لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (11): نَظَرِيَّةُ قَتلِ رَجُلٍ واحِد

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

مُنذُ أقدَمِ الأزمِنة كانَت النزاعاتُ التَسَلُّطِيّة الديكتاتورية لبَعضِ الزُعماءِ والحُكّام من أسبابِ الحروبِ الأهليّة. وقد بَرَزَ ذلكَ بشكلٍ واضحٍ في الجمهورية الرومانية خلال القرن الأوّل قبل الميلاد، بسبب الحروب التوسّعية في الخارج، وبروز النزعة السلطوية لدى القادة العسكريين المُنتَصِرين في تلك الحروب.

أوّلُ هذه الظواهر تمثّلَت في شخصِ لوسيوس كورنيليوس سولا، المعروف بالديكتاتور سولا، الذي انتُخِبَ قُنصُلًا مرَّتَين، ثم عُيِّنَ من مجلس الشيوخ الروماني، ديكتاتورًا مُطلَق الصلاحية (82 – 80 قبل الميلاد) ليَحسُمَ عسكريًا أوّلَ حَربٍ اهلية رومانية قامت لأسبابٍ اجتماعية ضدّ أصحابِ الأملاك الزراعية الواسعة، فأنهى تلك الحرب من طريق الجيش الذي كانَ مُحَرَّمًا عليه دخول مدينة روما. لكن سولا خَرَقَ هذه القاعدة التاريخية، ودخلَ بعسكره إلى المدينة لأوّلِ مرّة، وقامَ بتصفيةٍ جسدية لزعماء الطبقة السياسية الحاكمة. فكانَ كلّ صباحٍ يُعلِّقُ لائحةً بأسماءِ السياسيين المطلوبين للمُساءَلة ويقومُ بإعدامهم. فصارَ أهالي المدينة يهرعون في الصباح إلى ساحة الكابيتول، حيث مجلس الشيوخ، بدافعِ الفضول ليعرفوا أسماءَ المطلوبين كل يوم. وقد شملت تلك التصفيات أكثر من 600 شخص من السياسيين والنافذين، (كان يوليوس قيصر وقت تلك التصفيات في العشرينات من عمره وما زالَ مُبتدِئًا في العمل السياسي، فحيَّد نفسه وغادر روما إلى بيت جدته في الأرياف بعيدًا من الأنظار).

ومن غرائبِ الأمور، أنَّ سولا هو القنصل السابق الوحيد في تلك الحقبة الذي مات موتًا طبيعيًا في فراشه!

حُسِمَت تلكَ الحرب الأهلية بالقوة، لكنها لم تَحسُم دور القوة في تأجيج الحرب، ولا حَسَمَت الأسبابَ الحقيقية لتجدُّدها، فبقيت نارُها تحت الرماد.

وعندما جاء يوليوس قيصر إلى الحُكم، وظهرت عليه علائم الرغبة في التَسَلّط، خَشِيَ بعضُ كبارِ أعضاءِ مجلس الشيوخ، أمثال ماركوس يونيوس بروتوس وغايوس كاسيوس لونغينوس، أن تتكرّرَ تجربة سولا، فتآمرَ لقتله داخل المجلس على قاعدةِ “إنَّ قتلَ رجلٍ واحدٍ يمنع قتل البلاد كلّها”. لكنَّ قتلَ هذا الرجل الواحد، كما حدث تاليًا، أثارَ حَربَين أهليتَين مُتتاليتين، إضافةً إلى الحرب الأهلية السابقة، بين يوليوس قيصر وصهره السابق الجنرال بومبيوس الكبير، وقد حَسَمَها يوليوس قيصر لصالحه في معركة “فرزاليا” المشهورة، وهي التي أدّت إلى محاولة تفرّده بالسلطة.

نَظَرِيَّةُ حَلِّ المشكلة بقتلِ رجلٍ واحدٍ أعطت مفعولًا عكسيًا مُضاعَفًاً. لقد أدّت إلى حَربَين أهليتَين لا إلى حَربٍ واحدة، وأدّت أيضًا إلى سقوطِ الجمهورية وقيامِ نظامٍ إمبراطوري ديكتاتوري دامَ مئات السنين، مِن حُكمِ أغسطس قيصر قبيل ميلاد المسيح بسنوات قليلة، إلى سقوط القسطنطينية بأيدي العُثمانيين في القرن الخامس عشر الميلادي.

ومُنذُ ذلك الوقت، لم يَتَوَقَّف الجَدَلُ حولَ “نظرية قتل الرجل الواحد” كوسيلةٍ لمَنعِ قَتلِ البلاد كلّها.

وهذا الجدلُ زادَت حدّته تاليًا في أوروبا منذ قيام الأنظمة الملكية بالحق الإلهي. فلننظر إلى ما قاله ملك بريطانيا جيمس الأوّل أمام البرلمان يوم 21 آذار (مارس) من العام 1610: “إنَّ الملوكَ يُدعَون آلهة بحق، لأنهم يمارسون ما يشبه السلطة المُقدّسة على الأرض. فإذا نظرتم في خصائل الله، سوفَ ترون أنها تتوافق مع مزايا شخص الملك. فالله له القدرة على الخلق وعلى التدمير، وله أن يُقيمَ وأنْ يُزيلَ كما يشاء، أن يَهِبَ الحياة أو أن يُسلّطَ الموت، يُدينُ الجميع ولا يَخضَع لدينونةٍ من أحد، يُعلي مَن يشاء ويُخفِّض مَن يشاء بغيرِ حسابٍ وعلى هواه. وهذه أيضًا هي سلطة الملوك”.

ولهذا تَكَرَّرَ الجَدَلُ حول “نظرية قتل الرجل الواحد” في الحرب الأهلية الإنكليزية بعد إعدام الملك تشارلز الأول، وانطلاق الحروب الأهلية الإنكليزية التي امتدت قرابة ربع قرن (1625 – 1649).

ففي العام 1628 قامَ ضابطٌ في جيشِ دوق باكنغهام الأوّل (جورج فيليير) بقتل سيّده الدوق بطعنه أمام الملأ مُبَرِّرًا جريمته بالقول: “ظننتُ أنه من الأفضل أن يموتَ رجلٌ واحد، من أن تذهبَ إنكلترا كلّها إلى الخراب”. وقد جاء في المراجع البريطانية لتلك الحقبة، إنه من أسباب ذلك انتشار أفكار مؤدّاها أنَّ النبلاء يمارسون سلطةً مفرطة، ويُسيئون استخدامَ تلك السلطة، وهذا هو السبب الرئيس للشرور والأخطار التي تُحيقُ بالملك وبالمملكة.

ولذلك، فإنَّ الحروبَ الأهلية ليست حالةً بسيطة تُعالَج بالتسويات المُرَقَّعة القائمة على مَصالحِ المُتحاربين دونما اعتبار لمصالح الشعب والأمة، كما حدث في لبنان فختم جرح حربه الأهلية على زغل، وخلافا للحروب الاهلية المماثلة، فإنَّ الحربَ اللبنانية مُستدامة، ودوامُها مُرتَبِطٌ بالتسويات، المتعمد فيها الإبقاء على جذور الحرب حيَّة، تأسيسًا لحربٍ جديدة متى حانَ وقتها.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى