استراتيجيةُ بايدن في الشرقِ الأوسط بينَ الواقعِ والتطبيق
السفير يوسف صدقة*
نشرَ الصحافي الأميركي المعروف توماس فريدمان الاستراتيجية الجديدة لإدارة جو بايدن في صحيفة “نيويورك تايمز” لمُقاربةِ الأوضاع المُضطربة في الشرق الاوسط، والتي تشمل قطاع غزّة وإسرائيل وإيران ومنطقة الشرق الأوسط. تتضمّن هذه الاستراتيجية، حسب فريدمان، ثلاثة مسارات تدمج بين الرؤية الاستراتيجية والاستشراف السياسي:
- على واشنطن تَبنّي موقفًا قويًّا وحازمًا تجاه إيران، بما في ذلك القيام باعمالٍ عسكرية ضدّ وكلاء إيران في المنطقة، وذلك ردًّا على مقتل ثلاثة جنود أميركيين في قاعدةٍ أميركية في الاردن من طريق طائرة مسيّرة أطلقتها إحدى الجماعات الموالية لإيران من الميليشيات العراقية.
- ستُطلقُ واشنطن مبادرةً ديبلوماسية جديدة لإقامة دولة فلسطينية، وقد تتضمّن اعترافًا أميركيًا بدولة فسلطين منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وعلى الفلسطينيين في هذا المجال القيام بإصلاحاتٍ سياسية وأمنية، لضمان قيام دولة قابلة للحياة، على ألّا تُهدّدُ إسرائيل في المستقبل. وقد أجرت واشنطن مشاورات مع الدول الفاعلة في المنطقة حول المقاربة المطلوب اعتمادها للاعتراف بالدولة الفلسطينية . - أمّا المسارُ الثالث فيتضمّن تحالفًا أمنيًا أميركيًا مُوَسَّعًا مع السعودية، وقد يشمل أيضًا تطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل فيما إذا كانت الحكومة الإسرائيلية ستعتمد خيار العملية الديبلوماسية، والتي ستؤدّي إلى إنشاءِ دولةٍ فلسطينية منزوعة السلاح بقيادة سلطة فلسطينية جديدة (انتهى النص).
تبقى استراتيجية بايدن أسيرة رؤية أوباما، والتي تُركّزُ على الحوار المستمر مع إيران، مع ممارسة الضغوط على السلطة الايرانية للحدّ من تطوير برنامجها النووي. وعليه فإن بايدن لم يُغيّر استراتيجيته حتى الآن، رُغم الانفتاح على الدول الخليجية ولا سيما السعودية.
وقد تَنازَعَ الإدارة الأميركية، بعد القصف الذي استهدف الجنود الأميركيين في “Tower 22” في منطقة الحدود الاردنية-السورية، خياران للردّ على وكلاء إيران في سوريا والعراق. فالخيار الأول والذي تبنّته مديرية المخابرات المركزية (سي آي إيه) هو القيام بردٍّ عسكري محدود. أما مديرية المخابرات التابعة لوزارة الدفاع، فقد كانت تحبّذ الرد وضرب أهداف في إيران نفسها.
هذا وقد ثبّت مدير المخابرات المركزية الأميركية وليم بيرنز، رؤية الرئيس بايدن، عندما أشار في مقالته الأخيرة، التي نشرتها “أسواق العرب” بالعربية توازيًا مع نشرها بالإنكليزية في “فورين أفّيرز”، إلى أنَّ التعاطي والحوار مع إيران هو مفتاحُ الأمن في المنطقة، وأمن اسرائيل . وأشارت معلومات ديبلوماسية إلى أنَّ الإدارة الأميركية أبلغت السلطات العراقية مُسبقًا بتوقيت الضربات الأميركية على المواقع الميليشيات الموالية لإيران في العراق، مما جعلها تتخذ تدابير احترازية. وهذا ما يفسّر عدم وقوع خسائر كبيرة في صفوفها، وقد غاب عن المسرح العراقي أحد قادة ميليشيا النجباء أكرم الكعبي الذي تنصّل من الضربات على القاعدة الاميركية في الأردن، واتّهم “كتائب حزب الله” العراقية بها. وكانت هذه الجماعة أعلنت عن تعليق الضربات ضد الأميركيين بعد تهديد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بالاستقالة. وعليه فإنَّ الضربات الأميركية التي طالت 85 هدفًا في العراق وسوريا والتي شملت مراكز قيادة وتجسّس ومواقع تخزين ضواريخ وطائرات مسيّرة، لم تترجم بضربات قاصمة في العراق وسوريا، وهذا ما يفتح باب الحوار ومجددًا بين واشنطن وطهران في سلطنة عُمان.
ويرى بعض المتابعين بما يجري في كواليس واشنطن بأن استراتيجية إدارة بايدن حول الشرق الأوسط قد سُرّبت بصورة غير رسمية عبر الصحافي توماس فريدمان، لمعرفة ردود الفعل العربية والدولية عليها. ويتبين من ذلك، إذا صحّت هذه المعلومات، أن الإدارة الأميركية، ما زالت تتمسك بالحوار مع إيران، رُغمَ تعرّضِ القواعد الأميركية في سوريا والعراق والأردن لغارات المسيّرات، والردود العسكرية عليها.
من جهة أخرى، أكّدَ وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهبان، خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان، على أنَّ هناكَ حوارًا أميركيًا-إيرانيًا عنوانه خفض التوتّر، ومنع تجدّد النيران في المنطقة.
وعليه، فإنَّ تصعيدَ واشنطن بقصف الميليشيات الموالية لايران، قد يكون حلّا مؤقتًا. ولكن من الواضح أنَّ واشنطن تواجه صعوبة تتمثّل في وقف تدحرج الأحوال في الشرق الاوسط قبل وقف إطلاق النار في غزة، ووضع حدّ للاحتلال الإسرائيلي، وإنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة. وفي ظِّل غياب هذه الاستراتيجية، فإنَّ القوى الإقليمية ستظلّ تستمرّ في استعمال المسألة الفلسطينية لأهدافها، وسيبقى العالمان العربي والاسلامي في مرحلة العداء للغرب.
فمن الصعوبة تصوّر إنشاء دولة فلسطينية، إذا لم تكن تحظى بدعمٍ من كافة القوى على الساحة الفلسطينية من سلطة وفصائل، وغالبية الدول الفاعلة في المنطقة ومنها السعودية والدول العربية وتركيا ، وإلّا فإن القوى المعارضة ستضع العراقيل إزاءها. وما يزيد الأمر صعوبة هو تعنّت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو والجناح المتطرّف في الحكومة مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترتش، فعدم وجود حلّ عادل للقضية الفلسطينية، لن يكون هناك سلام دائم في الشرق الاوسط، ولن يتحقق السلام السياسي والاقتصادي للحالمين بذلك من زمن بعيد، فعدم تحقيق السلام سيكون مدخلًا إلى تجدّد العنف مُجددًا، والدخول في دوامته، وكذلك تراجع تأثير الغرب وشرعيته. والخطر يكمن ليس في اندلاع العنف، إنما تزايد الدعوات إلى معاداة الغرب.
أما على صعيد تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل فسيظل مطلبًا أميركيًا، إلّا أنه يتعذّر على السعودية القيام بأية خطوة تطبيعية قبل ضمان قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.
يبقى أنَّ أيَّ حلٍّ في الوقت الحالي هو بيد رئيس الحكومة الاسرائيلية نتنياهو وواشنطن، ويتمثل بإنزال نتنياهو عن شجرة الطموحات الجامحة.
- السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد وكاتب سياسي.