دولةٌ مَنبوذَة أم لا؟

في غياب أفقٍ سياسي للفلسطينيين، فقد تختار إسرائيل البديل الأكثر فظاعةً على الإطلاق، التطهير العرقي والتهجير (الترانسفير).

بنيامين نتنياهو: لم يخفِ ما يريده من الأوروبيين.

مايكل يونغ*

مَثّلَ السابعُ من تشرين الأول (أكتوبر) أشياءً كثيرة بالنسبة إلى إسرائيل، لكنه قبل كل شيء كان بمثابة تأكيدٍ على أنَّ طموحاتِ القيادة الحالية للبلاد وصلت إلى طريق مسدود. أظهر هجوم حركة “حماس” على البلدات والقواعد العسكرية الإسرائيلية أنَّ فكرةَ الالتفافِ على الفلسطينيين لعَقدِ صفقاتٍ مع الدول العربية كانت مُجَرّد وَهم. إنَّ المشكلة في إسرائيل وما حولها تبقى كما هي: في غيابِ أُفُقٍ سياسي للفلسطينيين، ستظلّ إسرائيل دولة مبنية على أساسٍ من القمعِ البُنيوي، حيث يتمُّ إخضاعُ الفلسطينيين وتجاهلهم وإذلالهم بشكلٍ دائم. وعندما يُدرِكُ الإسرائيليون أنَّ هذا الوضع غير قابلٍ للاستمرار، فسوف يجدون أنفسهم أمام أحد خيارَين: إمّا إبرام اتفاق سلام دائم مع الفلسطينيين، أو إيجاد وسيلة لنقل وتهجير الفلسطينيين بالقوة من الضفة الغربية وغزة (ومن الممكن أولئك الذين كانوا داخل حدود العام 1948) إلى الدول العربية المجاورة.

رُغمَ أنَّ السلامَ هو الطريق الأفضل، فَمِنَ المُرجَّح أن يُفَضِّلَ الإسرائيليون بديله: التطهير العرقي. إنَّ ما نشهده اليوم عبر الطَيفِ السياسي الإسرائيلي هو إجماعٌ واضحٌ على أنَّ السابعَ من تشرين الأول (أكتوبر) أظهرَ أنَّ التعايشَ بين اليهود والفلسطينيين كان أمرًا مستحيلًا. ولذلك فإنَّ الحلَّ الوحيد المُتبقّي هو التخلص من أكبرِ عددٍ مُمكنٍ من الفلسطينيين في محيط إسرائيل.

لقد كانت فكرة “الترانسفير” (النقل أو التهجير) العربي خارج فلسطين حاضرة دائمًا في النقاش الإسرائيلي، وكانت محورًا للفكر الصهيوني، كما أظهر المؤرخ نور مصالحة في كتابه الرائد “طرد الفلسطينيين: مفهوم “الترانسفير” في الفكر السياسي الصهيوني، 1882-1948″. إنَّ التركيبة السكانية اليوم تجعل المداولات الإسرائيلية حول هذه الخطوط أكثر حدّة. لقد رأينا أخيرًا قادةً إسرائيليين، فضلًا عن صنّاع القرار الحاليين والسابقين، يناقشون علنًا فكرة نقل وتهجير الفلسطينيين من غزة، حيث طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من الزعماء الأوروبيين ممارسة الضغط على مصر لقبول استقبال فلسطينيي غزة، الذين ستجليهم إسرائيل سيناء.

وبما أنَّ اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بحسب وصفها، هي إحدى المنظمات الأكثر مشاركة في “الحماية والمساعدة الإنسانية لضحايا الحرب والعنف المسلح”، و”تتخذ الإجراءات استجابة لحالات الطوارئ [مُعَزّزةً] احترام القانون الإنساني الدولي وتنفيذه في القانون الوطني،” سيكون من المفيد أن نبدأ بتعريفها للتطهير العرقي. فهي تعرّفه بأنه “سياسةٌ هادفة تُصَمّمها مجموعةٌ عرقية أو دينية واحدة لإبعاد السكان المدنيين المُنتَمين إلى مجموعةٍ عرقية أو دينية أخرى من مناطق جغرافية مُعَيَّنة باستخدام وسائل العنف والإثارة”.

وقد أعدت وزارة الاستخبارات الإسرائيلية “ورقة مفاهيمية”،  قلّلت السلطات من أهميتها، تُوَفّرُ خياراتٍ لما يجب فعله مع الفلسطينيين في غزة. وتقترح على إسرائيل “إجلاء سكان غزة إلى سيناء” و”إنشاء منطقة مُعَقَّمة بطول كيلومتراتٍ عدة داخل مصر وعدم السماح للسكان بالعودة إلى النشاط أو الإقامة بالقرب من الحدود الإسرائيلية”. وبموجب تعريف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن مقترحات الوزارة، كما تصرفات نتنياهو، هي خطوات لا لبس فيها في مشروع التطهير العرقي للفلسطينيين الذين يعيشون في غزة.

وعندما حدث ردُّ فعلٍ ضد وثيقة وزارة الإستخبارات، حاول بعض الإسرائيليين اتباعَ نهجٍ آخر. نشر اثنان من السياسيين الإسرائيليين، داني دانون من حزب الليكود ورام بن باراك من حزب “يش عتيد” (هناك مستقبل) الأكثر وسطية، مقالًا في صحيفة وول ستريت جورنال دعيا فيه دول العالم إلى استقبال ما أسموه “أعدادًا محدودة” من العائلات الغزّية التي عبّرت عن رغبتها في الانتقال والهجرة”. في ظاهر الأمر، بدا هذا بمثابةِ لفتةٍ إنسانية لصالح الفلسطينيين، لكن الواقع كان مختلفًا تمامًا. نظرًا إلى أنَّ إسرائيل دمّرَت مساحاتٍ كبيرة من غزة، ما جعلها غير صالحة للسكن، فيُمكننا أن نفترضَ أنَّ عددًا غير قليل من سكان غزة ربما يختارون مغادرة القطاع إذا أُتيحَت لهم الفرصة للقيام بذلك. بعبارةٍ أخرى، فإنَّ ما اختار السياسيّان بشكلٍ مُخادِعٍ تصويره على أنه خطّة تؤثر في أعدادٍ محدودة من الفلسطينيين هي خطة من المرجح أن تنتهي في النهاية إلى جذب عدد أكبر بكثير من الأشخاص الذين دُمِّرَت حياتهم.

ليس من المُستَغرَب أن يحظى تكتيك التطهير العرقي الناعم هذا بتأييدِ العناصر الأكثر تطرفًا في المؤسسة السياسية الإسرائيلية، حيث وافق بتسلئيل سموتريش، زعيم الحزب الديني الوطني اليميني – الصهيونية الدينية، المتطرّف على الاقتراح. كان سموتريتش نفسه قدّمَ ما يسمى بـ”الخطة الحاسمة” في العام 2017، والتي دعا فيها إلى توسيعٍ كبيرٍ للمستوطنات في الأراضي المحتلة، بحيث “لن يَعُودَ الحلمُ العربي بدولةٍ في يهودا والسامرة قابلًا للتطبيق”. وهذا من شأنه أن يترك الفلسطينيين أمام احتمالين: “أولئك الذين يرغبون في التخلي عن تطلعاتهم الوطنية يمكنهم البقاء هنا والعيش كأفرادٍ في الدولة اليهودية”، أو “أولئك الذين يختارون عدم التخلي عن طموحاتهم الوطنية سيحصلون على المساعدة للهجرة إلى دولة من الدول التي يحقق فيها العرب طموحاتهم الوطنية، أو إلى أي وجهة أخرى في العالم”. ويمكن للمرء أن يسمع أصداء سموتريتش في مقال دانون وبن باراك، الذي يبدو أنه يعكس وجهات النظر السائدة.

دعونا نفحص احتمالًا واحدًا. إذا افترضنا أن الفلسطينيين تنازلوا عن تطلعاتهم الوطنية واختاروا العيش في دولة يهودية، فما الذي ينتظرهم في الواقع؟ إذا كان الماضي مجرد مُقدّمة ومثال، فإن الفلسطينيين الذين سيبقون في إسرائيل والأراضي المحتلة سيكون مصيرهم على الأرجح قبول وضع ثانوي دائم في ظل نظام قانوني يعامل اليهود والفلسطينيين بشكلٍ غير متساوٍ، وهو التعريف القانوني للفصل العنصري.

يبدو أنَّ قولَ مثل هذا الشيء يُشَكّلُ مثالًا على معاداة السامية، وفقًا لمسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الذي يتبنّى التعريف المُثير للجدل لمُصطَلَح التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة. لكن المشكلة الوحيدة هي أنَّ عددًا متزايدًا من الإسرائيليين يبدو أنهم يوافقون على هذا المصطلح. ويشمل ذلك منتدى أساتذة القانون الإسرائيليين من أجل الديموقراطية، وهو مجموعة مخصصة وتطوعية من الخبراء القانونيين الإسرائيليين، الذي نشر تقريرًا في آذار (مارس) 2023. ويبحث التقرير كيف قامت الإدارة المدنية في الضفة الغربية المحتلة، من خلال إتفاق تقاسم السلطة الحكومية، بإعطاء مسؤولية إدارتها للوزير الإضافي في وزارة الدفاع الإسرائيلية، يعني تسلئيل سموتريتش. ويمثل هذا قطيعة مع الماضي، عندما كانت الضفة الغربية المحتلة تحكمها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في ظل احتلال عدائي، وليس الحكومة الإسرائيلية.

بحسب أساتذة القانون، فإنَّ الاتفاقَ، من خلالِ وَضعِ إدارة الضفة الغربية في أيدي وزيرٍ في الحكومة، “يُعمّقُ الخلافات الموجودة أصلًا بين الإسرائيليين المقيمين في الضفة الغربية والفلسطينيين المقيمين هناك، في ما يتعلق بالأُطُرِ القانونية والقانون المعمول به الذي يحكمهم، ويُكثّفُ التمييز بين هؤلاء السكان. إن الاتفاقية هي إجراءٌ علني ورسمي يؤكد صحة الادعاءات بأنَّ إسرائيل تُمارِسُ الفَصلَ العنصري، وهو أمرٌ محظورٌ بموجب القانون الدولي”. وقد توصّل آخرون إلى الشيء نفسه، بما في ذلك منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، ومقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967.

لقد عَلَّمَت غزة الإسرائيليين دروسًا عدة عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع السكان الفلسطينيين الموجودين في وسطها. الأوّل هو أنه عندما يُنظَرُ إلى إسرائيل باعتبارها ضحية، فإنَّ المجتمع الدولي لا يتردّد في السماح لها بانتهاك القانون الدولي، وفي هذه الحالة ارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك العقاب الجماعي. ثانيًا، يمكن للأعمال الإنسانية أن تعمل بسهولة كتمويهٍ لأهدافٍ أكثر شرًّا. ولو قبلت مصر بممرٍّ إنساني يسمح للفلسطينيين بالبحث عن ملجَإٍ في سيناء، فمن المحتمل أن يمنح ذلك إسرائيل فرصةً لإغلاق الباب ومنع عودتهم إلى المنطقة. ولهذا السبب رفض المصريون منذ البداية فكرة الممر الإنساني.

وثالثًا، نَظَرَ العديدُ من الإسرائيليين إلى السابع من تشرين الأول (أكتوبر) باعتباره تهديدًا وجوديًا لدولتهم (وهو ما لم ينكره أعداؤها قط)، ما جعلهم أكثر تصميمًا على التعامل مع الوجود الفلسطيني من خلال إجراءات جذرية وعنيفة. إنَّ حقيقةَ وجود احتجاجات قليلة ضد القصف الذي استمر خمسة أسابيع في غزة، والذي قُتل فيه ما يصل إلى 15,000 إلى 20,000 شخص، كثير منهم أطفال، تُظهِرُ إلى أي مدى يُمكِنُ للخوف أن يدفع الناس إلى الموافقة على هذا الأمر الذي يستحقُّ الشجب.

من الطبيعي أن تُفكّرُ إسرائيل بهذه الطريقة. إن تحوّلَ الناخبين الإسرائيليين نحو اليمين، وتطرف حكومة نتنياهو، وتسهيل الولايات المتحدة للسياسات الإسرائيلية الأكثر إثارة للجدل، كانت من الأسباب التي دفعت الإسرائيليين إلى الحائط. برفضها النظر في قيام دولة فلسطينية، وتقويض السلطة الفلسطينية، ودعم الأنشطة غير القانونية للمستوطنين اليهود في الأراضي المحتلة، وخنق غزة، ودفع الفلسطينيين إلى جيوبٍ أصغر في الضفة الغربية، والآن غزة، أصبحت إسرائيل دولة هدفها الأساسي، على ما يبدو، هو حرمان ملايين الفلسطينيين الخاضعين لسيطرتها من حقوقهم.

بعبارةٍ أخرى، يتعيَّن على الإسرائيليين، وهم يفكرون في تبنّي طريق التطهير العرقي أو الإبقاء على نظام الفصل العنصري ببساطة، أن يفكروا فيما إذا كانوا يريدون ترسيخ ما يعتبره عدد متزايد من الناس في مختلف أنحاء العالم بأنها دولة منبوذة. ربما يكون الجواب نعم، ولكن أيّ أمان في ذلك، وإلى متى؟ في العقود الأخيرة، قام أعداء إسرائيل بتحسين أسلحتهم واستراتيجياتهم، في حين وجدت الولايات المتحدة، الحليف الأقوى لإسرائيل، نفسها أكثر عزلة. إن رفضَ القادة الإسرائيليين مَنحُ الفلسطينيين دولة ــحتى لو كانت دولةً مُشَوَّهة ومُحَصَّنة على أيدي جيشٍ مُتَعَسِّف، حيث تسيطر إسرائيل على كل نقاط الوصول، وكل الموارد، وكل الأرواحــ لم يعد مقبولًا بالنسبة إلى الجيل الصاعد من الشباب في جميع أنحاء العالم.

لا بدَّ أن يشعرَ الإسرائيليون بأنَّهم مُحاصَرون، وأنَّ الكثيرين منهم يواجهون موجة متصاعدة من معاداة السامية. ونظرًا إلى الأعداد الكبيرة من اليهود في إسرائيل وخارجها الذين يرفضون منطق الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يرحم، فإنَّ معاداة السامية ليست مجرد ردِّ فعلٍ بغيض على ما تفعله إسرائيل، بل هي أيضًا ردُّ فعلٍ غبي بشكلٍ خاص. وبينما تقف إسرائيل أمام خيارين: السلام العادل مع الفلسطينيين أو التطهير العرقي، فلا بدَّ من إقناعها باختيار الأول. هناك أولئك في إسرائيل، والعديد منهم في السلطة، يرفضون السلام، ولهذا السبب على وجه التحديد يجب على أولئك الذين يريدون التسوية في العالم العربي وفي أماكن أخرى أن يجدوا قضية مشتركة مع اليهود في كل مكان الذين يسعون إلى الشيء نفسه.

عندما تهدأ أخيرًا ردود الفعل على السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، فسوف يُدركُ كثيرون ما ينبغي أن يكون واضحًا الآن. ليس أمام اليهود والعرب خيارٌ سوى التعايش حيث لن يتمكن أيٌّ من الشعبين من التخلّص من الآخر، حتى لو كان السعي إلى تحقيق ذلك يقلّل من كلٍّ منهما.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى