العِراقِيُّ الغامِض

قِراءَةٌ مُتَأَخِّرة في عَقلِ صدّام حسين

سعدون حمادي: في المواقف السياسية الحرجة “يدَّعي أنه تقني لا علاقة له بالسياسة”!

(8)

الرئيس

سليمان الفرزلي*

تترامى الأخبارُ إلى المُراقبين السياسيين، وإلى بعضِ البعثيين، ولم تمرّ أيامٌ على “تَنَحّي” أحمد حسن البكر، بأنَّ صراعًا خفيًّا كانَ يدورُ بين “الرئيس”، الذي يُحتَمى من دهائه وحنكته، وبين “النائب” البطّاش، المُتَعَجِّلِ للوثوبِ إلى السلطة والاستفرادِ بها، وأنَّ الغلبةَ فيه عُقِدَت للنائب الذي كان سبّاقًا في التحرُّكِ، وتَسديدِ الضربةِ التي أقصت العسكري القديم والبعثي العتيق، و”الأب القائد”، كما سمّاهُ صدّام حسين نفسه، في فترةٍ كان نَقْعُ غُبارِ الخلافِ يخفُّ، أو هكذا كان يريد “السيد النائب” أن يوحي، بينما كانت خطّتهُ المُبَرمَجة للإقصاء مُستَمرة.

ما كانَ يدورُ في العتمةِ همسًا، قالهُ صدّام حسين جهارًا نهارًا، وبالفم الملآن، في خطابِ التنصيبِ في السابع عشر من تموز (يوليو) سنة 1979، (يوم الاحتفال بعودة “البعث” إلى الحكم، بعد “الانقلاب الأبيض” الذي أطاح عبد الرحمن عارف)، فكَشَفَ المستور، وأكّدَ ما كان يدورُ في الخفاءِ من خلاف، وعدم ثقة بينه وبين الرئيس، فقال: “لم يحدُث في التاريخِ القديم، ومنه تاريخُ أُمَّتنا، على إشراقه، وفي التاريخِ المعاصر، أن يكونَ في السلطة، ولأحدِ عشرِ عامًا، قائدان ضمنَ قيادةٍ واحدة، بخواصها المعروفة لكم، من دونِ أن يؤدّي ذلك إلى خللٍ خطيرٍ في المسيرة، من الناحية الخلقية، أو الناحية العملية، ومن دون أن تنتهي العلاقة بينهما إلى إقصاء أحدهما، ليبقى الآخر”!

و”الآخر” كان هو.

***

لم يَكُن الرئيس البكر غافلًا عمّا يدورُ في عَقلِ “نائبه”، ومثلما كانَ “النائبُ” يتحيَّنُ الفُرَصَ لإقصائه، كذلك كان “الرئيس” ينتظرُ سانحةً ليُبعِدَ نائبه عن الحكم، وعن مسؤولياته في الحزب.

كان ميشال عفلق على بَيِّنة مما يجري بين الرجلَين القابعَين في قمّةِ الحكم، إلّا أنُه كان عاجزًا حائرًا أمامَ اشتدادِ ذلك الصراع، وينتظرُ هو الآخر فُرصةً سانحةً للتهدئة… وإذ تَلَفَّتَ عفلق الى القيادة القومية في بغداد، وَجَدَ أنها تتشكل، في معظمها، من السياسيين السوريين الذين احتموا بالعراق من بطشِ النظام السوري بهم، فتلقّفهم صدام حسين، وأسكنهم في قصورٍ لاستمالتهم إليه، تسهيلًا لتسريع خطاه إلى القمّة.

لم يُخفِ ميشال عفلق أمامي امتعاضهُ وغضبه من أعضاءِ تلك القيادة. ففي السابع من نيسان (أبريل) سنة 1975، يوم عيد تأسيس “البعث”، كُنتُ في بغداد فقصدتُ “قصر الرشيد” حيث يُقيمُ ميشال عفلق لتهنئته بالعيد.

عندما جلسنا إلى الحديث، بدا لي مُتَوَتِّرًا، مُنزعِجًا، ثم تولّاَه الغضب لمَّا بدأ يشنُّ هجومًا قاسيًا ولاذعًا على أعضاءِ القيادةِ القومية، فوصفهم بأنهم مجموعة من “المرتزقة”، وأنهم “بيروقراطيون”، و”سكرانون بالسلطة”…

سكتَ قليلًا، ثمَّ تعجَّلَ الاستدراك: “طبعًا… أنا هنا لا أقصدُ في ما قلتهُ لك البعثيين العراقيين”.

فهمتُ، أنَّ هذا الاستدراكَ يدخلُ في بابِ “أنَّ الحيطان في بغداد لها آذانٌ تَسمَع”! وهو لا يريد أن يُعَكِّرَ صفوَ العلاقةِ مع “السيد النائب” تحديدًا.

أخذنا الحديثُ ساعاتٍ طويلة، لاحظتُ خلالها أنَّ أحدًا لم يَطرُق بابَ القصر، ولم أسمع رنين جرس الهاتف لتهنئته بعيد الحزب الذي أسَّس، وتحمَّلَ أعباءَ المسؤولية فيه، وذاق من أجلهِ مراراتَ السجن، ومَضَضَ المحازبين ورعونتهم، في أحايين كثيرة.

استبقاني على الغداء، وأدار لسانه في قضايا عديدة ومُتَشَعِّبة، وما دار بيني وبينه، من كثيرٍ أو قليل، أتركهُ للزمان.

في عصرِ ذلك اليوم الطويل، جاء ناصيف عوّاد، وهو بعثي أردني كان صديقًا لي أثقُ بهِ منذُ كُنّا في بيروت، وتبعه لزيارة “الأستاذ ميشال” طارق عزيز، وزير الإعلام زمنذاك.

راحَ عفلق ينتقي كلماته بتأنٍ شديد، وكعادةٍ منه يتمهَّلُ في الكلام، وكان طارق عزيز مُطرِقَ السمع بكلِّ حواسه، وما أن أنهى عفلق حديثه، حتى أخذ طارق عزيز الكلام، وكأنّهُ شعرَ أنَّ ما قاله أمين القيادة القومية العام، هو مَضبطةُ اتهامٍ للقيادة العراقية، فانبرى يدافع عن النظام، ويزيد ويعيد، ويتمادى، فقال من جملة ما قال: “إنَّ الثورةَ في العراق كانت خطواتها كلها، تقريبًا، إلى الأمام…  ولم تتراجع قَيدَ أنملة أمام التحدّيات، باستثناء مسألة انسحاب الجيش العراقي من الأردن، وكان ذلك لاعتباراتٍ كثيرة. لقد كان ذلك الانسحاب الخطوة الوحيدة إلى الوراء، وهي خطوة اضطرارية لدرءِ خطرٍ أعظم”.

لم يقل ما طبيعة ذلك “الخطر”… واكتفى بما قال.

بقي ميشال عفلق مُصغِيًا، آثرَ الصمت، فلم يكُن يرغبُ في الردِّ على تلك “المرافعة”. لم أتدخّل في الحديث، وكذلك ناصيف عوّاد، الذي ما زاح نظره عن وجه طارق عزيز، كأنهُ يدرسُ ملامحه لمعرفةِ سببِ الدفاعِ المُستَميت عن النظام.

أدركتُ، من خلال ما قاله ميشال عفلق، وردِّ طارق عزيز عليه، أن هناك مشادةً، أو نزاعًا، لم يظهر بَعد إلى العلن، في مكانٍ ما في الحزب.

بعد ساعةٍ أفرغَ فيها طارق عزيز ما عنده، أو ما جاء يقوله، وغادر، عَرَضَ عليَّ الصديق ناصيف عوّاد، أن يقلّني بسيارته إلى الفندق.

في الطريق، سألني عمّا قاله لي ميشال عفلق في حديثنا الطويل، فذكرتُ له ما تناوله عن القيادة القومية في بغداد، من دون باقي الحديث الطويل.  فأوقفَ السيارة إلى جانب الطريق، وراح يستحلفني بشرفي وبأعزِّ وأغلى ما عندي ألّا أذكر لأحدٍ، حزبيًا كان أم غير حزبي، ما قاله “الأستاذ ميشال”، لأنَّ هذا الكلام تترتّبُ عليه نتائجُ خطيرة.

من إلحاحِ ناصيف عواد عَلَيَّ بأن أتكتَّم على ما سمعته، والاحتفاظ به لنفسي، تيقنتُ مُجدَّدًا أنَّ هناكَ شيئًا غير طبيعي يدورُ داخل الحزب، لا أحد يستطيع التحدّث عنه، أو مناقشته، لمعرفة أسبابه ومُسبّباته.

***

كانَ العالم العربي يضجُّ حركةً وصخبًا. أخبارُ انفصالِ مصر عن العرب مجتمعين، والجنوح نحو “السلم المنفرد” مع إسرائيل، كانت تردُ ميشال عفلق تباعًا، فنادى علنًا بضرورة “التقارب السوري–العراقي” لسَدِّ ما سمّاه” الفراغ المصري”، ولمواجهة المرحلة الصعبة التي وضع أنور السادات العالم العربي أمامها.

لم تكن فكرة التقارب بين البعثَين اللدودين (السوري والعراقي)، بِنت ساعتها. ففي سنة 1973 جرت المحاولة الأولى، عبر “حوار غير مباشر”، بين حافظ الأسد وميشال عفلق، المُقيم في بيروت، أداره كمال ناصر، الشاعر والشهيد الفلسطيني، قبل أسابيع قليلة من “عملية فردان”، التي قام بها الضابط الإسرائيلي إيهود باراك (رئيس وزراء العدو لاحقًا)، يوم 10 من نيسان (أبريل) سنة 1973، وطاولته بالاغتيال مع محمد يوسف النجار، وكمال عدوان، فانقطع الحوار غير المباشر.

قبل ذلك، قامَ حافظ الأسد بما وصفه الإعلام الرسمي في دمشق “مبادرة حسن نيّة” تجاه مؤسس الحزب ميشال عفلق، قضت بحفظ حكم الإعدام الصادر بحقه من قبل النظام السابق بقيادة صلاح جديد. إلّا أنَّ “مبادرة الأسد” لم تشمل القيادات البعثية الأخرى، فَفَهمَ ميشال عفلق أنَّ ما قام به الرئيس السوري كان مبادرةً شخصية ليس إلّا.

لَمَسَ صدّام حسين أنَّ ما قاله ميشال عفلق، ونادى به، حول التقارُب بين بغداد ودمشق لمواجهة تبعات وتداعيات الصلح المنفرد الذي مشى فيه أنور السادات، كان له رَجع صدى داخل الحزب، وقبولًا لدى الرأي العام العراقي. فبقي يراقب ما ستؤول إليه الأمور، خصوصًا بعد المراسلة المباشرة بين حافظ الأسد ونظيره العراقي أحمد حسن البكر.

منذُ أن وصلني خبر تلك المراسلة، راح تفكيري إلى أنَّ الرئيس السوري هو المبادر إلى التخاطُب ومراسلة الرئيس العراقي. فقد كان الأسد، كما عفلق، على قناعةٍ بضرورةِ إزالةِ حواجز القطيعة بين البلدَين الجارَين، فأخذَ المُبادرة في التخاطُب لمحاولةِ رأبِ الصدع بين الحزبَين اللدودين والبلدَين الجارَين المُتباعدَين.

إلًا أنَّ تلكَ المُراسلة ما لبثت أن انقطعت في سنة 1974 من دونِ إبداءِ أيِّ أسباب.

وما عزَّزَ قناعتي بأنَّ الأسد هو البادئ في التواصُل المباشر، ثم أسباب انقطاعه، ما جرى في الرباط خلال مؤتمر القمة العربية السابعة، التي انعقدت بين 26 و29 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1974.

كان صدّام حسين، نائب الرئيس أحمد حسن البكر، يترأس الوفد العراقي إلى تلك القمة، وكُنتُ حينها أُمثّلُ جريدة “بيروت” بصفتي رئيس تحريرها.

يوم الجلسة الافتتاحية، كنتُ أتمشّى مع طارق عزيز في ردهة المؤتمر، فالتقينا بعضوٍ في الوفد السوري المُرافق للرئيس حافظ الأسد، توقّفَ للسلام والتحية، فدارَ بينهما حديثٌ فيه شيء من المُعاتبة، حول توقّفِ الرئيس السوري عن مراسلة الرئيس البكر.

بادرَ طارق عزيز زميله السوري بالسؤال:” لماذا قطع الأسد تراسله مع الرئيس البكر؟”

أجابه العضو السوري بلهجةٍ مُعاتِبة: “الرئيس حافظ الأسد بعثَ برسالته الى أخيه الرئيس أحمد حسن البكر، ولم يُرسلها إلى القيادتَين القومية والقطرية في بغداد”.

ردَّ عليه طارق عزيز بشيءٍ من التباهي: “نحنُ لا نفعل شيئًا من وراءِ ظَهرِ قيادةِ الحزب”.

قراءتي لهذا العتاب، أنَّ الرئيس الأسد أرادَ أن تكونَ مراسلته مع البكر سرِّية، ومن رئيسٍ الى رئيس، فاستاءَ من عَرضِ البكر الرسالة، والجواب عنها، لأعضاءِ القيادات الحزبية.

وتقديري أنَّ الرئيسَ العراقي أقدمَ على الكَشفِ عن تلك المراسلة في اجتماعِ القيادة القطرية، خوفًا أن يكتشفها نائبه، في ما بعد، ويعتبرها مؤامرة يدبرها الرئيس مع السوريين عليه.

***

أدرَكَ أحمد حسن البكر، ببُعدِ وثاقبِ نظره، أنَّ الوقتَ حانَ للتلاقي مع دمشق.

تلقّفَ ما نادى به ميشال عفلق، وراحَ في اتصالاته التي لم تنقطع بينهما، يسعى الى البحث عن صيغةٍ للعملِ المشترك بين الدولتَين، فوُلِدَت فكرةُ “ميثاق العمل القومي”.

دارَ نقاشٌ طويل، وأخذ ورد، بين بغداد ودمشق حول بنود ذلك الميثاق، حتى اكتملت وحظيت بموافقة الطرفين. والميثاق الذي جرى الإعلان عنه في بغداد بحضورِ الرئيس حافظ الأسد، في 26 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1978 كان بمثابة “إعلان نيّات” للعمل “قدر الإمكان” بين البلدين، سياسيًا، وعسكريًا، واقتصاديًا.

إلّا أنَّ أحمد حسن البكر، الذي تَحدُوهُ فكرة التخلّص من صدام حسين، أعلنَ في 15 كانون الثاني (يناير) سنة 1979، (أي بعد شهرين فقط من إعلان “ميثاق العمل القومي”)، القبولَ بتوحيدِ سوريا والعراق في دولةٍ برئاسة حافظ الأسد، ويكون هو نائبه!

تفاجأ ميشال عفلق، بما طرحه البكر وَقَبِلَ به، فهو كانَ يرغبُ تجربة العمل المشترك، والوقوف على مدى نجاحه، قبل الاندماج والوحدة بين البلدين…  وتوجَّسَ صدام حسين، الذي أدركَ أنَّ مشروعَ التقارُبِ مع سوريا، ثمَّ الاتحاد معها في دولةٍ يترأسها الرئيس الأسد، محاولةٌ واضحة قام بها البكر لإقصائه، والتخلّص منه، فقرّرَ أن يسبقَ الرئيس، أوّلًا بالتحفُّظ على الاتفاق لجهةِ اشتراطه بأن يبدأَ الأمرُ بتوحيدِ الحزبَين في البلدين قبل أيِّ خطوة أخرى.

إنَّ طموحَ صدّام حسين المُتَوَقِّد إلى السلطة جعله دائمًا متحفّزًا، ومُتقَدِّمًا خطواتٍ عن المُتَرَبِّصين به، والذين يُعرقِلون تحقيق ما يصبو إليه، وتمَّ له ما أراد.

ومتى أراد صدام حسين شيئًا … كان!

***

“شيءٌ آخر كانَ يدورُ في ذهنه” ويؤرقه أخفاه صدام حسين على مَن حوله وحواليه، من قياديين سياسيين وعسكريين، كأنهُ كانَ ينتظرُ حدوثَ شيءٍ ما… وانشغاله في ترتيب الداخل، وتحصين سلطته، لم يصرفه عمَّا يدور في “الجارة” إيران.

قبلَ تسلُّمِ صدّام حسين الحكم بيومين، توجّهَ سرًّا إلى الحدود العراقية–الأردنية وعقد لقاءً مع الملك حسين بن طلال. والأغلب على الظنّ أنه في ذلك الاجتماع السري، حَمَّلَ العاهل الأردني برسالة “عاجلة” إلى الأميركيين، تضمَّنت خطته لذاك “الشيء الآخر” الذي يقضُّ مضجعه، وتبيّنَ بعدما دارت الأيام دورانها أنَّ هذا “الشيء الآخر”، كان إيران، وهذا جعله يتعجّل بحَسمِ مسألة القيادة والسلطة، بتنحية أحمد حسن البكر، والقضاء على فكرة التقارب والوحدة مع حافظ الأسد. فقد كان صدام حسين لا يأمن إطلاقاً جانب الرئيس السوري، ويعتبره أقرب إلى طهران منه الى بغداد.

إنَّ الحقيقةَ وراء إقصائه البكر، ثم التصفيات الواسعة في صفوف الحزب، هي الانقلاب الجذري ضد التفاهُم السوري–العراقي، المناقض لذاك “الشيء الآخر الذي كان في ذهنه”.

***

لقد كان الانتقال (أو الإقصاء)، أشبه بعمليةِ ” تَسَلُّمٍ وتَسليم”. إلّا أنَّ فَهمَ كوامن ذلك المظهر الانتقالي “المُمَسرح”، تقتضي القراءة بين السطور، في البرقية التي بعثَ بها ميشال عفلق إلى أحمد حسن البكر، في يوم انتُزِعت الرئاسة منه وأُقصي. كتبَ عفلق: “إنَّ تخلّيكم عن مسؤولياتكم في هذا الوقت بالذات، وبعدَ اطمئنانكم إلى مسيرة الثورة، وتحقيقِ ما حقّقت من عملٍ جبّار، في النطاقَين القطري والقومي، ليحمِّل ذاته من معاني الرجولة، والشجاعة، والإيثار، ما يصلح أن يكون قدوةً، ومثالًا، للكثير من حكام العالم وقادته”.

شكرَ البكر على “تخلّيه عن مسؤوليته”، ولم يُهنِّئ صدّام على قبوله “تحمُّل تلك المسؤولية”!

اللافتُ أيضًا كان تدشين المبنى الجديد الفخم للقيادة القومية، والحفل حضره الرئيس السابق أحمد حسن البكر، وميشال عفلق، أمين القيادة القومية العام، وقد قصد “الرئيس” صدام حسين منه تأكيد شرعيته، وإعطاء طابع “الموافقة” على التصفيات التي حرَّض عليها في اجتماعِ “قاعة الخلد”.

اللافت أكثر أنَّ ميشال عفلق لم يقبل أن يكون له مكتبٌ داخل ذلك المبنى الفخم، وآثر أن يكون مكتبه منفردًا في مبنى آخر!

في ذلك الوقت كان عدنان الحمداني، وزير التخطيط، وأحد القياديين البعثيين المرموقين في بغداد، الذي كان صدام حسين قدَّمه في إحدى المناسبات إلى رئيس الوزراء الفرنسي جاك شيراك بأنه “العقل المدبر للنهضة الاقتصادية في العراق”، يقومُ بزيارةٍ رسمية في دمشق. ويبدو أنَّ الرئيس السوري حافظ الأسد، قد عرف، بطريقةٍ من الطرق، انعقادَ اجتماعِ الحدود السري بين العاهل الأردني وصدام حسين، وأدرك أنَّ شيئاً ما خطيرًا سوف يزلزل بغداد، فطلب من عدنان الحمداني أن يبقى في دمشق يومين آخرين من غير أن يُبدي له الأسباب… إلّا أنَّ الوزير العراقي أصرَّ على العودة الى بغداد، فكان في رأس لائحة القياديين المُتَّهمين “بالمؤامرة السورية”، وجرى إعدامه بعد اجتماع “قاعة الخلد”!

***

حَدَثَ أنني في أيار (مايو) من العام 1981 قُمتُ بزيارةٍ الى نيويورك، فالتقيتُ صلاح عمر العلي الذي كان، وقتذاك، يرأس البعثة العراقية لدى “منظمة الأمم المتحدة”.  وخلال الحديث، أخبرني ما أكّدَ لي، أن صدّام قبل تسلُّمه الحكم، كانَ يُعِدُّ للمواجهة مع “الجارة” إيران.

بين الثالث والتاسع من أيلول (سبتمبر) سنة 1979، أي قبل سنة من اندلاع الحرب مع إيران، انعقدت في هافانا، العاصمة الكوبية، القمة السادسة لدول عدم الانحياز، حضرها الرئيس صدام حسين، فطُلبَ من صلاح عمر العلي الانضمام إلى الوفد، فلبَّى.

في حديقةِ مقرِّ إقامة الرئيس العراقي، جاءه وزير الخارجية سعدون حمادي، مُرتبكًا، وقال له إنَّ وزير الخارجية الإيراني إبراهيم يزدي (في حكومة مهدي بازركان)، ألحَّ عليه بأن يُرتّبَ له لقاءً مع الرئيس صدام حسين، لكنه لا يستطيع أن يَعرُضَ على الرئيس مثل هذا الطلب، (ربما خشية الاشتباه بولائه لكونه شيعيًا).

والمعروف عن سعدون حمادي، أنه كانَ دائمًا يتنصّلُ من المهمّات السياسية الحرجة، كما حدثَ بالنسبة الى الرسالة التي حملها دايفيد روكفلر من كيسنجر إلى صدام حسين، كما مرَّ سابقًا)، وعندما لجأ إلى دمشق بعد انقلاب عبد السلام عارف على شركائه البعثيين في العام 1963، كان رئيس وزراء سوريا في ذلك الوقت، صلاح البيطار، يقول عن سعدون حمادي بأنه في المواقف السياسية الحرجة “يدَّعي أنه تقني لا علاقة له بالسياسة”!

وراحَ سعدون حمادي، يرجو صلاح عمر العلي، أن يتولّى هذه المهمة الحرجة عنه، فيفاتح الرئيس صدام حسين بطلبِ الوزير الإيراني.

ونزل صلاح عمر العلي عند طلب صديقه سعدون حمادي، وفاتح صدام حسين بما جاء الوزير الإيراني يطلبه.

لم يُبدِ صدام حسين رغبةً في لقاء إبراهيم يزدي، هزَّ برأسه علامة الرفض وقال: “الحقيقة إني لا أجد جدوى تُرتَجى من اللقاء”.

فقال له صلاح عمر: ” ماذا تخسر، يا سيدي ” لو سمعت منه ما عنده؟”

أطرق صدام حسين لحظات، ثم قال: “ما يخالف… ما يخالف”.

وتعجّلَ الاستدراك: “أبو أيوب (كنية صلاح عمر) … سوف أقابله مع أنه لا جدوى من ذلك. لكن استعد لمفاجأة سوف تُزلزل كيانهم”!

إذن، كان صدام حسين يُخطّطُ للحرب مع إيران عندما قام بانقلابه الدموي في تلك السنة، ليطيح التوجه العراقي بقيادة أحمد حسن البكر (وبموافقة ميشال عفلق على الأرجح) نحو التلاقي مع سوريا، لأنهُ كانَ مُتَيَقِّنًا من أنَّ النظامَ السوري مُتحالفٌ مع إيران الخمينية، التي رآها صدام خطرًا داهمًا على العراق يجب دفعه وقائيًا بمحاربتها في الميدان… وهكذا كان!

(الحلقة التاسعة يوم الأربعاء المقبل: “المحارب”).

  • سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى