… وإِنه عصرُ الرحباني وفيروز
هنري زغيب*
لَـم يكُن مؤْتمرًا بل تعاكُسَ مرايا من النُبل.. ولَـم تكُن أُمسيةً غنائية رحبانية بل عرسًا من النُوستالجيا.
وازهَوهَرَت مئويةُ الجامعة اللبنانية الأَميركيةLAU (1924-2024) باحتفالٍ استثنائيٍّ أَعاد إِلى الماضي الأَلَق، إِلى الحاضر الوفاء، وإِلى المستقبل أَملَ أَنْ لا غروبَ للإِبداع في الوطن مهما اسودَّت غيومُ الآنيات بفشَل السلطة.. فالوطن يحيا بخصوبة الإِبداع، والسلطة تموت بعقْم رجالها.
مرايا النُبل تعاكسَت وفاءً من الأَقربين والـمُريدين: الدكتور فيليب سالم استحضر “أَخَوَيه” عاصي ومنصور.. الفنان مرسيل خليفه استحضر مطالع صباهُ في حضرة عاصي ومنصور.. الباحث محمود زيباوي استحضر مطالع عاصي ومنصور الأُولى سنَتَي 1948 و1949.. الأَب بديع الحاج استحضر تقْنية الأَداء الفريد النوع والحضور في صوت فيروز.. الكاتب فارس يواكيم استحضر مسار عاصي ومنصور وفيروز منذ مهرجان بعلبك 1957 على أَدراج هيكل جوبيتر.. الناقدة هالة نهرا استحضرَت الأُفق الجديد الذي فتحه لفيروز عبقريُّها زياد فشكَّل به تيارًا رؤْيويًّا.
أَما العرس المسائي فكانَ بهاءً من نور، وسماءً مفتوحةً على الدهشة المغناجة الطِيْب في حضرة الأُخْت الــمُكرَّسة مارانا سعد واقفةً أَمام أُوكسترا فخمة الأَداء وكورس فخم الغناء، كانت تقودُهما لا بعصا “المايسْترَا” ولا بيدَيها الحانيَتين، بل بكلِّ ما فيها من نبْض وأَعصاب وإِيقاع من روح وجسد، حتى أَسكرَت قلوب الجمهور بنعمةٍ من الفن العالي على ميلوديات عذبة من عاصي ومنصور، وأُغنيات كم باسَها الجمهور على جبين سيِّدة غنائنا فيروز التي كلُّ ما فيها استثناء، هي التي تذُوق خلودَها حيًّا كلَّ يوم من أَقاصي الدنيا التي تحيا على “صوت فيروز”.
سوى أَن لكلِّ نجاح ما يحاول تعكير صفائه، ولو ان صفاءَه أَعلى من أَن يـُمَس.
جاء مَن يقول لي إِن مهرجانات بعلبك لم تكُن حاضرة في الأَحاديث عن مسيرة عاصي ومنصور وفيروز، وأَضاف: “مع أَن مهرجان بعلبك هو الذي صنَع المجد الرحباني”.. جوابي بسيط: تبيَّن أَنَّ من قال هذا الكلام لم يسمع مداخلة فارس يواكيم الذي أَعاد فضلًا كبيرًا إِلى بعلبك.. ويبدو ذاك القائل لا يعرف أَن المجد الرحباني هو أَيضًا نصَّع مجد بعلبك في تاريخ مهرجانها.
وجاء مَن يقول لي إِن الياس الرحباني كان غائبًا عن المؤْتمر.. وجوابي بسيط كذلك: المؤْتمر عالج مسيرة عاصي ومنصور تأْليفًا شعريًا ومسرحيًا، ما لم يكن وضْعُ الياس معهما. والأَهم أَنني أَنا لا أَرضى أَن يكون الياس فاصلةَ كومبارس صغيرة في هذا المؤْتمر، ولا مُلْحقًا بشقيقَيْه عاصي ومنصور.. الياس الرحباني قيمة كبرى مستقلَّة، وطاقة إِنتاجية كاملة، فلا نجعلَنَّه تابعًا أَو ثانويًا في مسيرة عاصي ومنصور.. ولا يُزايدَنَّ أَحدٌ علَيَّ بأَهمية رفيق عمري الياس، وسيكون له حضور مستقل قريبًا في “مركز التراث اللبناني”.
وخطر لأَحدهم أَن يقول لي إِن زياد الرحباني كان غائبًا عن الأُمسية الرحبانية، وغفلَ عن هذا الـ”أَحدهم” أَن افتتاح الأُمسية كان موسيقى زياد لافتتاحية الفصل الأَول من “ميس الريم”.
بلى: صفاءُ النجاح أَعلى من أَنْ يُـمَسّ.. وإِنه كذلك، خصوصًا حين تاجُ هذا النجاح يتلأْلأُ بتراث عاصي ومنصور ويتنصَّع بصوت فيروز لنقول إِننا في عصر الرحباني وفيروز.. وهو ما ذكَرهُ رئيس الجامعة الدكتور ميشال معوض في افتتاح جلسات المؤْتمر: “إِنه عصرُنا الفنيُّ منذ ثلاثة أَرباع القرن، وسوف يُقالُ بعد سنواتٍ طويلةٍ إِننا عشْنا في عصر الأَخوين رحباني وفيروز”.
فليخرسْ نقَّاقو المستنقعات الآسنة.. إِن مجد لبنان الوطن يعلو إِلى الخلُود بإِرث عاصي ومنصور وبصوت فيروز.
طوبى لنا بهذا الإِرث، وبنعمة هذا الصوت.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).