لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (29): الأميركان يَفعَلونَها ويُزعِلونَ زبائنَهُم

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

في سنة 1959، وكان لبنان قد نفضَ عنه غُبارَ صيف 1958 الدامي، تمّت تسويةٌ دولية، رَعَتها واشنطن ووافق عليها جمال عبد الناصر، قضت بإيصال قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب إلى سدّة الرئاسة.

كُنتُ سنتها لمَّا أَزَل طالبًا في “الجامعة الأميركية”، فتنادت مجموعةٌ من الطلاب لزيارة صرح بكركي ولقاء البطريرك مار بولس بطرس المعوشي (أول بطريرك ماروني يحمل لقب كاردينال)، الذي كان عاكَسَ بمواقفه، وتوجّهاته، مواقف زعماء طائفته.

وحَدَثَ أن انتَدَبَني زملائي، لأتولّى الاتصال بالمسؤولين في الصرح البطريركي لتحديدِ مَوعِدٍ للزيارة، وطلبوا منّي أن أتحدّثَ باسمهم في حضرة البطريرك ،(لقد استفضتُ حول تلك الزيارة في كتاب “علامات الدرب” وهو سيرتي الذاتية).

في الصالون الكبير، الذي يستقبل فيه زواره، وقف البطريرك، بشوشًا، سَلَّمَ ورَحَّبَ بنا، ثمَّ عَلّقَ أمامنا على المواقفِ السلبية لأبناءِ طائفته التي نالت منه خلال اضطرابات صيف 1958، مُتندّرًا بما كانوا يُلحِقونَ به من نعوت، وقال مُمازِحًا: ” لم أجد مُعَزّيًا لي في تلك الفترة، سوى إخواننا الأرثوذكس في عكار”.

والواقع، أن ما ذكره البطريرك أمامنا، عن السباب والشتائم التي نالته، كان يُعبِّر عن المزاج العام في تلك المرحلة المشدودة بالعصب الطائفي، والاستقطاب الحاد والمُسَلح أيضًا.

ففي حين كانَ المسلمون يُطلِقون عليه لقب “بطرك العرب”، كان بعض الموارنة يسمونه ” محمد المعوشي”، ويلحقون التسمية بأنه مُستَزلِم لجمال عبد الناصر.

وهي كلُّها “اشياءٌ صبيانية “، كما قال، وتعامل معها على أنها كذلك.

وما أراد البطريرك الاسترسال أكثر حول هذا الموضوع، ولكي ينفي وجود أي علاقة له مع جمال عبد الناصر، أخبرنا أنه التقى أنور السادات، الذي لم تكن له، وقتها، اي صفة رسمية، إنما كان رئيسًا للمؤتمر الإسلامي.

وذَكَرَ لنا، أنّهُ أمضى أربعة عشر عامًا في الولايات المتحدة، حيث خدم رعايا الموارنة في نيو بدفورد (في ولاية ماساشوستس)، ومنها انتقل الى كاليفورنيا، لذلك يفهم جيدًا العقلية الأميركية في السياسة، كما في البيزنس، أي على قاعدة “فيفتي فيفتي” على حد قوله. ومن هذا المدخل تناول في حديثه لقاءه مع روبرت مورفي، الممثل الشخصي للرئيس أيزنهاور إلى لبنان خلال أزمة العام 1958، فكان راعي التدويل للأزمة اللبنانية والمُشرِف على تنفيذ الصفقة التي عقدها أيزنهاور مع عبد الناصر لتسوية الوضع الداخلي اللبناني.

ما سمعته من البطريرك المعوشي في ذلك الوقت المُبكِر من استيعابي للأمور السياسية المُعقَّدة، أعطاني انطباعًا بأنَّ البطريرك غير راضٍ عن تلك التسوية. سمعتُ منه وأنا جالسٌ إلى جانبه، ثم أبلغنا أنه قال للمبعوث الأميركي: “أنتم الأميركيون تُنجِزون مهمّتكم، لكنكم تُزعِلون زبائنكم”.

ثم نطق تلك العبارة باللغة الإنكليزية كما قالها مورفي:

“You, the Americans did your job but you displeased your clients”

لقد اعتبر البطريرك أنَّ التسوية تمّت على حساب اللبنانيين في غيابهم وغفلةً منهم، وهي في الواقع كذلك.

ومما زاد في امتعاض البطريرك، خلال لقاء مورفي، ما ذكره موسى مبارك لجريدة “النهار” في سنة 1970، وهو رَفض المبعوث الأميركي طلب البطريرك أن يكون بشارة الخوري مُرَشَّحًا للرئاسة، خوفًا من أن يكونَ انتخاب فؤاد شهاب سابقة، قد تتكرر، وتأتي بالعسكر إلى رئاسة الجمهورية، إضافة إلى أنَّ المعوشي كان “دستوري الهوى”، ويرى أن الخوري المتأثر بأفكار نسيبه ميشال شيحا، ونظرته إلى دور لبنان المتميز في العالم العربي، هو رجل المرحلة. إلّا أنَّ مورفي رفض مجرَّد البحث في ترشيح بشارة الخوري وأصرَّ على شهاب رئيسًا.

وحَدَثَ أن تبرّعَ أحدهم في نَقلِ ما دارَ بين مورفي والمعوشي إلى اللواء فؤاد شهاب، الذي ساءه ذلك فامتنعَ طوال سنوات حكمه الست عن زيارة بكركي.

وشأن التسوية الأميركية–المصرية، شأن جميع التسويات الدولية التي تمّت خلال القرن السابق (القرن التاسع عشر). وهذا ما دفعني في الجامعة إلى التسجيلِ في درسٍ عن تاريخ لبنان في حقبة التقاطع بين المرحلة الصليبية، والمرحلة المملوكية، والمرحلة المغولية، في القرن الثالث عشر، لدى الدكتور كمال الصليبي، وهي مرحلة في غاية التعقيد، وتحتضنُ السياقَ التاريخي لتعاطي اللبنانيين مع القوى الخارجية، بالتعامل معها ثم الانقلاب عليها، بسدِّ الثغور أو بفتحها. وهي المرحلة التي ذهب ضحيتها مئات من موارنة الشمال، وأُحرقت ديارهم على أيدي المماليك بعد انتصارهم على المغول بقيادة السلطان قطز (في معركة عين جالوت) ومن بعده السلطان بيبرس البندقداري.

ومما أكّدَ فهمي عبارة البطريرك المعوشي على هذا النحو، ما سمعته تاليًا عن انقطاعٍ في العلاقة بين البطريرك ورئيس التسوية فؤاد شهاب، حيث تردَّد عن المعوشي قوله: “أنا الثابت وهو العابر … قُلْ للذي تحت (أي في القصر الجمهوري في صربا) إنَّ لا شيء يدوم”، والله أعلم.

وربما كان البطريرك المعوشي في تحفّظه على تسوية 1958 أنَّ كلَّ التسويات اللاحقة، قياسًا على ذلك، ستتمُّ على حساب الدور المسيحي. وهذا يُفسِّر وضعية “الزبون الزعلان من راعيه” كما عبَّر عنها البطريرك الماروني، الذي خبر العقلية الأميركية في التعاطي مع الشؤون الخارجية، كما قال لنا. فالتعاطي الأميركي في الشؤون الخارجية، هو تاريخ طويل من التقلُّب، بين مساندة حلفائهم ثم الانقلاب عليهم، حسب مقتضى الحال. فهم الذين مكَّنوا الشهابية، وساندوا خصومها في الوقت ذاته، حتى جرى الانقلاب عليها. وكذلك فعلوا مع الوجود السوري في لبنان… فالسياسة الأميركية في المحصلة هي “القبول بما يمكن تغييره”، على قولة المؤرخ اللبناني يوسف إبراهيم يزبك.

ومن عجبٍ أن يستاء حرَّاس الثغور، الذين أتقنوا فنَّ فتحها وغلقها، من ممارسة دول أخرى مثل هذه اللعبة عليهم. فالتعويل على التدويل سيفٌ ذو حدَّين. أو على قول المتنبي:

“ومَن جعلَ الضرغامَ للصيدِ بازَه    تصيَّده الضرغامُ في ما تصيَّدا”.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى