لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (24): يَهودُ نابليون ويَهودُ ويلسون

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

يُؤخَذُ على اللبنانيين، والعرب، أنّهم على مدى القرنَين الماضيين، لم يستطيعوا بشكلٍ وافٍ تَقديرَ وفَهمَ أثرِ وتأثيرِ التدخّلِ الأميركي في لبنان، والدول العربية الباقية.

في الثُلثِ الأوّلِ من القرن التاسع عشر، كانت الإرساليات التعليمية والطبية الاحتكاكَ الأوّل للبنانيين مع الأميركيين. وخلافًا لحركة الاستشراق الأوروبية، لم يَظهَرعلى نشاطِ الإرساليات الأميركية، في بداياتها الأولى، أيُّ نشاطٍ سياسي، أو أيُّ مُبادراتٍ تُبطِنُ أهدافًا سياسية خَفيّة أو غير مُعلَنة.

إلّاَ أنَّ الاهتمامَ التجاري والاقتصادي في الشرق (العثماني)، في أواخر القرن التاسع عشر، حملَ معه اهتمامات سياسية بدأت تظهر مفاعيلُها في مطالعِ القرنِ العشرين، وذلك من خلال “المعرض التجاري الكولومبي الدولي” الذي أُقيمَ في مدينة شيكاغو في العام 1893 بمناسبة مرور 400 سنة على اكتشافِ البحَّار الإيطالي (المُمَوَّل من إسبانيا) كريستوف كولومبوس للقارة الأميركية. في ذلك المعرض الكبير كان للوجودُ العثماني، واللبناني، والمصري، والمغربي تأثيرٌ فنِّيٌ وثقافيٌّ ملحوظٌ في الأوساط الأميركية آنذاك، وإلى جانبِ ذلك، برزت أصواتٌ لبنانيةٌ وعربيةٌ تطرحُ مسألةَ تقريرِ المصير والاستقلال عن السلطنة العثمانية.

ومع أنَّ السلطات الأميركية أوفدت إلى إسطنبول وفدًا رفيع المستوى لدعوة السلطان عبد الحميد الثاني للمشاركة في افتتاح المعرض، فقد اكتفى السلطان بفَتحِ جناحٍ للشركة الحميدية التي حملت اسمه، كما أصدرَ الأديب اللبناني المعروف المُعلِّم سليمان أفندي البستاني، بصفته من التابعية العثمانية، آنذاك، صحيفةً شهريةً باللغة التركية ظلّت تصدرُ طوال سنوات المعرض أُطلق عليها اسم “سروتي فنون”، أو “ثروة الفنون”، وتُرجمَ الاسمُ إلى الإنكليزية بمعنى “ثروة المعرفة”. فقد اهتمَّ السلطان عبد الحميد بمعرض شيكاغو لأنه وجد فيه مناسبة لنَسجِ علاقاتٍ مع الولايات المتحدة ظنًّا منه أنها يمكن أن تُخفف من وطأة التدخّلات الأوروبية في شؤون السلطنة.

لكن لا السلطان عبد الحميد، ولا مُعظم اللبنانيين، والعرب الآخرين، أدركوا تمامًا التحوُّلات الأميركية الداخلية، التي وصفها بعض الكُتَّاب البريطانيين، وقتذاك، بأنها “عبرنة أميركا”، نظرًا إلى ظاهرة التأثير الصهيوني في الميادين السياسية، والثقافية، والإعلامية، والمالية، وفي مراكز ومناطق أخرى حسَّاسة من الولايات المتحدة، وهو تأثيرُ أخذت ملامحه تظهر في أعقاب الحرب العالمية الأولى من خلال نشاط الرئيس الأميركي وودرو ويلسون في “مؤتمر فيرساي للسلام” في فرنسا في العام 1919، والمبادئ الأربعة عشر التي أطلقها هناك.

فلا أحدَ في الشرق العربي أو العثماني تابَعَ باهتمامٍ حملةَ ويلسون الانتخابية الأولى في العام 1912، التي اعترفَ فيها بالهَوِيّةِ اليهودية المُتَمَيِّزة عن الهوية الوطنية ليهود أميركا، وهو ما رفضه نابليون بونابرت قبل مئة سنة من خطابِ ويلسون عندما وَضَعَ القانون المدني الفرنسي الذي حصر ولاء الفرنسيين، أيًا كانت مذاهبهم الدينية، بالولاء الوطني لفرنسا فقط. ثم استدعى أعيانَ اليهود في فرنسا وطلب منهم عقد اجتماع لمجلس الحاخامين (السندرين الذي ضمَّ 70 حاخامًا) وجعلهم يُوَقّعون تعهّدًا بعدم ازدواجية الولاء. وكان التنازل الوحيد الذي أعطاه نابليون للحاخامين هو السماح بمراسم الزواج الدينية حسب طقوسهم، لكن بعد عقد الزواج المدني بموجب القانون الفرنسي، وأي زواج آخر يُعدُّ باطلًا وغير معترف به.

أما الرئيس ويلسون فقد أعلن في خطابه الانتخابي في العام 1912 قائلًا: “أنا لستُ هنا لأعبِّر عن تعاطفي مع إخواننا المواطنين اليهود، بل لتأكيد إحساسنا معهم بهويتهم. هذه ليست قضيَّتهم وحدهم، إنها قضيَّة أميركا”. لقد اعترف ويلسون ليهود بلاده بهويَّة أخرى، وبالتالي بولاءٍ آخر، وذلك قبل خمس سنوات من “وعد بلفور”.

فقد غفل كثيرون من أهل الرأي، في لبنان وسوريا خصوصًا، وفي الشرق العربي عمومًا، عن معنى وجود الرئيس ويلسون في مؤتمر فرساي للصلح في العام 1919، بل كان معظمهم مفتونًا به وبمبادئه التي أطلقها، فلم يُقدِّروا تقديرًا صحيحًا ما كانَ يرمي إليه في نهاية المطاف. وقد بدت تلك السذاجة في فَهمِ وُجهاءِ لبنان وسوريا للموضوع من خلال مطالبتهم بانتدابٍ أميركي، إذا كان لا بدَّ من الانتداب، كما إنّهم استخفُّوا، ربما، بتأثير قيامِ دولةٍ يهودية في فلسطين على لبنان، وعلى العرب، وعلى بقية العالم.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى