سعد الحريري: ما لَهُ وما عَلَيه (3): “تيَّارُ المُستَقبل” على المِحَكّ
سليمان الفرزلي*
الزيارةُ الأخيرة لرئيس الحكومة الأسبق، سعد الحريري، إلى بيروت، بمناسبة ذكرى اغتيال والده الشهيد رفيق الحريري، ما زالت محفوفة بالغوامض، وبالتالي تَستوجِبُ استكشافَ غوامضها، ليس فقط بطرح الأسئلة، إنّما بوضعها في الإطار الوطني اللبناني، لتداخل اعتكاف سعد الحريري، وتعليقه العمل السياسي ل”تيار المستقبل”، بخيطٍ خارجيٍّ مُقلق.
بدايةً، لا بد من التأكيد بأن “تيار المستقبل” يتمتّعُ بمزايا عديدة وطنية وإيجابية في الوقت ذاته، يجعلها غير مفهومة، بالنظر إليها من خلال الإطار السلبي القائم حتى الآن، من حيث تعليق العمل السياسي بغَيرِ إيضاحٍ صريحٍ ومُقنِع. ولا يُسِرُّ أحدًا من اللبنانيين تعليلُ ذلك بالأحوال السيئة القائمة حاليًا في لبنان، أو بعدم وجودِ جهاتٍ سياسية مُستَعِدّة للتلاقي الوطني في الوقت الحاضر، لأنَّ وجودَ هذه الأحوال السيئة تدعو إلى مضاعفة النشاط السياسي وليس الى الاعتكاف وتعليق النشاط.
ومن المزايا الإيجابية العديدة ل”تيار المستقبل”، أنه حزبٌ مُنتَشِرٌ في جميع المناطق اللبنانية من غير استثناء، وبالتالي من الأسهل عليه أن يؤثّرَ في الوضع الوطني. والطامة الكبرى، أن يتبيَّنَ تاليًا، وجود عوامل خارجية ضاغطة على رئيس “تيَّار المستقبل”، فينعكسُ ذلك سلبًا على التيار ذاته متى رُفِعَ القيد الخارجي المُوجِب للاعتكاف وتعليق النشاط السياسي. لأنه، عندئذ، يفقد قوَّة تلك الميزة من الانتشار الوطني، بالسماح لآخرين أن ينتقصوا من وطنيته.
ومن المزايا الإيجابية الأخرى ل”تيار المستقبل”، أنَّ له مقبولية عالية لدى المُكوِّنات اللبنانية عمومًا. فهو أقل الأحزاب طائفيةً بين الأحزاب الطائفية في لبنان. وأهميَّةُ هذه الميزة في “تيَّار المستقبل” أنها قابلة للتطوير على الصعيد الوطني العام، متى خفَّ الانغلاق الطائفي المتزايد في هذه الأيام، حيث لكلِّ فريقٍ سياسي طائفي “بيئته الحاضنة”.
ولكونه حزبًا منتشرًا في كل لبنان، فإنه يملك القابلية اللازمة للتفاهم مع باقي المكوّنات اللبنانية، أو أن يُشَكِّلَ اللحمة أو العمود الفقري، لوضعٍ ائتلافي، بل وصولًا إلى وضعٍ اتحادي. ذلك أنَّ ل”تيار المستقبل” صداقاتٍ وازنة في مختلفِ البيئات اللبنانية. فهو على درجة عالية من الاعتدال، والمرونة، بحيث يمكنه أن يُصبِحَ مع الوقت عصيًّا على الإرادات الخارجية المُعَوِّقة له، أو الهادفة إلى ترويضه وتطويعه.
لكن المؤسف أنَّ “تيار المستقبل” هذه الأيام في وَضعٍ لا يُحسدُ عليه، بسبب الغوامض الناشئة من أوضاع قيادته، أو خياراتها، الإراديَّة واللاإراديَّة. وهذه الغوامض لا يمكن لأحدٍ من خارج التيار أن يُوَضِّحَها لأعضائه أولًا، ولأصدقائه ثانيًا، ولعموم اللبنانيين ثالثًا. وهذا يلقي على عاتق قاعدة “تيار المستقبل” مسؤوليةً وطنيةً تدفعها إلى الخروج من الجمود الراهن الذي يُفاقِمُ أزمةَ لبنان الداخلية.
وهذا أيضًا من شأنه أن يُكثِّفَ الضغط على قائد التيار لتدارك الأمر، باعتبارِ أنَّ العقدة التي أملت الاعتكاف وتعليق العمل، تتعلّقُ بشخصه في الدرجة الأولى. وهو، تبعًا لذلك، مُلزَمٌ بالاستجابةِ لقواعده، على قول الشاعر والمسرحي الألماني (الماركسي) بيرتولت بريخت: “أنت قائدُهم فعليك أن تتبعَهم”.
ولا يعني ذلك التبعية، بمعناها الذي يقصد “فقدان الإرادة”، مما يجعله تابعًا لقوى خارجية أو داخلية، بل يعني الاستماع الى نبضِ القواعد الحزبية والاستجابة لها.
إذ يبدو الأمرُ لِمَن ينظرون إليه من خارج التيار، دارسين، أو مراقبين، أو منافسين، أو إعلاميين، وما إلى ذلك، وكأن هناك مُشابَهةً بين أزمة “تيار المستقبل” وأزمة الوضع الوطني اللبناني الذي يقف على شفا التزعزع. فإذا أُخِذَت هذه المشابهة إلى مداها الأقصى، فإنها تضع “تيَّار المستقبل” على المحكِّ، إن لم يكن على المُفترَق. اتجاهٌ يُنبئُ بأنَّ الجمودَ الراهن لـ”تيار المستقبل” وقيادته، يُفاقِمُ الأزمة الوطنية اللبنانية، واتجاهٌ يُنبئُ بأنَّ عودته السريعة إلى النشاط الوطني من شأنها أن تُعجِّلَ بالانفراجِ اللبناني العام.
والخياراتُ المُتاحة للخروجِ من هذا المأزق، ضَيِّقة ومَحدودة، وتستوجِبُ العجلة، بسبب تفاقم الأزمة الوطنية في لبنان، وتعاظم تعقيداتها، السياسية وغير السياسية، وأبرزها اختلال التوازن الداخلي بفعل عوامل داخلية وخارجية عديدة، منها غياب “تيار المستقبل” عن العمل السياسي العلني، لكونه من أعمدة التوازن الوطني اللبناني. ذلك أنَّ المشكلة الأساسية في التردّي الراهن هي في اختلال التوازن الوطني.
إنَّ انهيارَ لبنان، بفعل اختلال التوازن الوطني، الذي هو المنصّة الوحيدة للنهوض واستعادة التوازن المفقود، ليس مجرَّد حالة عرضية يحلّها تقادم الزمن، بل هو أشبه “بالخروج من الجنَّة” كما وصفه الفرزدق بقوله:
وكانت جنتي فخرجتُ منها كآدمَ حين لجَّ بها الضِرارُ
وكنتُ كفاقئٍ عينيه عمدًا فأصبحَ ما يضيءُ له النهارُ
- سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com