لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (13): إنَّهُم لا يَعرِفون لماذا يُقاتِلون

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

ليسَ كلُّ المقاتلين يعرفون لماذا يُقاتِلون، بل أغلبهم لا يَعرِف. ولا أحدَ منهم يُدرِكُ أنّهُ يُقاتلُ في حربٍ لا يعرف عنها الكثير، وهو يُقاتلُ في حَربِ غيره، وأنه مجرَّدُ وقودٍ لتلك الحرب.

الكنيسةُ الكاثوليكية في إسبانيا أوهَمَت أتباعَها بأنَّهُم يُحارِبون من أجلِ المسيح. وجميعُ قادةِ الحروب الأهلية، قديمًا وحديثًا، يُعَبِّئون المقاتلين بدعاوى، أو عقائد، أو قضايا وهمية، يزعمونَ أنَّها عادلة وستكون لمصلحة المقاتلين إذا استَبسَلوا في القتال. لكنَّ المقاتلين أنفسهم لا يعرفون لماذا يُقاتلون أبناء بلدهم، ولماذا يستنجدُ قادتهم بقوى خارجية.

والبابا بيوس الثاني عشر، قال في رسالته إلى الجنرال فرانكو المُنتَصِر في الحرب الأهلية، عام 1939: “إنَّ هذا الانتصار هو الانتصار الكاثوليكي الذي ترغبه إسبانيا!”.

فالتَعبِئةُ الدينيّة هي أسهلُ وأفعَلُ أنواعِ الحَشدِ والتحريضِ للمُقاتلين البُسطاء الذين يؤمنون بجِدِّيةِ ما يُقالُ لهم من قادتهم الميدانيين، أو قادة أديانهم وطوائفهم.

ولذلك، أخذت الحربُ الأهلية اللبنانية منحى طائفيًا، بفعلِ التعبئة والحشد، وليس بفعل جوهر الموضوع. وكذلك الأمر، وعلى نطاق أوسع وأشد عنفًا في بعض البلدان العربية، مغربًا ومشرقًا، عندما انتشرت الحركات الإسلامية التكفيرية المُتطرّفة، وراحت تقتل وتُفجّر في كلِّ مكان، ظنًا من مقاتليها أنهم يُقاتلون من أجلِ دينهم وهم يقاتلون لخدمة أعدائهم.

لكنَّ كثيرين من المُضلَّلين، كما في الحرب اللبنانية، انخرطوا في القتال من أجل السرقة والنهب، وأحيانًا بمعرفة القيادات وتشجيعها لإغراء المقاتلين بالبقاء في ساحة القتال. وهذا يحدث في جميع الحروب، أهلية ونظامية، لكنَّ عملياتَ السَلبِ والنهب في لبنان انطلقت منذ البداية، من معركةِ مَرفَإِ بيروت، إلى معركة الفنادق، واحتلال وتدمير بلدة الدامور، كما وَرَدَ سابقًا. وعمليات النهب هذه، منها ما هو مُنَظَّمٌ بإشرافِ قادة الميليشيات، ومنها ما هو عشوائي يقومُ به أفرادٌ من المقاتلين على سبيل الانتفاع من الفوضى.

ولا يظنَّنَ أحدٌ أنَّ عملياتَ نهبِ ودائع اللبنانيين في المصارف، ومن خلال التلاعب بأسعار صرف العملة، تختلفُ في جوهرها عن عملياتِ النهبِ التي جرت خلال الحرب. فالمُمارساتُ الميليشياوية هي ذاتها، لأنَّ الحربَ الأهلية ما زالت مُستَمِرّة بطُرُقٍ أُخرى.

إنَّ الفئة الوحيدة التي كانت تعرِفُ لماذا جاءت تُقاتِلُ في الحرب الإسبانية، والوحيدة في تاريخ العالم، هي “السرايا الدولية للدفاع عن الجمهورية”، التي ضمَّت في غالبيتها المثقفين، والفنانين، والمُستنيرين من جميع أنحاء العالم. جاؤوا من فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، والنمسا، وبولندا، وأوكرانيا، وإيطاليا، وأميركا (الشمالية والجنوبية)، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، والمجر، وروسيا، والبلدان الإسكندنافية. وقد قال المُتَطَوِّعُ الأميركي ألفا بيسي لزملائه في “السرايا الدولية”: “أنتم أولُ جنودٍ في تاريخ العالم تعرفون لماذا تُقاتلون”. (من كتاب فينسنت بروم بعنوان “السرايا الدولية” الصادر عام 1965).

وعندما اقترح رئيس الوزراء الجمهوري، خوان نغرين، انسحاب “السرايا الدولية” على أملِ إنَّ ذلك يُمكِنُ أنْ يُعجِّلَ في التدخّلِ الرسمي من قبل بريطانيا وفرنسا، فخاب ظنّه، وقفت السيدة دولوريس إيباروري (الشيوعية المعروفة باسمها الحركي “لا باسيوناريا” وصاحبة الشعار الأشهر في معركة مدريد “لن يمرّوا”)، تخطبُ في السرايا الدولية المُنسَحِبة من برشلونة في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1938، قائلةً: “إذهبوا بفخر. أنتم التاريخ. أنتم الأسطورة. أنتم المثالُ البطولي للتضامن، ولعالمية الديموقراطية. إننا لن ننساكم، وعندما تُورِقُ أغصانُ شجرة زيتون السلام، جنبًا إلى جنبٍ مع أكاليل غار نصر الجمهورية الإسبانية… عودوا إلينا”.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى