرسم والشعر والسينما والأَزياء والنحت وسواها. وحين انصرف دالي إِلى لوحاته بتلك الدقة الإِدهاشية أَلوانًا وتفاصيل، أَصبح هو رمز السوريالية. فأَلوانه على تصاويرَ غريبةٍ ساهمت في غرائبية لوحاته التي، لشدة دقتها في أَصغر التفاصيل، تكاد تقترب من الصوَر الفوتوغرافية في نقْل الواقع، لقدرته على الإِيحاء بذلك وهو مثلًا يرسم امرأَة عارية أَو مُكَعَّبًا أَو جبلًا كاتالونيًّا أَو ساعة جدار ذائبة أَو وحيد القرن أَو طاولة. هكذا كان يرسم طوال حياته، لا يتوقف عن رسم وتخطيط وتلوين. وتأَثر جدًا، وهو في الرابعة والثلاثين، بلقائه فرويد الذي كان في الحادية والثمانين، وتحدَّث إِليه عن الشبق الجنسي الذي جعلَه فرويد رغبة خفيةً كامنةً في أَصل كل إِحساس لدى الرجل والمرأَة.

تَزوَّجَ عشيقة صديقه

كان دالي في الخامسة والعشرين حين التقى سنة 1929 غالا دياكونوفا وهي في الخامسة والثلاثين (وُلدت سنة 1894). كانت يومها زوجة الشاعر بول إليوار وعشيقة الرسام السوريالي ماكس إِرنست الذي رسمها في لوحات عدة. تزوَّجها دالي سنة 1934 وكان فترتئذ فقيرًا مغمورًا بلا اسم ولا شهرة، فكان لها الفضل الكبير في إِحاطته بما جعله لاحقًا من أَشهر فناني العصر. ومن إِحاطتها أَنها جعلَتْه يرتدي أَجمل الملابس، وأَحسنت استقبال ضيوفه، وهيأَت له لقاءات ومقابلات صحافية، ونظَّمَت مواعيده، وكانت موديله العاري في الرسم. لذا كان يقول عنها إِنها ملهمته الوحيدة. دام زواجهما خمسين سنة في الوسط السوريالي الذي ينتعش فيه دالي، حتى وفاتها (1982) وهي في التاسعة والثمانين.

غلاف مجلة “لايف” (1948)

طريق الشهرة

سنة 1941، وكان دالي في السابعة والثلاثين، أَقام أَول معرض استعادي له لدى “متحف الفن الحديث” في مانهاتن (نيويورك). يومها عرض 43 لوحةً و17 رسمًا. وبعد سنتين أَخذ معرضه يتنقَّل إِلى ثمان من أَكبر المدن الأَميركية. وذاعت شهرته، فطٌلب لرسم سيدة الأَعمال هيلينا روبنشتاين الأَميركية الشهيرة، وتعامل مع شركة فوغ  Vogue للأَزياء ومع مؤَسسات أُخرى شبيهة، وصمَّم الملابس لأَعمال الباليه والأُوبرا، ولمؤَسسات مجوهرات. وحين عاد إِلى إسبانيا وضع 102 رسمًا مائيًّا لرائعة دانته “الكوميديا الإِلهية”.

سنة 1965 عرض له “متحف الفن الحديث” في نيويورك 366 لوحة (هي اليوم بين مجموعة “متحف سلفادور دالي” في سانت بيترسبورغ – فلوريدا). وبعد سنتَين التقى “الموديل” آماندا لِير التي بقيَت معه 25 سنة وكان يسميها “الملهمة الروحية”.

بعد وفاة زوجته (1982) تدهورت صحتَه ولم يتعافَ طيلة سبع سنوات حتى وفاته سنة 1989 في بلدة مولده فيغيريس، وهناك دُفنَ في سرداب خاص تحت مبنى “مسرح ومتحف دالي” في المدينة.

نعم… إِنكَ وصَلْت”

تذكارًا لعبقريته الخالدة، يقيم “متحف بوسطن للفنون” حاليًّا هذا المعرض الاستعادي (1 أَيلول/سبتمبر-1 كانون الأَول/ديسمبر). سيؤُمُّه الآلاف من المعجبين بفنه الغرائبي، وتَصدُقُ فيه مقولتُه التي قالها عن ذاته في أَواخر حياته: “آه يا سلفادور دالي، كنتَ تحلُم بوصولك أَن تكون عبقريًّا خالدًا. فاعلَم الآن أَنك وَصَلْتَ”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى