لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (31): التَدويلُ السَلبي
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
سليمان الفرزلي*
عندما لا تتعاطى الولايات المتحدة بالشأنِ اللبناني مُباشَرةً، فهذا لا يعني أنَّ الأمرَ لا يَهمُّها، فما شهده لبنان في جانبٍ منه، كان بموافقتها أو من صنعها. فمنذُ مطلعِ الألفية الثالثة، تعاطت الإدارات الأميركية المُتعاقِبة مع لبنان بسلبية، وحَذَت حذوَها بقيّةُ حلفائها من عربٍ وغيرِ عرب. لكن ما تريده واشنطن من لبنان لا تستطيعُ الدولةُ اللبنانية تلبيته، ولا هي ترغَبُ في ذلك، لأنه مَدخلٌ إلى تحويلِ الحربِ الأهلية الباردة المُستدامة إلى حربٍ أهلية ساخنة لا تبقي ولا تذر.
ومن السذاجة القول إنَّ الأميركيين لا يعرفون مَنْ فَجَّرَ مرفأ بيروت، خصوصًا أن الرئيس الأميركي وقتذاك دونالد ترامب صَرَّحَ عَلَنًا، فور وقوع الانفجار، أن جنرالات في البنتاغون أبلغوه بأنَّ بيروت تعرَّضَت لهجوم. وهناك عسكريون أميركيون مُتقاعِدون ألمحوا إلى أنَّ السلاحَ الذي دمَّر المرفأ والواجهة البحرية المقابلة له هو صاروخٌ يحملُ رأسًا من اليورانيوم المُنَضَّب، أي أنه سلاحٌ نووي تكتيكي. ولهذا يُمكِنُ القول إنَّ ما وَقَعَ في لبنان من انهيارات، على جميع المستويات، تتحمّلُ الولايات المتحدة جانبًا من المسؤولية عنه، بصَرفِ النظر عن الأسباب الداخلية اللبنانية التي أملت وتُملي هذه المواقف السلبية.
فالتعاطي الأميركي غير المُباشَر في الأزمة اللبنانية هو نوعٌ من التدويل السلبي، أي استخدام الأزمة الخانقة للشعبِ اللبناني كسلاحٍ تكتيكي لتغيير الأوضاع، لكن مداه ما زال مجهولًا. وهذا النوعُ من التعاطي يُشبِهُ النكد السياسي اللبناني، أي إنه معالجةٌ لداءِ اللبنانيين بدوائهم المُرّ، لا يقتلهم لكنه يُدخلهم في حالةِ غيبوبة (كوما).
أمّا في العَلَن، فإنَّ الأميركيين يستخدمون دُوَلًا حليفةً لهم للظهور بمظهر الاهتمام، أي “التدويل بالوكالة”. وفي هذه الحالة، أي الحالة اللبنانية، يُكلّفون فرنسا بهذه المهمة لكونها مقبولة من معظم اللبنانيين لأسبابٍ عاطفية، وثقافية، وتاريخية. فالتدويلُ بالوكالة سلبيٌّ في جوهره، لأنه نوعٌ من المُماطلة، وكسبِ الوقت، فالتدويلُ الجدِّي لا يتمُّ إلَّا بوجود الأصيل. وعندما يظهرُ الأصيل تحصلُ نتائج سريعة، كما شاهد اللبنانيون، بالصوت والصورة، في عملية التفاوضِ برعايةٍ أميركية حول اتفاقِ رَسمِ الحدود البحرية مع إسرائيل، وعلى الرُغمِ من وجود “حزب الله” في الصورة الخلفية، وهو الذي تتذرَّعُ به واشنطن لتضييقِ الخناقِ على اللبنانيين.
لكن اعتماد الوكيل الفرنسي ليس مُقنِعًا حتى لواشنطن نفسها. فخلال زيارتي دمشق أواخر شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام 1992 تسنّى لي لقاء فاروق الشرع، وزير الخارجية وقتذاك، فسألته عن التعاطي السوري مع القوى الدولية وأيّها أسهل مراسًا فأجاب من غير تردّد:.”الأميركيون… لأنهم يقولون لك مباشرةً ماذا يريدون منك ويسألونك بصراحة عمَّا تريده مقابل ذلك”.
“وماذا عن الفرنسيين؟”، سألته فأجاب: “يُشبعونك كلامًا جميلًا ووَعدًا وعند الجدِّ لا تَجِدْ لهم أثرًا. فهم لا يستطيعون تلبية ما هو مطلوب”.
وقد لمسَ اللبنانيون، لمس اليد، حالةً مُتطابقة مع ما قاله الشرع، عندما صعد الرئيس ميشال عون إلى حفَّارة النفط في بحر البترون، التابعة لشركة “توتال” الفرنسية، لافتتاح أعمال التنقيب، ثم انكفأت الشركة الفرنسية وأوقفت العمليات، من غيرِ إبداءِ أيِّ سببٍ مُقنع سوى تلقّيها إشارة أميركية بالانسحاب. وحتى عندما زار الرئيس الفرنسي ماكرون بيروت أكثر من مرَّة بعدَ تفجيرِ مرفَإِ بيروت مباشرةً، والتقى القوى السياسية اللبنانية كلِّها، بما فيها “حزب الله”، وتفقُّده للأضرار الناجمة من الانفجار، لم يتحقّق على يده أي تقدّم في الوضع اللبناني المُتهاوي، بل ازداد تدهورًا، على الرُغمِ من الترحيب الاستثنائي به، رسميَّاً وشعبيَّاً، إلى درجة أنَّ بعضَ اللبنانيين المُرَحِّبين به طالبه بعودة الانتداب الفرنسي لحُكمِ لبنان. كلُّ ما بقيَ من تلك “الهمروجة” وسامٌ على صَدرِ فيروز!
وهناكَ مَن يظنّ في فرنسا أن ماكرون افتتحَ حملتهُ الانتخابية، لولايةٍ رئاسية ثانية، في ذلك المهرجان اللبناني. وبعضهم يعتقدُ بأنَّ حملته الانتخابية تلك في بيروت كانت من الأسباب الوجيهة لفوزه بولايةٍ ثانية.
على أنَّ السياقَ التاريخي للعلاقات، بين باريس وواشنطن، يُحِدُّ من فاعلية الدور الفرنسي في السياسة الخارجية. ومن أبرز تلك التقلبات المُبكرة التحدّي الذي رفعَ لواءَه الجنرال شارل ديغول في ستينيات القرن الماضي ضدَّ الهيمنة الأميركية، فانسحب من حلف شمال الأطلسي، وزار روسيا السوفياتية مُعتَبرًا، أنَّ الحدودَ الشرقية لأوروبا تبدأ من جبال الأورال (مُلمّحًا بذلك الى إدخال روسيا في الأسرة الأوروبية، في الوقت الذي وضع الفيتو على إدخال بريطانيا فيها). ورفع ديغول سقفَ التحدي عندما زار المقاطعة الفرنسية في كندا، حيث هتف بحياة “كيبيك الحرة”، وكأنه توخَّى من ذلك فك التحالف بين كندا والولايات المتحدة.
أما في الشرق الأوسط فقد لعب ديغول أوراقًا استراتيجية خطيرة في وجه واشنطن فأقامَ علاقاتٍ متينة مع مصر الناصرية، ووَجَّهَ دعوةً رسميَّة إلى المشير عبد الحكيم عامر قائد القوات المصرية المسلَّحة لزيارة باريس، حيث أقام له عشاءً تكريميًا في قاعة المرايا في قصر فرساي (وهو أول عشاء رسمي جرى في تلك القاعة منذ مغادرة الملك لويس السادس عشر لقصر فرساي في الثورة الفرنسية في العام 1789). والأهم من ذلك كله، أنَّ الجنرال ديغول قطعَ توريد السلاح الفرنسي إلى إسرائيل، وكان حتى ذلك الوقت يأتي كلُّه من فرنسا، مما أحرج الرئيس جون كنيدي بسببٍ من الضغوط التي تعرَّض لها للسماح بتوريد السلاح الأميركي إلى إسرائيل تعويضًا عن السلاح الفرنسي.
وكان ذلك تحوُّلًا هائلًا في الوضع الدولي والإقليمي، فبعثَ كنيدي برسالةٍ سرِّيَّة إلى الرئيس جمال عبد الناصر، يعرضُ عليه وساطته لحلٍّ سلمي مع إسرائيل، لأنه يتعرّض لضغوطٍ شديدة من أجل تسليح الدولة العبرية، وهي ضغوطٌ قال إنهُ لن يستطيعَ تجاهلها طويلًا، مما يستدعي القيام بمساعٍ سلمية برعايةٍ أميركية، وعلى وجه السرعة.
وكان… ما كان.
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن مُتابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com