لبنان… الحرب الأهليَّة المُستَدامة (37): “لَبنَنَةُ” الشيعة خِيارٌ ماروني
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
عندما رُسِمَت خريطةُ لبنان الكبير في فرنسا تمهيدًا لإعلانِ الدولة، طُرِحَت أفكارٌ مُتَعَدِّدة لم يُؤخَذ بها، كما أراد البطريرك الماروني الياس الحويك. فقد كانت هناكَ فكرةٌ، طرحها الجنرال هنري غورو، (المندوب السامي الأول على لبنان وسوريا، وقائد الجيش الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى من 1919 الى 1923)، تقضي بتكبيرِ مساحةِ لبنان بحيث تضمُّ وادي النصارى والساحل السوري شمالًا، حيث توجد كثافة سكانية مسيحية، لكنها غير مارونية. ويُقالُ أيضًا إن الجنرال غورو اقترَحَ ذلك، لأنّهُ كانَ شديدَ التمسّكِ بالعلمانية، التي سار عليها المفوَّض السامي هنري دو جوفينيل عندما وُضِعَ الدستور في العام 1926، الذي كان ميشال شيحا من أبرز المساهمين فيه.
فعلى الرُغمِ من أنَّ الموارنة هم أصحاب المشروع، فإنَّ رئاسة الجمهورية، في بداية دولة لبنان الكبير، أُعطِيت للأرثوذكسي شارل دباس، الذي استمر في الرئاسة ست سنوات، (كانت مدة الرئاسة ثلاث سنوات)، وتَرشيحُ دباس هَدَفَ منه المفوَّض السامي، تخفيف حدّة المعارضة الطائفية في البلاد، إذ كان شارل دباس، أكثر قبولًا لدى الدروز، والشيعة، والسنّة، من إميل إده، حيث كانت الرئاسة وقتها، معقودةً له.
وما كان الفرنسيون يُرَشِّحون شارل دباس لو لم يكن فرنسي الهوى، وما كان البطريرك الحويك يقبله، لو لم يكن استقلاليًا قديمًا، من أعضاء لجنة باريس سنة 1917. وكذلك، الرؤساء الذين أتوا بعده، لم يكونوا موارنة، فالرئيس بترو طراد كان أُرثوذكسيًا، وأيوب ثابت بروتستانتيًا.
في البداية ظهرَ وكأنَّ هناكَ مُفارَقة من حيث الأرجحية التأسيسية، لكون البطريرك الماروني الياس الحويك هو الأب الحقيقي للبنان الكبير، فإذا برئاسة الجمهورية تَؤول إلى غير الموارنة. وهذه المُفارَقة يُمكِنُ تفسيرها لصالح الأرجحية التأسيسية للموارنة، الذين أظهروا قبولهم برؤساءٍ من غيرِ ملَّتهم في بداية الطريق، بأنَّ ما يهمّهم هو لبنان وليس الرئاسة، وأنَّ مجيءَ رؤساءٍ للبنان الكبير من غير الموارنة هو إعلانٌ عن رغبتهم بأن يكون لبنان دولةً مدنية علمانية.
ولأنَّ البطريرك الماروني في “مؤتمر فيرساي للسلام”، (1919)، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتفكيك الإمبراطورية العثمانية، آثَرَ انضمامَ شيعة الجنوب على انضمامِ مسيحيي الشمال السوري إلى لبنان الكبير، فإنَّ القولَ القاطع في هذه المسألة هو أنَّ ضَمَّ شيعة الجنوب إلى الدولة اللبنانية الوليدة هو خِيارٌ ماروني بامتياز.
وقد كانت هذه المسألةُ بالغةَ الحساسية في ذلك الوقت لوجودِ مشروعٍ بديلٍ ومُنافِس، هو مشروع الدولة العربية بقيادة الملك فيصل بن الشريف حسين الهاشمي. والملك فيصل بعد إعلان الدولة العربية في دمشق رغب في إلحاق الأقضية الأربعة التي ضُمَّت إلى لبنان بدولته، فكاتَبَ بَعضَ الزعماء والشيوخ المُسلمين في تلك الأقضية، سنَّةً وشيعةً، يدعوهم فيها إلى الانضمام للدولة العربية. ومن الذين فاتحهم الملك فيصل بالأمر مفتي طرابلس عبد الحميد أفندي كرامي، والإمام الشيعي السيد عبد الحسين شرف الدين في صور. وكانَ في الأقضية الإسلامية جمهورٌ كبيرٌ من العوام والوجهاء يؤثِرُ الانضمامَ إلى الدولة العربية في دمشق، بين السنَّة والشيعة على السواء، لكن السيد شرف الدين في الجنوب، والمفتي كرامي في الشمال، آثَرا البقاءَ في الجمهورية اللبنانية، خلافًا لما رغب فيه التيار “العروبي”.
يُمكِنُ فَهمُ هذه المسألة، أي المُفاضَلة بين هَوِيَّتَين، في إطار تردُّد المسلمين في قبول الوصاية الفرنسية. وقد ازدادت حساسية هذه المُفاضَلة بعد الرسالة التي وَجّهها البطريرك الماروني، الياس الحويك، في العام 1926 إلى وزير الخارجية الفرنسي أرستيد بريان، قال فيها: “إنَّ الفكرة الأساسية التي استُخدِمَت كأساسٍ لدولةِ لبنان الكبير، هي أن يكونَ ملجأً لجميع مسيحيي الشرق ومَوئلًا للولاءِ غير المُنقَسِم لفرنسا”.
وكان أرستيد بريان في ذلك الوقت قد نال جائزة نوبل للسلام بالشراكة مع وزير خارجية ألمانيا حينها غوستاف سترسمان، لدورهما الكبير في المصالحة الفرنسية–الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى.
لا بُدَّ من القول في هذه الحالة أنَّ نقطة الضعف في مشروع لبنان الكبير هي أنه لم يقم من الأساس على قاعدةٍ علمانية مَدَنيّة صريحة وواضحة، وبالتالي بقيت المُكَوّنات التأسيسية للدولة اللبنانية على ولائها السابق لقوى ومرجعياتٍ خارجية: الموارنة لفرنسا والفاتيكان، والسنّة لأيِّ مجموعةٍ تسعى إلى الوحدة العربية، والشيعة بشكلٍ عام لديهم ارتباطٌ خاص بمرجعيّاتهم الخارجية (حوزات العراق وإيران)، وهو ارتباطٌ عقائدي وثقافي، يختلفُ جوهريًا عن الارتباط السياسي للمكوّنات الأخرى التي تتقاطع وتنسجم أحيانًا بتوجّهاتها الثقافية، داخليًا وخارجيًا.
لكن في معظم الدول التعدّدية التكوين، صغيرة كانت أم كبيرة، هناكَ دائمًا “أرجَحيّة تأسيسية” لفريقٍ مُتَمَيِّزٍ في دعوتهِ إلى الاتحاد من غيرِ اضطرارٍ، أو بسببٍ من ريادته. وإذا أخذنا بلدًا صغيرًا مثل لبنان، وبلدًا كبيرًا مثل الولايات المتحدة الأميركية، وقد شهدا كلاهما وفي وقتٍ واحدٍ خلال ستينيات القرن التاسع عشر حربًا أهلية طاحنة، نَجِدُ أنَّ الأرجحية التأسيسية للموارنة في لبنان، والأرجحية التأسيسية للعِرقِ البروتستانتي الأنكلو–ساكسوني الأبيض في أميركا، بقي لهما هذا الامتياز على الرُغم من قساوة الحرب الأهلية، وعلى الرُغم أيضًا من التغيير الديموغرافي الذي جعل المُكَوِّن الأساسي للدولة يفقُدُ أغلبيته العددية. فالعددُ في مثلِ هذه الحالات ليس هو المقياس.
من هذا المُنطَلَق أقرَّ “اتفاق الطائف” الذي به انتهت الحرب الأهلية العسكرية، بالأرجحية التأسيسية للمسيحيين في لبنان، بصرفِ النظر عن العدد، لكنه في المقابل وازَنَ تلك الأرجحية بمبدَإِ المُناصَفة، باعتبار أنَّ المُكوّنات غير المسيحية قبلت بالشراكة على أساسِ الأرجحيّة الأصليّة.
على عيوب ذلك الاتفاق، يلوحُ تفسيرٌ مُضمرٌ لإشاحة اللبنانيين عن إجراءِ أيِّ إحصاءٍ جدِّيٍ شامل منذ الإحصاء الأول والأخير الذي جرى في العام 1932. فقد قيل في ذلك: “إنَّ الإحصاءَ في لبنان قويٌّ إلى درجةِ استحالةِ إجرائه”!
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.