العِراقِيُّ الغامِض
قِراءَةٌ مُتَأخِّرة في عَقلِ صَدّام حسين
(6)
المَاكِر
سليمان الفرزلي*
لم تكُنْ دَرْبُ صدّام حسين إلى السلطة المُطلقة هَيِّنةً وسهلةً. فقد كانت محفوفةً بمُفتَرَقاتٍ عدَّة، وأُرِيقَت على جوانبها دماءُ ذوي القُربى، ورُفقاء العقيدة، ومَن خاصمه وعاداه، أو مَن ظَنَّ أنّهُ خصمُه وعدوُّه.
وحدها إطاحة عبد الرحمن عارف مرَّت في مسيرته من دونِ عنفٍ أو سفكِ دماء، وفي ذلك يحفظُ البعثيون القدامى للرئيس أحمد حسن البكر الفَضلَ، لأنه في انقلابِ السابع عشر من تموز (يوليو) سنة 1968، (يسميه هؤلاء ثورة 17-30 تموز/يوليو)، أوصلهم إلى الحُكم من دونِ إسالةِ نقطةِ دمٍ واحدة، فاستحقَّ أن يُدعى “الانقلاب الأبيض”.
فبالهداوة، والمُكر، والحِنكة، والدهاء، تمكّنَ أحمد حسن البكر من إقناعِ واستمالةِ اثنَين من كبارِ القادة العسكريين في البلاد، وقتذاك، هما: الفريق عبد الرزاق النايف، مدير الاستخبارات العسكرية، والفريق إبراهيم الداود، قائد الحرس الجمهوري، ولبَّى شرطَيهما للمشاركة في الانقلاب، فتبوَّأ الأول رئاسة الوزراء، وتولّى الثاني وزارة الدفاع. فتمَّ هذا الانقلاب السهل، بالشراكة الاضطرارية، التي لولاها ما حَكَمَ البعثُ العراق، وانتهي الى التفرُّد بالاحتراز، فصدام حسين المُتَرَبِّص بالحُكمِ والطمَّاح إليه، خطّطَ لفضِّ تلك “الشراكة”، و… نجح.
جلال طالباني (الأمين العام لحزب “الاتحاد الوطني الكردستاني”، والرئيس السابع للجمهورية العراقية (2005 – 2014))، أماطَ اللثامَ عن لقاءٍ جرى بينه وبين صدّام حسين، بعدَ أيامٍ معدودات من الانقلاب، فبدا له مُمتَعِضًا ومُتَوتّرًا، ولما سأله عمّا هو فيه، أجابه صدام حسين: “إنني لا أستطيعُ النومَ بوجودِ هؤلاء الجواسيس معنا، وأنا مُتأكّدٌ أنهم سينقضُّون علينا متى سنحت لهم الفرصة”!
قد يقول قائل، إنَّ هذا الكلام، ربما كان مُلَفَّقًا، إلّا أنه لا يُجافي الحقيقة، وما دار وجرى. فلم يَكُن مضى أسبوعان على نجاح الانقلاب، حتى بدأ صدام حسين بالتخلّص من “الجواسيس” المُشاركين في الانقلاب والحُكم. فصدرَ قرارٌ بالنفي إلى الخارج لكلٍّ من الفريق إبراهيم الداود، والفريق عبد الرزاق النايف، الذي ظلَّ صدام حسين يتوجَّسُ منه ويحاذره، مُتربِّصًا به، حتى تمكّن منه بعد سنواتٍ عشر من مشاركته في “الانقلاب الأبيض”، فاغتيل الرجل في “فندق إنتركونتيننتال” في العاصمة البريطانية، في 9 تموز (يوليو) 1978. وبعدَ التخلُّصِ من عبد الرزاق النايف، بقي صدام مُنشَغِلًا بسدِّ المسارب جلّابة المتاعب: عينٌ لا يغمضُ لها جفنٌ، مُرتابةٌ، حَذِرةٌ، يَقِظَةٌ، تحصي تحرُّكات وأفعال الرفاق الأقربين… فهو منذ البداية عينه على الحُكم، يُخَطّطُ للوصول إلى قمّةِ السلطة، والتمسُّك بها، بكل ما أوتي من بطش، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، وهذا ما كان وتمَّ.
***
كانَ صدّام حسين يُدرِكُ أنّه ليحصل على مبتغاه في القَبضِ على أعنَة الحكم، عليه أن يأمن جانب الرئيس أحمد حسن البكر، فقد كان أعرف الناس بأبي هيثم، ومدى قدرته على المكر، فراحَ يُغالي في احترامه، وامتداحه، والدفاع عنه، بعد كل قرار يتّخذه الرئيس في جلسات مجلس الوزراء، واجتماعات القيادة القطرية.
أما خفيةً فكانَ يمكرُ به، ويُضَيِّقُ عليه حلقة المُريِّدين والأنصار، بإبعاد مَن كان أبو هيثم يتوكأ عليهم، ويُساندوه في الحُكم وفي القيادة الحزبية.
وبهدوء مضى صدام حسين في قصِّ جوانح الرئيس البكر ونَتفِ ريشه، ريشةً بعد ريشة، تحضيرًا للانقضاضِ عليه والاستفرادِ في الحُكم.
أوَّل مَن استهدفَ صدام حسين داخل كوادر الحزب، كان صلاح عمر العلي. فالرجلُ كان فاعلًا ومُتميِّزًا في “مجلس قيادة الثورة”، إضافةً الى تولّيهِ وزارة الإعلام والثقافة، ويتمتَّعُ بصفاتٍ ومزايا تجعله سيّدَ نفسه، ولن يكونَ، بأيِّ حالٍ من الأحوال، طَوعَ بنانِ أحد. إلّا أنَّ هناك أربعةُ أسباب جعلت صدام حسين يتعجّلُ التخلُّصَ من صلاح عمر العلي:
أوَّلُ تلك الأسباب: أنه وقع اختيار القيادة القطرية عليه، فور استتباب حكم البعث في بغداد، سنة 1968، للسفر إلى البرازيل عبر بيروت لإقناع ميشال عفلق، الأمين العام للقيادة القومية، بالعودة الى مزاولة مهامه الحزبية عن قرب.
وتَوَقُّفُ العلي يومين في العاصمة اللبنانية في الطريقِ إلى البرازيل، سَمَحَ لي بالتعرّف عليه، فجلسنا إلى الحديث، فكانَ لطيفَ الكلام، حسن التفهُّم، يتمتّعُ بذهنٍ وقَّاد، إلى ثقافةٍ واسعة، فأدركتُ لماذا انتدبه رفاقه في القيادة القطرية لهذه المهمّة الدقيقة.
ثاني الأسباب: قُربُ صلاح عمر العلي من الرئيس أحمد حسن البكر، جعلَ صدّام حسين حَذِرًا ومُتَخَوِّفًا من أن يأخذَ، في غفلةٍ من الزمن، مكانه لدى البكر.
ثالثها: حيوية صلاح عمر العلي، وشجاعته، وإقدامه في الملمّات، وقدرته على الاستقطاب داخل الحزب وخارجه.
رابعها: أنه عندما “غضب” الرئيس البكر على طارق عزيز، رئيس تحرير جريدة “الثورة” الناطقة بلسان الحزب، لأسبابٍ لا نفسح لها هنا، كلَّف صلاح عمر العلي بتولي رئاسة تحرير الجريدة، بالإضافة إلى مناصبه في مجلس قيادة الثورة والحكومة، كما عيَّنه وزيرًا للري والإصلاح الزراعي بالوكالة.
بَعدَ استقالتي من “البنك المركزي (مصرف لبنان)، تولّيتُ رئاسة تحرير مجلة “الأحرار” التابعة لحزب البعث، التقيتُ صلاح عمر العلي مرةً ثانية في بغداد، فدعاني لمُصاحبته إلى مدينة” العمارة”، لإطلاق موسم قصّ القصب، وتدشينِ معملٍ لإنتاجِ السكّر في “ناحية المجر”، فلم أتردّد في قبولِ الدعوة. ففي تلك المدينة صرفتُ ثلاث سنوات أُدَرِّسُ في مدارسها، وخلال الرحلة رويتُ له تجربتي هناك.
فجأةً ومن غيرِ أسبابٍ موجبة، جُرِدَ صلاح عمر العلي من مناصبه ونُفيَ إلى القاهرة في العام 1970، فبقي في “المحروسة” بضعة أشهر، انتقل بعدها إلى بيروت التي أحبّ، لمدة ثلاث سنوات.
لقد كان صلاح عمر العلي، ضحية “مبارزة المُكرِ بين البكر وصدام”، الذي استطاعَ بطريقةٍ من الطرق أن يستميلَ الرئيس البكر ويُقنِعهُ بالتخلّي عن صلاح عمر العلي، وإبعاده من الخدمة ومن البلاد.
وصولُ صلاح عمر العلي إلى بيروت تزامنَ مع المأزق الحرج للعراق وجيشه على الجبهة الشرقية في الأردن. فبعدَ الاصطدامات الدامية بين الجيش الأردني والمنظّمات الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، في شهر أيلول (سبتمبر) سنة 1970، (الذي صار يُدعى “أيلول الأسود”)، انتظرَ البعثيون أينما وُجِدوا في البلاد العربية، أن يَحسُمَ الجيشُ العراقي المعاركَ لصالح الفلسطينيين، فإذ بالقيادة العراقية تأمرُ قوّاتها بالانسحاب من الأردن، فأحدثَ هذا القرار موجةً واسعةً من الإحباط وخيبة الأمل، مما اضطرَّ صدام حسين أن يسافرَ إلى بيروت، باسمٍ مُستَعار، ليُبَرِّرَ ذلك الموقف أمام ميشال عفلق والقيادتين القومية والقطرية في لبنان.
وحَدَثَ أن كشفت جريدة “النهار” عن هذه الزيارة بعد أيامٍ من مغادرة صدّام حسين بيروت، والأغلب على الظن أنَّ الخبرَ سُرِّبَ إلى الجريدة من جهةٍ حزبيةٍ ما، والله أعلى وأعلم…
لا أعرفُ ما إذا كان صدام حسين التقى صلاح عمر العلي، خلال تواجده في بيروت، لكنني أستبعدُ ذلك، لأنَّ صلاح عمر كان جاري في منطقة الروشة، وكُنّا نلتقي بصورةٍ دائمة، ونتحادث في مختلف الأمور، ولم يظهر عليه أنه غَيًّرَ من مواقفه التي أعرفها.
***
خلال العامين 1970 و1971، أقدم صدام حسين بدَعمٍ كاملٍ من الرئيس أحمد حسن البكر، بتصفيةِ نُخبةٍ من القياديين في الحزب والدولة، كانت نتيجتها الطبيعية، جلوس صدام حسين إلى جوارِ البكر نائبًا له.
وقد تمَّ لهُ ذلك، بعدَ مناوَرةٍ مُفتَعلة اتُّخِذَت ذريعةً لإبعاد صالح مهدي عماش من مناصبه في الحزب والدولة، فالأرجحية كانت له في تبوُّؤِ المنصب، وإبعاده المتجني سهَّل “انتخاب” صدام حسين “نائبًا للرئيس”.
الدكتور جواد هاشم في كتابه “مذكّرات وزير عراقي مع البكر وصدام”، يتذكَّرُ ويَذكُرُ مقابلته مع جمال عبد الناصر، فوجدهُ مُهتَمًّا بالشأنِ العراقي، فاستغربَ الرئيس المصري أمامه المُفاضَلة بين صدام حسين وصالح مهدي عماش، ومُستَفسِرًا عمّا إذا كانت هناك صراعاتٌ وانقساماتٌ داخل القيادة العراقية.
وزَعَمَ جواد هاشم أنَّ الرئيس جمال عبد الناصر بدا مُستاءً، ووصف صدام حسين بأنه “طايش، مُتَهوِّر، وبلطَجي”!
بعدَ تجريدِ صالح مهدي عماش من مناصبه في الداخل، أُرسِلَ إلى الخارج سفيرًا لدى موسكو، ثم باريس بعدها، لينهي وجوده في السلك الديبلوماسي سفيرًا في هلسينكي.
بعدَ عودتهِ إلى بغداد بفترةٍ وجيزة، ذهب صالح مهدي عماش إلى ربِّه. ترامت الأخبارُ في العاصمة العراقية وخارجها، أنَّ الرجلَ قضى مسمومًا، وحامت الشُبهات، وتراكَمَت علاماتُ الاستفهام، من أن يكونَ تَسَمُّمُ عماش كان بفعلِ فاعل، فهو لم يكن يشكو من عوائق صحية، وعُرِفَ عنهُ أنه رياضي، وأنه كان قويًّا منذ بداية خدمته العسكرية.
وبالطريقة ذاتها تقريبًا تمَّ تسريح الرجل القوي الآخر في النظام العراقي الجديد، حردان عبد الغفار التكريتي، وبعد تسريحه بفترة وجيزة جرى اغتياله في الكويت، في 30 آذار (مارس) 1971 وهو في طريقه لإجراءِ فحوصاتٍ في أحد المراكز الطبية في العاصمة الكويتية.
***
ما كانت تَصفِيةُ قُدامى العسكريين المحسوبين على حُكمِ البعث لتتمّ بهذه السهولة لولا وجود أحمد حسن البكر على رأس الدولة، بصفته زميلًا لبعضهم في المؤسسة العسكريَّة، ورفيقًا لبعضهم الآخر في المؤسسة الحزبية.
لكن تلك التصفيات، على الرُغمِ من أنّها دفعت صدام حسين إلى مقامٍ أعلى في السلطة، وجعلته أقدر على التأثير في توجُّهات الرئيس أحمد حسن البكر، لم تُعطِه الاطمئنان الكافي للوصولِ إلى هدفه النهائي، فاستدار إلى تصفيةِ قياديين لهم شرعية الأسبقية عليه في “حزب البعث”. أبرزُ قائدَين حِزبِيَين في هذا الإطار كانا: الدكتور عبد الكريم الشيخلي، وهو طبيبٌ شغلَ منصب وزير الخارجية، وعبد الخالق السامرائي، مسؤول الثقافة والإعلام في القيادة القومية، رافضًا أيّ منصب حكومي، وهو سبق صدام حسين سنوات في الانتماءِ إلى الحزب، ويمكن القول إنه كانَ “رئيسه ومرشده” في الحلقة الحزبية في خمسينيات القرن الماضي.
والشيخلي والسامرائي لقيا حتفهما بطريقةٍ بَشِعة أثارت حنقَ وغضبَ كوادر الحزب وأوساط خارجه، فالرجلان تعاطيا في شؤونٍ قومية إلى جانبِ شخصياتٍ بارزة من العالم العربي.
عبد الكريم الشيخلي سُرِّحَ من مناصبه في العام 1971، وعُيِّنَ رئيسًا لبعثة العراق لدى الأمم المتحدة في نيويورك، وفي العام 1978 اعتُقِلَ في بغداد بتهمة التشهير بالرئيس أحمد حسن البكر و نائبه صدام حسين، فحُكِمَ عليه بالسجن سنوات خمس، لكن بعدَ سنتين شمله العغو العام، فخرَجَ من السجن لكنه سرعان ما جرى اغتياله وهو في طريقه إلى مركز البريد لدفع فاتورة الكهرباء.
أمّا مُعاناة عبد الخالق السامرائي فكانت أشبه بالتراجيديا الإغريقية في كلِّ ملابساتها حتى النهاية، إلى درجة أنَّ عفلق والبكر ما كانا مُرتاحين لها وتدخّلا فيها، لتخفيف حكم الإعدام عنه.
على أن تراجيديا السامرائي فتحت طريق صدام إلى السلطة المُطلقة في العراق.
(الحلقة السابعة يوم الأربعاء المقبل: النائب)
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.