لبنان…الحربُ الأهليَّة المُستدامة (3): “عقائديَّةُ” الحرب

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعاً شائكاً يتعلَّق بالأسباب والظروف التي جعلت من لبنان بؤرة لحروب أهلية متواصلة منذ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديم الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحو مقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجل استكشاف الأسباب التي جعلت لبنان مسرحاً لحروب أهلية مستدامة، وبأشكال مختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعد والتنابذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، وربما بطرق أخرى مختلفة. كما تطرح إشكاليات التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظراً لارتباط بعض المكونات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

لا يُمكِنُ لأيِّ حربٍ أهلية ان تَستَعِرَ من غيرِ تَعبئةٍ عقائدية غايتها حشد الناس في مزاجِ القتال حتى الموت ضد الفريق الآخر المنازع له على رقعةِ أرضٍ واحدة. فالعقائدية هنا ليس بالضرورة أن تكون عن قناعة، لكنها أداةٌ من أدواتِ الحرب كالمال والسلاح.

لكن أنجع العقائد للحشد في الحروب الأهلية هي العقائد الدينية، أو الطائفية، لأنها تلغي إمكانية التفكير العقلاني المُطفىء لنار التطرُّف. وقد شهد المسرح الأوروبي في الحروب الأهلية الدينية، المعروفة باسم “حرب الثلاثين سنة” في القرن السادس عشر، نماذج عديدة من هذا التطرّف العقائدي المُغَذّي للحروب الأهلية.

ففي تلك الفترة من القرن السادس عشر كان القَسَمُ الرسميُّ عند تتويج الملك الفرنسي ينصُّ على ما يلي: “أُقسمُ بأن أُحافِظَ على الديانة الكاثوليكية واستبعاد أي ديانة اخرى”. بل إنَّ الملك الفرنسي هنري الثاني قال اثناء توقيع معاهدة “كاتو-كامبريسيس” في شهر نيسان (أبريل) 1559: “أقسم لو أنني أستطيع إنهاء نزاعاتي الخارجية، لجعلتُ الشوارعَ تسيلُ فيها دماء ورؤوس الكلاب اللوثريين الأشرار”.

طبعًا، الحروب الأهلية لها أسبابٌ أخرى غير المسائل الدينية، لكن الدين يجري استخدامه كسلاح في الحرب، أو كأداةٍ للحشد والتحريض، من أجل تضليل البسطاء والمُغَفَّلين والسُذَّج من الناس لتسهيل جعلهم وقودًا لحربٍ لا علاقة لهم بها، وليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل، فيدفعون الثمن راضين قانعين لتحقيق مصالح قادتهم.

ولذلك، فإن عقائدية الحرب الأهلية هي في معظم الحالات مُجرّد أداةٍ للتضليل والتحريض، وليست لها علاقة حقيقيَّة أو جدّية بجوهر الصراع او أسبابه الفعلية.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسائل العقائدية الدينية في الحروب الإسلامية المُعاصِرة، من الحركة الوهّابيَّة في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر، الى الحركة المهديَّة في السودان في القرن التاسع عشر، ومن حركة “الإخوان المسلمين” في القرن العشرين إلى حركات العنف والتفجيرات الانتحاريَّة التي ظهرت في مطالع القرن الواحد والعشرين.

وهذه سمةُ واضحة في الحالة الطائفية المُستَحكِمة بلبنان، حيث أبناء الطوائف هم مجرّد أدوات لمصالح لا علاقة لهم بها، ويُشَكّلون وقود الحرب الأهلية إذا اقتضى الأمر، سواء كانت تلك الحربُ ساخنةً، كما في الحرب التي امتدت من 1975 إلى 1990، أو باردة كما هي في الوقت الحاضر، وأدّت إلى سرقة أموال وودائع جميع اللبنانيين السُذَّج والبسطاء والمُغفَّلين، في مختلف الطوائف كافةً.

  • سايمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى