على مرمى “العصر الحجري”
رشيد درباس*
هذا الزمان تَحَرَّكَ ما فيه… حتّى الحجر…
أحمد شوقي
يَعلقُ في الأذهانِ أنَّ كلمةَ العصرِ الحجري تَعني حياةَ ما قبل التاريخ، أيام كانَ الحجرُ سلاحَ الإنسان للدفاع عن نفسه، ووسيلته لصَيدِ الطرائد وقدحِ النار. هذا اعتقادٌ يهملُ حقيقةَ أنَّ التطوُّرَ الحضاري الهائل لم يؤدِّ إلى نبذِ الحجر، رُغمَ توافُرِ وسائل حديثة أخرى، بل على العكس، فالمدنية كلّما تطوَّرت ازداد اعتمادها على الحجر والتراب والدفائن، لأنَّ كنوزَ الأرض لا تنضب، وأهمّها أحجار البناء وأحجار الزوايا.
يُهدّدنا الإسرائيليون بإعادة لبنان إلى “العصر الحجري” وهذا تعبيرٌ مُناقِضٌ لمَقصَدهم، لأنهم أعادوا “غزة” إلى العصر “اللَّاحجري”، بعد أن دمّروا الأبنية كلها، وأحرقوا الخيام، وأسكنوا الأهالي في المساحات الخالية الممتدة بين التشريد والتشريد، فأفقدوهم المأوى والأمان، لكنهم عجزوا عن إفقادهم الحضارة المُكتنزة فيهم، فلم يفقد الفلسطينيون بالتالي قدرتهم على استدعاءِ الحجر مرةً أخرى ليشمخ عاليًا ومُتحدّيًا الخيبة الإسرائيلية.
تقومُ الآلةُ العسكرية الإسرائيلية بمناوراتها على أفضل ما تفعله الجيوش الحديثة، وتتدفّقُ عليها أنواعُ وسائل الدمار الذكية والمتوحّشة، ويتناوب قادتها على رمينا في كلِّ مناسبة، بأنَّ الهولَ آتٍ، وأنهم يعدّون العدّة لضرب بيروت بزلزالٍ من نوعٍ جديد يُعيدُها إلى العصر الذي يكثرون من الحديث عنه، لأنهم ما زالوا يعيشون فيه منذُ بَدَؤوا يُكدِّسون خرافاتهم المُتَعَصِّبة ويُردّدون أسفارَ حاخاماتهم، التي تقول إنَّ البشريةَ نهبٌ لهم وخدم، وأنَّ كلَّ مجتمعٍ لا يرضخُ لشهواتهم تحلُّ عليه لعنتهم ولعنة ربهم. وعلى هذا فإنَّ التعبيرَ الصحيح هو “العقل الحجري” الذي عاشوا في يبوسته على مرِّ العصور، فلم يخرجوا من الأسطورة أو الخرافة، بل أمعنوا فيها مُدَجَّجين بأدواتِ العصرِ التي ما زال رعاتُهم، وهم أصلُ مأساتِهم، يزوِّدونهم بها، تنصَّلًا من تهمة معاداة السامية التي نشأت واتسعت في أوروبا، وهي تعيشُ اليوم حالةً من النكوص نحو اليمينية والتعصُّب.
لم تَكُن في الشرقِ العربي مسألةً يهودية مطروحة كما كانت كذلك في المجتمعات الأوروبية التي بدأت الانتقال من الحُكمِ الكَنَسي إلى الحُكم ِالعلماني، فدارَ في القرنين الثامن والتاسع عشر نقاشٌ واسعٌ يتعلّقُ بالوضعِ والعلاجِ المُناسبَين لليهود، بل إنَّ مصطلح “المسألة اليهودية”، كان تعبيرًا مُحايدًا عن الموقف السلبي تجاه التفرُّدِ المُستَمرِّ لليهود كشعبٍ على خلفية القوميات السياسية الصاعدة؛ وقد نوقشت في فرنسا هذه المسألة، بعد الثورة الفرنسية، وانتقلت من ثمَّ إلى ألمانيا، عن طريق رسالة “برونو باور” الذي قال إنَّ اليهودَ لا يستطيعون تحقيقَ التحرُّرِ السياسي إلّا إذا تخلّوا عن وَعيِهِم الديني، لأنَّ التحرُّرَ السياسي يتطلّبُ دولةً علمانية، لكن “تيودور هرتزل” رأى في العام 1898 أنَّ الحَلَّ يكمُنُ في دولةٍ يهوديةٍ مُستقلّة يُفضّلُ أن تكونَ فلسطين.
كان لكارل ماركس رأيٌ آخر، لأنَّ المُجتمعات المدنية لا تخلو من تأثيرِ الدين فيها –كما في الولايات المتحدة– فأعادَ الأمرُ إلى الدورِ الاقتصادي لليهود، وخلصَ إلى أنّهُ يُمكنُ للأفراد أن يكونوا “روحيًّا” و”سياسيًّا” أحرارًا في دولةٍ علمانية غير أنهم مُلزَمون بالقيودِ المادية على الحرية بسبب عدم المساواة الاقتصادية وهذا ما سيُشَكِّلُ لاحقًا أساسَ انتقاده للرأسمالية.
ما تطرقتُ لهذهِ النبذةِ التاريخية إلّا للخلوص إلى أنَّ تواطُؤَ الغرب ولا سيما بريطانيا، مع الصهيونية لإنشاء إسرائيل، أدّى إلى قيامِ دولةٍ “حديثة” تُشبِهُ النمطَ الأوروبي، ذات حياة سياسية برلمانية وأحزاب متشابهة، حيث يختارُ الاقتراعُ النواب والحكومةَ، التي لها الصلاحيات المُطلقة في قيادةِ جيشٍ بُنِيَ تحتَ الرعايةِ الأميركية البالغةِ الكرم. والمُفارقة أنَّ كثيرًا من قادة الجيش يتحوَّلون بعد تقاعدهم إلى قادة أحزاب، لكنهم لا يمارسون الانقلابات العسكرية.
في الجهةِ العربية صارَ الكيانُ المُختَلَق ذريعةً كاذبةً للانقلابات التي بدأت منذ “حسني الزعيم” من العام 1949 بتدبيرٍ أميركيٍّ صرف، وراحت تتمدّد على غيرِ هدى إلى أن فعلت ما فعلت في الدول العربية الوطنية المُحاذية لفلسطين أو القريبة منها فتهتَّكت الجيوش واستُبيحت الحدود، وانقسمَ بعضُ البلاد، وانتحرَ الاقتصاد، وبقيت مصر في حالةِ حصارٍ بين السودان النازِف المُتحارِب، وسدِّ النهضة الإثيوبي والفوضى الليبية المُستشرية، وتشريدِ أهلِ غزة بهدف نقلهم إلى سيناء.
هذه إذن حالُ الدول العربية التي استلهمت النُظُم الغربية لفترةٍ وجيزة، ثم وقعت تباعًا في الفخِّ الانقلابي العبثي المُدَجَّجِ بالخطابِ ذي النبرة العالية، والجملةِ الثوريةِ الكاذبة التي ألبستها إياها تنظيمات سياسية توهّمت أنها تستطيعُ أن تمتطيَ صهوةَ العسكر للوصول إلى السلطة، فأوقعت بلادها في خيبةٍ لا قرارَ لها. بالمُقابل صَدَّر لنا الغرب “شكلًا ديموقراطيًّا” مُعَزَّزًا بتجاربِ المؤسّسين في بلادهم، وراحَ يتباهى بأنه أنشأ دولةً حديثةً في محيطٍ ديكتاتوري مُتَخَلّف. علمًا أنَّ الأصولية بمفهومها المُتداوَلِ الآن لم تدخُل إلى الشرق العربي إلّا مع الكيان الصهيوني الذي لا يمتُّ جوهره إلى شكلهِ الزائف، فهذه الدولة قامت على فكرةِ الشعبِ المُختار، والدستورِ المكتوبِ بركامِ الأسفار التي تستبيحُ الأغيار، ثروةً و أرضًا وإنسانًا، وأرواحًا….
لقد تحوَّلَت أبنيةُ غزّة كلُّها إلى حجارةٍ مُنهارةٍ فتجلّت إنسانيةُ أهلها بأرقى ما سيذكره التاريخ، لأنهم عمروا العراء بصمودهم وبطولتهم وتضحيتهم، فيما بقي العمران الإسرائيلي شكلًا موجودًا ومحتوى لم تقوَ الأيام والعقود على زحزحته شبرًا عن “حَجَرِيَّتِهِ” المُزمِنة.
إنَّ الدولةَ العبرية التي تسعى حثيثًا إلى صفاءٍ يهوديٍّ بحت، ليست مؤهّلة مُطلقًا لأيِّ تسوية، ولا هي قادرة على السلام، بل إنها المُهدِرة الدائمة للفُرَصِ التي أُتيحَت لها صُلحًا وتطبيعًا وتبادُل سفارات.
منذُ أيام صرّحَ رئيس حزب العمل الإسرائيلي “يائير غولان” أنَّ حكومةَ نتنياهو تسعى إلى حربٍ لا تنتهي، فشهدَ شاهدٌ من أهلهم، وكذلك شواهد القبور التي تزدحم أصفارها على يمين الأرقام.
محاولاتُ التهدئة فشلت تباعًا، وتبادلُ الأسرى صارَ معزوفةً مُملّة، و”الانتصارُ الحاسم” يتريَّث ربما إلى 7 تشرين أول (أكتوبر) جديد، والآلة القاتلة لا تكفُّ عن الدوران، بل هي لن تَكُفَّ على الإطلاق حتى ينهار البناء الحجري المُتخلِّف والأصولي، الذي تقوم عليه الصهيونية.
لقد فاتهم ما الغزة النجلاء، وربما يتناسون المرحلة التي ارتقت فيها فلسطين إلى العصر الحجر، عندما فتحت الأرض ترسانتها التي لا تتضب، لأطفال السليقة، وقالت لهم: اغرفوا مني أسلحتكم وارجموا المحتل بكل ما أوتيتم من سواعد، فكل حصاة هدف صائب، وكل رميةٍ، رعدةٌ في قلوبهم.
أعودُ إلى لبنان المُهَدَّد على “الطريقة الحجرية” فأقولُ إنَّ الحضارةَ التي لنا أسهمٌ فُضلى في تكوينها، لن تتحوَّلَ إلى مُتَردَّم، فهي أم الحجر لا صنيعته، إذا ترنَّحَ سندته، وإن هوى أعلته، بل هي مُتَخَصِّصة في لَمِّ ركام الزلازل والأهوال، لكنها لا تسعى إليها بإرادتها، ومن هذا الباب لا ينبغي لها أن تُقدّمَ أية ذريعة لدورةٍ جديدة من التدمير الإجرامي.
إنَّ العدوَ لم يكفَّ يومًا عن محاولةِ التسرُّبِ إلى نسيجنا من النقاط الضعيفة والمفاصل الرخوة، فهل نسمحُ نحن بأن تتحوّلَ خطوطنا المتنوِّعة المُتناسقة إلى هشاشةٍ يسهلُ معها تمزيق هذه العباءة التاريخية؟ علينا أن نعودَ إلى أصلِ الأشياء، فلا مُفاضلة في الوطنية، ولا تعييرَ بالتقاعس بل إنني أرى أنَّ بيروت النابضة بالحياة والسهر والحفلات والشواطئ العامرة بالسابحين (لا سيما شاطىء صور الرائع) أمورٌ توغِرُ صدرَ العدو وتُثيرُ غيرته، ولهذا يرمينا بتهديداته الحجرية، فيما نحنُ نصدُّ الموتَ بالحياة.
علينا ألّا نستبعدُ العدوان، فهو واردٌ ولا نخشاه، إلّا إذا أهملنا أسُسِ الصدِّ، التي تقومُ على دولةٍ ديموقراطية ورئيس جمهوريةٍ مُنتَخب وحكومةٍ تُفكّرُ وتدبّرُ وتُجهّزُ وتُقرّر.
تبقى كلمةٌ أخيرة، وهي أنَّ الديموقراطية اللبنانية بالرُغمِ من إصاباتها البليغة تظلُّ مرتعَ خِصْبٍ للأشجار ذات الظل والثمر، أما ديموقراطية العدو فيابسة يبس الخرافة، لأننا أبناء الحقيقة… وهم أبناء الأسطورة.
- رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).