لبنان…الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (12): رفيق الحريري في الحَربِ والسِلم

 تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

ما التَبَسَ على اللبنانيين أمرٌ مثلما التَبَسَ عليهم اغتيال رئيس الحكومة لمرحلة ما بعد مؤتمر الطائف، رفيق الحريري، في 14 شباط (فبراير) 2005. فالرَجُلُ كانَ خارِجَ الحُكم، ولا صفةَ رسمية له، وعملية الاغتيال، في الشكل، لا تَندَرِجُ في نظريةِ “قتل الرجل الواحد لإنقاذ البلاد”، إنّما ضمن مُخَطَّط لزعزعة أمن البلاد، و”النفخ في نار الحرب الاهلية”.

هذا ما عزَّزَ احتمال أنْ تكونَ جهةٌ خارجية ضالعة في الحادث. لكنَّ الالتباساتَ السياسية والانقسامات الداخلية في ذلك الوقت لم تترك مجالًا للتفكير في الأمر من زاوية الحرب الأهلية قبل الطائف، بل حُصِرَ في إطارِ “السلم الأهلي” بعد الطائف.

ذلك أنَّ دورَ رفيق الحريري في المسألة اللبنانية لم يبدأ في مؤتمر الطائف، وإن كان بدا كذلك لكثيرين من اللبنانيين. وهذه نقطة خلافية مهمَّة، تُظهِرُ فجوةً كبيرةً من الالتباس، بينَ أن يكونَ حضورُه في السياسة من خارجِ الطبقةِ السياسية اللبنانية التقليدية، محمولًا على موجةِ “السلم الأهلي”، أو على موجةِ “الحرب الأهلية”.

في أواسطِ تسعينيات القرن الماضي، وكنتُ أُصدُرُ جريدة “الميزان” من لندن، كتبتُ مقالًا في محاولةٍ لتوضيح هذا الالتباس، عنوانه: “لم يفهم اللبنانيون دور الحريري في الحرب فأساؤوا فهمه في السلم”. ومن غَيرِ المُستَبعَدِ أن يكونَ ذلك الالتباس مقصودًا، لأنَّ وَضعَ الحريري، في حياته السياسية بعد الطائف، وفي إزالته من الوجود ضمن إطارِ الحرب الأهلية، من شأنه أن يُضعِفَ دوره في السلم الأهلي، وهالته الوافدة معه على وقع الطائف كرجلِ سلامٍ وإنماءٍ وإعمار.

كنتُ في بيروت خلال النصف الأول من العام 1983، (بين اغتيال بشير الجميل وتفجير السفارة الاميركية في عين المريسة)، وشاهدتُ جرّافاتٍ وشاحناتٍ كبيرة تقوم بعمليةِ تنظيف الرُكام من وسط بيروت رُفِعَت عليها صور العاهل السعودي آنذاك الملك فهد بن عبد العزيز، وقيل إن رفيق الحريري هو مُتَعَهِّدُ ذلك المشروع، بصفته من المُقرَّبين إلى الملك فهد ومحلّ ثقته. وقد عُجِبتُ لعمليةِ التنظيف تلك لمُخَلّفات دمار الحرب قبل انتهاء الحرب، واندلاعِ مرحلةٍ جديدة وخطيرة منها في الجبل فور الانسحاب الاسرائيلي من بيروت ومناطق لبنانية أُخرى إلى الشريط الحدودي في الجنوب. فاتصلتُ بالصديق الراحل محمد عطالله، رئيس مجلس الإنماء والإعمار في ذلك الوقت، مُستَوضِحًا الأمر فلَمَستُ أنَّ لديه ضيقًا من الضجّةِ الدعائية لعمليات التنظيف تلك، فقال لي بالحرف: “ما بَدّها هَلقَد، هذه شَغلِة البَلَدِيّة”.

أليسَ مُلفِتًا تنظيفُ رُكامِ الحرب من بيروت قبل سبعِ سنواتٍ من مؤتمر الطائف وانتهاءِ العمليات الحربية؟

قد يكونُ ذلك من قبيل التغطية على دَورٍ آخر خَفِيّ في الحرب بتنظيف مُخلّفاتها باكرًا، تمهيدًا لدورٍ أكبر في إنهائها تاليًا، يُرادُ منها طمسُ شيءٍ ما وكتابة تاريخٍ جديد على صفحةٍ بيضاء.

غالبية الذين كتبوا عن الحرب الأهلية اللبنانية، من لبنانيين وأجانب، إنْ لم يكن كلّهم، لم تتطرّق إلى مسألةِ تمويلِ أُمراءِ الحرب وتموينهم. وجميع مؤرِّخي الحروب الأهلية يعرفون أنَّ المالَ هو العَصَبُ الأشَدّ في الحرب، ويفوق السلاح في أهمّيته. فالسلاحُ لا يُمكِنُ أن يَفعَلَ فعله من غير رفده بالمال. فقد عرَّفَ أحد الزملاء الثورة الفلسطينية أثناءَ وجودِ ياسر عرفات في لبنان وانخراطه في الحرب الأهلية اللبنانية بأنّها “مالٌ وسلاح”.

في صيف 1983، مَرَّ بنا إلى مكاتب مجلة “الحوادث” في لندن الصحافي الأميركي المعروف جوناثان راندال، بعد صدور كتابه عن الحرب اللبنانية بعنوان “مأساة لبنان”، وقال لنا إنه عمل قصارى جهده ليفهم الحالة اللبنانية، لكنّه مع ذلك يشعرُ بأنه ما زال مُقَصِّرًا عن فهمها، وأنه مهما حاولَ المُهتَمّون الأجانب بالوصول إلى كنهها، فإنَّ ذلك لا يحلُّ محلَّ قيام كتّاب لبنانيين بكتابةِ حقيقةِ قضيّة بلادهم وشعبهم. وقد تناقشنا معه في الموضوع أكثر من ساعتين، وهو يصرُّ على أنَّ فَهمَ الموضوع اللبناني ما زالَ ناقصًا، (أظنُّ أنه وقتئذ كان يعمل في جريدة “واشنطن بوست”).

واليوم نُدركُ أنَّ الفهمَ العالمي، والعربي، وحتى اللبناني، للمسألة اللبنانية، في إطار “الحرب الأهلية المُستدامة” ما زال ناقصًا. ويكفي إلقاء نظرة على كيفية تشكيل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للنظر في جريمة اغتيال رفيق الحريري، والكلفة الباهظة التي تكبّدها الشعب اللبناني، لقاء تلك المسرحية الفاشلة، لمعرفةِ المَقصودِ بالنقص في فَهمِ المسألة اللبنانية. وقد فاقم ذلك النقص تغاضي المسؤولين اللبنانيين عن المخالفات القانونية والدستورية في تمرير مشروع المحكمة الدولية وتكاليفها الباهظة، من شارل رزق وفؤاد السنيورة، إلى المُطالبين بتشكيل المحكمة تحت البند السابع الذي يسمح بالتدخّل العسكري الدولي.

لا أحدَ أراد أنْ ينظرَ إلى رفيق الحريري على أنّهُ ضحيةٌ من ضحايا الحرب الأهلية لأنّهُ كانَ مُشارِكًا فيها من وراءِ الستار بتمويلِ أمراءِ الحرب نيابةً عن جهاتٍ خارجية، وليس من ماله الخاص. أرادوا فقط إظهاره بمظهر “بطل السلم الأهلي”، و”عرَّاب مؤتمر الطائف”، وهي عملية ترجمتُها الحقيقية نقل السلطة في لبنان من أيدي طبقة سياسية انتهت صلاحيتها إلى المليشيات وأمراء الحرب، مُكافأةً لهم على قيامهم بالمهام المُناطة بهم، على قاعدة “مَن صَنَعَ الحرب هو الذي يصنع السلم”.

وعملية التمويل تلك كانت أوسع نطاقًا مما يظنُّ معظم اللبنانيين، فهي لم تقتصر على جهةٍ مُحَدَّدة، بل شملت جميع الميليشيات المتقاتلة، يمينًا ويسارًا، وشملت جهات سورية مُتعاطية في الشأن اللبناني، والقوى المسلحة الفلسطينية، ومسؤولين وموظفين في الدولة، وشملت وسائل إعلام وإعلاميين، وصولًا إلى تمويلِ دراسة الطلاب في الخارج.

ولذلك، لا توجَدُ أيّ دراسةٍ جدّية عن كيفية، ومصادر، تمويل الحرب الأهلية اللبنانية، كما هو الحال بالنسبة إلى الحرب الأهلية الإسبانية مثلًا، حيث يستطيع الدارسون أن يعرفوا بالضبط ماذا قدم ستالين للجمهوريين اليساريين، وماذا قَدّم هتلر وموسوليني لقوات فرانكو اليمينية.

سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن مُتابعته عبر موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى