خياراتُ إيران الصَّعبة
مع تحرّكِ طهران نحو تعزيز قوّتها الإقليمية، فهل توافق على نزع سلاح حلفائها العرب في نهاية المطاف؟ هل تستطيع ألّا تفعل ذلك؟
مايكل يونغ*
تشير التقارير الصادرة في الأسابيع الأخيرة، مع استمرار حرب غزة، إلى أنَّ إيران طلبت من حلفائها في جميع أنحاء الشرق الأوسط وَقفَ هجماتهم ضد القوات الأميركية، خوفًا من أن يؤدّي ذلك إلى جرّها إلى صراعٍ مُباشِرٍ مع الولايات المتحدة. كان الإيرانيون يدرسون وضعهم ويحسبون حساباتهم في تعاملهم مع غزة، فأظهروا مدى اتساع نفوذهم من خلال حلفائهم في لبنان واليمن والعراق، في حين امتنعوا عن إثارةِ حريقٍ إقليمي قد يُوَرّطُ إيران ويُدَمّرُ أصولها الأكثر قيمة.
لقد أظهر النظام الإقليمي الجديد أنَّ إيران لا يُمكِن تجاوزها. اعترفت الولايات المتحدة بهذه الحقيقة، سواء في ظلِّ إدارتَي باراك أوباما وجو بايدن، أو في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي فشل في الردِّ على استهداف إيران لمنشآت النفط السعودية في أيلول (سبتمبر) 2019. وقد أشاد المعجبون بترامب لانسحابه من خطة العمل الشاملة، أو الاتفاق النووي مع إيران، لكنهم حافظوا على صمت حجري منذ أن تقدّمت طهران ببرنامجها النووي. ولم يتم العثور عليهم في أيِّ مكان عندما قصف الإيرانيون منشآت معالجة النفط السعودية في بقيق وخريص، وبعد ذلك لم يستطع ترامب إلّا أن يؤكّدَ بخنوع أنه يسعى إلى “تجنّب الحرب” مع إيران.
فكرةٌ رَوَّجَ لها الرئيس السابق باراك أوباما بدأت تؤتي ثمارها. في مقابلةٍ مع مجلة “أتلانتيك” في نيسان (إبريل) 2016، قال أوباما: “إن المنافسة بين السعوديين والإيرانيين -والتي ساعدت على تغذية الحروب بالوكالة والفوضى في سوريا والعراق واليمن- تتطلّب منّا أن نقولَ لأصدقائنا وكذلك للإيرانيين أنهم بحاجة إلى إيجاد طريقة فعّالة لتقاسم المنطقة وإقامة نوع من السلام البارد”. وكانت المصالحة التي رعتها الصين بين المملكة العربية السعودية وإيران في العام الماضي أول إشارة إلى أنَّ مثل هذه النتيجة مُمكِنة، وقد أكّدت التطوّرات في العراق وسوريا ولبنان واليمن ذلك منذ ذلك الحين.
مع ذلك، وعلى الرُغمِ من كلِّ الاعترافِ بنفوذ إيران الإقليمي المُتنامي، هناك شيءٌ واحدٌ واضحٌ بالقدر نفسه. أينما فَرَض الإيرانيون قوّتهم وسلطتهم، كانت النتائج كارثية. وقد وصف المراقبون الشبكة المؤيدة لإيران من الجهات الفاعلة السياسية والعسكرية الإقليمية بأنها “محور مقاومة”، ولكن الحقيقة هي أنها في كلِّ مكانٍ هي في المقام الأول “محور خراب”. سوريا واليمن مُدَمَّرتان. وتسيطر على العراق ميليشيات موالية لإيران، وقد حالت دون ظهور دولة فاعلة وقوَّضت الانتخابات؛ وفي لبنان، قام “حزب الله” بحماية الطبقة السياسية التي تسبّبت في الانهيار الاقتصادي فيما كان يُعرقل الإصلاحات الاقتصادية؛ وفي غزة، تسبب حلفاء إيران في حربٍ دمّرت المنطقة. أينما نظرَ العرب، فإنَّ النموذجَ الإيراني قد عزّزَ قوّة إيران ولكنه ترك المجتمعات العربية في حالةٍ من البؤس.
يجب أن يتغيّرَ ذلك إذا كانت إيران تسعى إلى تعزيزِ وجودها في المنطقة. بخلافِ العراق، كانت الإستراتيجية الإيرانية المُتمثّلة في دعم الأقليات المُسَلّحة المتماسكة (العددية أو الطائفية) ضد الأغلبية المُنقَسِمة فعّالة للغاية، لكنها لا تُمثّلُ مشروعًا مُستدامًا طويل المدى. على سبيل المثال، في سوريا ولبنان، من الواضح لإيران وحلفائها أنه لن يتمَّ إحياءُ كلا البلدين من دون مساعدةٍ كبيرة من دول الخليج العربية ذات الأغلبية السنية – حتى وقت ليس ببعيد، المُنافِسة الإقليمية الرئيسة لطهران. إنَّ المستويات المُرَوِّعة للأضرار والمُعاناة في قطاع غزة هي من الدرجة التي ربما تمَّ تحييدها كنقطة ضغط إيرانية على إسرائيل. وهذا يضفي مصداقية على الرأي القائل بأنه على الرُغم من أن إيران ربما تكون قد ساعدت على التحضير لهجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، إلّا أنها لم تُوَقّع على التوقيت.
هناكَ مؤشّرات إلى أنَّ إيران تُدرِكُ أوجه القصور في نهجها، وأبرزها الاتفاق مع السعودية. في الوقت نفسه، وصل الإيرانيون أيضًا إلى الحدود الخارجية التي يريدونها لنفوذهم، وبالتالي فإنَّ المزيدَ من الصراع ليس بالضرورة في مصلحتهم. لم يَعُد هناكَ الكثير مما يُمكِنهم كسبه الآن بعد أن لعبوا دورًا قياديًا في الشؤون اللبنانية والسورية واليمنية والعراقية والفلسطينية. وما لم يعملوا على تعزيز سلطتهم من خلال السماح لهذه المجتمعات بالاستقرار والتقدّم، فمن المرجح أن تتآكل سلطتهم وتأثيرهم.
مع ذلك، هناك توتّرٌ مُتَأصّلٌ في هياكل السلطة الإيرانية في المنطقة. إن ما يسمح لحلفاءِ إيران بالبقاء في مواقع مُهَيمِنة في الداخل هو أسلحتهم. وحتى لو كانت إيران مُستَعِدّة للتوصّل إلى تسوية مع دولٍ أخرى لتنشيط أماكن مثل لبنان وسوريا واليمن والعراق وفلسطين، فإنَّ ميلها سيكون هو الحفاظ على الجماعات المُسَلَّحة التابعة لها في مكانها لضمان النفوذ الإيراني. وفي مجتمعات العالم العربي التعددية، والمتعددة الطوائف غالبًا، لن يؤدّي هذا التهديد الضمني إلّا إلى توليدِ استياءٍ مُتزايد من حلفاء إيران، وهو ما من شأنه أن يُعقّدَ عملية توطيد دعائم سلطتها.
في ضوء ذلك، ماذا يستطيع الإيرانيون أن يفعلوا؟ وإذا ابتعدوا تدريجًا عن حلفائهم من الميليشيات لصالح علاقات بين الدول مع الدول العربية التي لها فيها رأي، فإنهم يخاطرون برؤية سلطتهم تتضاءل. ورُغمَ أنَّ هذا قد يكون غير مُرَحَّب به، إلّا أنه الخيار الحقيقي الوحيد المُتاح أمام إيران. فالإيرانيون يمتلكون الأموال والثروات الثقافية اللازمة للتعويض عن طريق القوة الناعمة، في حين ربما يُدركون بأنهم من خلال فشلهم في نزع سلاح حلفائهم في النهاية، فإنَّ الدولَ التي ينشطون فيها ستظل مُختَلّة، مما يتسبّبُ في ردِّ فعلٍ سلبي ضد طهران.
وأيًّا كان المسار الذي تختاره إيران، فإننا بالفعل بصدد رؤية بعض التحوّل الكبير من جانبها. من المرجح أن تنبع خيارات الإيرانيين في المنطقة من الديناميكيات الداخلية، ولكنها ستكون مُرتَبِطة أيضًا بعلاقات طهران الخارجية. وسيكون نفوذ الصين على وجه الخصوص حاسمًا، حيث أصبحت بكين عاملَ استقرار في منطقةٍ لها فيها مصالح اقتصادية كبيرة. وبينما يسعى الصينيون إلى الوصول بشكلٍ أكثر أمانًا إلى الهيدروكربونات في المنطقة وتعزيز مبادرة الحزام والطريق، فقد تضطرُّ إيران إلى إرضائهم واستيعابهم. وهذا بدوره يمكن أن يؤثر في أنشطة الحرس الثوري الإسلامي الإيراني القوي، والتي غالباً ما خلقت عدم الاستقرار في المنطقة الذي وَلّد فرصًا قَيِّمة لتعزيز نفوذ إيران.
مع ذلك، فمن دون إحساسٍ واضحٍ بالديناميكيات المؤسّسية داخل إيران، فمن الصعب التنبؤ بالنتيجة النهائية. تمرُّ إيران بلحظةٍ أساسية في جهودها المُستمرّة منذ عقودٍ للانتقالِ إلى مركز الصدارة في الشرق الأوسط، ولكنها تواجه أيضًا انعدام الثقة والاستياء في العديد من المجتمعات العربية. إن كيفية معالجة هذا الوضع والمُتطلّبات المُتضاربة للسلطة ستُحدّد وتُشكّلُ المنطقة في السنوات المقبلة.
- مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.