فرنسا: اليومُ التالي للانتخاباتِ النيابية
الدكتور ناصيف حتّي*
حَمَلت نتائجُ الجولة الثانية للانتخاباتِ النيابية الفرنسية، التي حصلت يوم الأحد الفائت، مُفاجأةً كبرى لم تكن مُنتَظرة كُلِّيًا، إذ تَوَقَّعَ العديدُ من المُراقِبين عشيّة الانتخابات، أن تأتي النتائج بانتصارٍ حاسمٍ لليمين المُتَشَدِّد من خلال الحصول على الغالبيةِ المُطلَقة في الجمعية الوطنية الجديدة (البرلمان) تسمحُ له تشكيل الحكومة الجديدة وحده، إذا شاءَ عدمَ التعاوُنِ مع أيِّ طرفٍ آخر. كما توقّعَ مراقبون أكثر واقعية أن يحصلَ هذا اليمين المُتشدّد على أكبر كتلةٍ نيابية بدون أن تكون له الأكثرية المُطلَقة.عنصرُ المُفاجأة تمثَّلَ في تراجُعِ هذا اليمين المتمثّل ب “التجمّع الوطني” و”الجمهوريين” إلى الموقعِ الثالث وراء تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” (تكتّل اليسار) الذي جاء في المرتبة الأولى ومعسكر الرئيس إيمانويل ماكرون (حزب النهضة) الذي حلّ في المرتبة الثانية، ساهمَ في ذلك من دون شك ما يُعرَفُ بالتصويتِ المُفيد لمُحاربةِ اليمين المُتشدّد والذي دفع الكثيرين للتصويت لمعسكر الرئيس أو تكتل اليسار في الحالات التي كان فيها تنافسٌ على كرسي النيابة بين أحدهما وبين ممثلٍ لهذا اليمين المُتشدّد.
الانقسامُ الحاد الذي تعيشه فرنسا يَعكُسُ بشكلٍ خاص الأزمة الاقتصادية المتزايدة والمُتراكِمة بتداعياتها المُتعدّدة والمُختلفة على المجتمع. الأزمة التي زاد من حدّتها تراجعُ دور الدولة الاجتماعي كما اعتبرَ اليسارُ بشكلٍ خاص، وذلك لمصلحةِ سياساتٍ اقتصاديةٍ نيوليبرالية. أزمةٌ يُحَمِّلُ اليسارُ مسؤوليتها بشكلٍ عام للسلطة وخياراتها فيما يُحمّلها اليمين المُتشدّد للهجرة غير القانونية المتزايدة بتكلفتها الاقتصادية والاجتماعية وثم السياسية التي غيّرت مع الوقت وجهَ فرنسا وطبيعةَ المجتمع الفرنسي: المسؤول عن الازمة هو “الآخر” المُختَلِف في اللون والدين والعرق حسب أدبيات هذا اليمين المُتشدّد.
إنَّ انعقادَ الجمعية الوطنية الجديدة في ١٨ من الشهر الجاري وبروزَ الخريطةِ السياسيةِ المُنبَثقةِ عن هذه الانتخابات، سيُظهِرُ حجمَ الكتل النيابية في المجلس الجديد وإطلاقَ مسارِ تشكيلِ حكومةٍ جديدة. وستدخُلُ فرنسا في التجربة الرابعة، وهي الأصعب هذة المرة بسبب طبيعة القوى الأساسية الجديدة، في تشكيلِ تجربةِ “مُعايَشة” أو “مُساكَنة” جديدة ستكون الرابعة في الجمهورية الخامسة بين رئيس جمهورية ينتمي إلى حزب وحكومةٍ تُمثّل أكثرية تنتمي إلى حزبٍ أو تكتّلٍ آخر مُختلِف. في الماضي كان الأمرُ سهلًا نسبيًا كون الخلافات بين القوَّتين الرئيستين (التجمُّع من أجلِ الجمهورية والاشتراكيين) لم تكن بهذه الحدّة. فرنسا اليوم تعيشُ في خضمِّ أزمةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ حادة يُغذّي كلُّ بُعدٍ منها البُعدَ الآخر وينعكسُ أيضًا على الاستقرارِ المُجتمعي. وهي تعيشُ في محيطٍ من الازمات/الحروب في جوارها، من أوكرانيا إلى حرب إسرائيل في غزة ولبنان، من أوروبا إلى البحر الأبيض المتوسط في عمقه الشرق أوسطي وكذلك في عمقه الأفريقي. وكلُّ هذه الحروب والأزمات لها تداعياتٌ بدرجاتٍ واشكالٍ مختلفة على فرنسا مُجتَمعًا وسياسةً واقتصادًا.
ستبدأ قريبًا “لعبة” التفاوض لتشكيل الحكومة الجديدة في ظلِّ ظروفٍ ضاغطة كما أشرنا. هناكَ صعوباتٌ، ولا نقول استحالة، أمامَ تشكيلِ حكومةٍ تَعكُسُ نتائج الانتخابات من حيث خريطة القوى، خصوصًا أنه لا توجد أكثريةٌ مُطلقة قادرة أن تُشكّلَ الحكومة وحدها، بل هناكَ الحاجة إلى حكومةٍ تُعبّرُ عن”تحالفٍ” سياسيٍّ حولَ برنامجِ حُكم، وذلك ليس بالأمر السهل، ودونه الكثير من العوائق وعنصر الوقت الضاغط في خضمِّ التحدّيات الداخلية والخارجية التي أشرنا إليها. خيارٌ آخر قد يلجأُ إليه الرئيس الفرنسي قوامه تكليف شخصيةٍ مُحايدة تكنوقراطية للعمل على تاليف الحكومة الجديدة. وهذا ليس بالأمرِ السهل أيضًا إذا لم يحظَ هذا المسار بقبول، ربما كأمرٍ واقع، قوى أساسية في الجمعية الوطنية الجديدة. أزماتٌ مُتعدِّدة الأوجه تعيشها فرنسا آخرها،غداة الانتخابات، قد تكون أزمةُ حُكمٍ شديدة مع تعثُّرِ تأليفِ حكومةٍ تَعكُسُ هذه الخريطة السياسية.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).