بالنسبةِ إلى الفلسطينيين، “اليومُ التالي” يَبدَأُ بخطّةٍ لإنهاءِ الاحتلالِ الإسرائيلي

وإلى أن يُصبِحَ المجتمع الدولي مُستَعِدًّا لسدِّ الفجوة بين الخطط الإسرائيلية والفلسطينية في ما يتصل بمستقبل غزة، فإنَّ مفاوضات اليوم التالي لن تؤدّي إلّا إلى صرف الانتباه عن إنهاء القصف والأزمة الإنسانية المُلحّة الآن.

محمد اشتية: يتعين على الرئيس الأميركي جو بايدن اتخاذ بعض الخطوات الهادفة التي لا يُمكِنُ عكسها بسهولة من قبل إدارة أخرى.

زَها حَسَن*

مع دخول القصف الإسرائيلي لغزة شهره الثالث وعدم ظهور وقفٍ دائم لإطلاق النار في الأفق، يواصلُ صُنّاعُ القرار السياسي في الولايات المتحدة وإسرائيل مُناقشة “اليوم التالي” في غزة نظريًّا. بالنسبة إلى العديد من الفلسطينيين، فإنَّ مثل هذا الحديث يُعتَبَرُ أمرًا غير إنساني ويبدو قاسيًا مع استمرار ارتفاع عدد القتلى. حتى الآن، قُتِلَ أكثر من 20 ألف فلسطيني، 40 في المئة منهم من الأطفال، في حين لا يزال مصير حوالي 7,000 شخص في عداد المفقودين.

عند النظرِ في كيفيّةِ دَعمِ مُستقبلٍ أفضلٍ لغزة –وللفلسطينيين والإسرائيليين بشكلٍ عام– فإنَّ صناعّ السياسات الأميركيين والإسرائيليين والفلسطينيين وغيرهم من العرب أمامهم مهمّة شاقة. وبقدر ما يكون الأمرُ مستحيلًا بدون التوصلِ إلى وَقفٍ دائمٍ لإطلاق النار، يجب عليهم تقييم حجم وتأثير الدمار في غزة، والاحتياجات القصيرة والطويلة الأجل للفلسطينيين الذين ما زالوا مُعَرَّضين لخطرٍ كبير للتهجير الدائم الكامل أو الجزئي، والاستعداد للنزوح الدائم، وقدرة السلطة الفلسطينية على تولّي الحكم في غزة. ويجب عليهم إجراء هذه التقييمات حتى مع إشارة إسرائيل إلى أنها ستواصل حملتها العسكرية بشكلٍ ما لأشهرٍ أخرى، وربما تبقى في غزة إلى أجلٍ غير مُسَمَّى.

بالاعتماد على مقابلة حصرية مع رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية ومحادثات ومناقشات مع أصحاب المصلحة الرئيسيين الآخرين، يعرض هذا المقال بعضًا من أهم الأسئلة التي يجب (لكن، في الوقت الحالي، لا يمكن) الإجابة عنها بينما يناقش صنّاع السياسات سيناريوهات اليوم التالي. وتشمل الأسئلة الأكثر إرباكًا مدى صلاحية غزة للسكن في المستقبل؛ والاحتياجات العاجلة والطويلة الأجل التي لا تعد ولا تحصى لـ 2.3 مليوني فلسطيني يعيشون هناك؛ وحكم غزة خلال أي فترة انتقالية وبمجرّد التوصل إلى حلٍّ سياسي دائم.

إعتباراتٌ لليوم التالي

صلاحية غزة للسكن والبنية التحتية فيها: عند مناقشة سيناريوهات اليوم التالي لغزة، يَفتَرِضُ صنّاعُ السياسات أنَّ القطاع سيكون صالحًا للسكن بعد التوصّل إلى وقفٍ دائم لإطلاق النار. هذا ليس صحيحًا. كانت الأمم المتحدة قرّرت بالفعل أنَّ غزة سوف تكون غير صالحة للسكن البشري بحلول العام 2020. ومن الواضح أن هذا التقييم لم يتحسَّن بعد أن حَوَّلت حملة القصف الإسرائيلية الأمور في غزة من وخيمة إلى “مُرَوِّعة”. لقد تمّ إسقاط أكثر من 29 ألف قنبلة على غزة، وهي منطقة تبلغ مساحتها ضعف مساحة واشنطن العاصمة. وهذا يعادل وزن قنبلتين نوويتين، ما تسبّبَ في مستويات من الدمار لم يشهدها العالم منذ حملات القصف الشامل التي استمرت طوال عام في الحرب العالمية الثانية. السمومُ المُنطلقة من المتفجرات المُستَهلَكة، ومواد البناء المسحوقة في غزة، والفوسفور الأبيض الذي أكدت تقارير عدة أن إسرائيل استخدمته في المناطق المدنية، تُشَكّلُ خطرًا على صحة الإنسان وسوف تستغرق مواجهة الوضع ومعالجته وقتًا طويلًا للسماح بالسكن الآمن في بعض أجزاء من القطاع، وفقًا لخبير دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام. ماذا سيعني ذلك بالنسبة إلى التربة الأرضية في غزة والقدرة على زراعة الغذاء –واقتصاد القطاع، حيث تمثل الزراعة 85 في المئة من صادرات غزة وتوفر ما يقرب من 30 ألف فرصة عمل رسمية بينما تبلغ نسبة البطالة حوالي 45 في المئة؟ كيف سيؤثّرُ تسرّبُ السموم إلى طبقة المياه الجوفية تحت غزة في الجهود الجارية لإعادة تأهيل مصدر المياه العذبة الوحيد في القطاع؟ وكيف سيؤثر إغراقُ إسرائيل لشبكة أنفاق غزة بالمياه لاستئصال “حماس” في الاستخدام المستقبلي لطبقة المياه الجوفية؟

إنَّ إزالةَ الأنقاضِ التي خَلَّفها القصف والتفجيرات والتخلّصَ منها سيُشَكّلان في حدِّ ذاتهما مهمّة ضخمة، وما يزيد من صعوبة ذلك حقيقة أن معظم معدات الحفر التابعة للدفاع المدني في غزة قد تم تدميرها. وسيتعيَّن شراءُ معدّاتٍ جديدة ونقلها إلى غزة. كيف سيتم تمويل ذلك؟ وكيف سيتم تنسيق دخول مثل هذه المعدات مع إسرائيل عندما يتردد المسؤولون فيها في فتح المزيد من نقاط الدخول للمساعدات الإنسانية والمواد الغذائية التي تشتدُّ الحاجة إليها؟

أما بالنسبة إلى البنية التحتية المدنية في غزة، فليس من الواضح حتى الآن حجم الضرر الذي لحق بها. واتهم مسؤولون في الأمم المتحدة إسرائيل باستخدام المياه كسلاح حرب، لكن حجم الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية للمياه ومعالجة مياه الصرف الصحي في غزة لم يَتَّضح بعد. وقد تم استهداف محطات الكهرباء والخزانات وبعض أبراج المياه ومحطات معالجة المياه. كما تعرّضَ بعض معدات الاتصالات، مثل أبراج الاتصالات وكابلات الألياف الضوئية، للتدمير أو التلف أثناء جولات القصف.

أما بالنسبة إلى قطاع الرعاية الصحية، وفقًا لمقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالحق في الصحة، فإنَّ البنية التحتية “تم طمسها بالكامل”. وقد تأثرت أكثر من خمسين منشأة للرعاية الصحية بسبب القصف الإسرائيلي، في حين قُتل ما يقرب من 600 من الأطباء والعاملين في مجال الرعاية الصحية. وهذا سيشكل تحديًا لقدرة القطاع على علاج أكثر من 50,000 جريح، سيحتاج الكثير منهم إلى رعاية طويلة الأمد والذين سيواجهون مشاكل في الحركة بسبب فقدان أطرافهم. ومع وجود عدد كبير من الآباء بين القتلى، ستكون هناك حاجة أيضًا إلى مرافق لرعاية الأطفال الأيتام والجرحى وتزويدهم بالرعاية النفسية والاجتماعية. كما سيحتاج مئات الآلاف من المدنيين المصابين بصدمات نفسية إلى رعاية متخصصة بعد أن نجوا لأكثر من ثلاثة أشهر من القصف والحرمان المُتَعَمَّد من الغذاء والماء والمأوى.

المُتَطَلَّبات الإنسانية الأساسية، وتهجيرُ الفلسطينيين، وقطاع غزة المُتَقَلِّص: إنَّ الحصارَ الإسرائيلي الصارم على غزة وحرمانها من الغذاء والماء والإمدادات اللازمة للحفاظ على حياة الإنسان ستكونُ له أيضًا آثارٌ طويلة المدى على الناجين في غزة. في الوقت الحالي في الجُزءِ الجنوبي من غزة، حيث صدرت تعليمات للفلسطينيين بالفرار وحيث تم تهجير 85 في المئة من سكان غزة، أفاد برنامج الأغذية العالمي أن 56 في المئة من السكان يعانون من مستويات حادة من الجوع، وأكثر من 90 في المئة يعانون من عدم كفاية استهلاك الغذاء. لقد أدى القصف الإسرائيلي المستمر إلى شلِّ قدرة غزة على إنتاج الغذاء: على سبيل المثال، تم تدمير العديد من المخابز. وحتى قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كان السكان يعتمدون إلى حدٍّ كبيرٍ على المساعدات الإنسانية وسيكونون في حاجة أكبر إلى المساعدات لبعض الوقت. وستكون هناك حاجةٌ أيضًا إلى توصيل المياه وتوزيعها من خارج غزة في المستقبل المنظور لتلبية الاحتياجات. ويستهلك الفلسطينيون في غزة حاليًا ليترَين فقط من المياه يوميًا، وهو أقل بكثير من 15 ليترًا اللازمة لبقاء الإنسان على قيد الحياة، ما يجبرهم على استهلاك المياه غير النقيّة والأطعمة النيئة أو غير القابلة للهضم. وهذه الحقيقة، إلى جانب سوء الصرف الصحي، من شأنها أن تؤدي إلى تسريع ما يسميه منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة “الصيغة النموذجية للأوبئة وكارثة الصحة العامة” مع آثارٍ مُحتَمَلة طويلة المدى على سكان غزة.

وبقدرِ ما يتمكّنُ السكان الفلسطينيون من البقاء في غزة في ظلِّ هذه الظروف غير الإنسانية وغير الصحّية، فسوف يحتاجون إلى مأوى أفضل مع حلول فصل الشتاء. ويجب إنشاء مساكن مؤقتة، وتوفير المرافق الأساسية والرعاية الصحية والتعليم وغيرها من المساعدات الإنسانية، إلى أن يتمَّ التوصل إلى حلولٍ طويلة الأمد. وكانت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) تُقدّم الخدمات الاجتماعية والإغاثة الإنسانية لما يتراوح بين 60 إلى 80 في المئة من السكان في القطاع قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كما كانت تُقدّمُ على مدى أكثر من سبعة عقود خدمات التعليم الابتدائي والثانوي والرعاية الصحية الأوَّلية للفلسطينيين في غزة (قدمت الوكالة خدماتها لأكثر من ربع مليون طالب وطالبة وقدمت الفحص الصحي لنحو 1.5 مليون لاجئ مسجل). ومع ذلك، ومع مقتل وإصابة العديد من موظفيها المحليين أو بدون مأوى، ومع دعوة بعض المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين إلى تفكيك وإزالة الأونروا أو وقف تمويلها، فإنه ليس من الواضح ما إذا كانت الأونروا قادرة على القيام بدورٍ مُوَسَّعٍ أو ما إذا كانت ستبقى على قيد الحياة كوكالة تابعة للأمم المتحدة. ولا تستطيع أي منظمة أن تتدخّلَ بسهولة لتولي ولاية الأونروا، وقد أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن معارضته للفكرة القائلة بأنَّ قوةَ حفظِ سلامٍ تابعة للأمم المتحدة ستوفر الأمن أو الوجود الوقائي في غزة خلال الفترة ما بين نهاية القصف وحلول الحكم الفلسطيني.

وحتى إذا تمَّ العثورُ على إجاباتٍ للاحتياجات الأساسية لأكثر من مليوني فلسطيني في غزة -المأوى والغذاء والرعاية الطبية والعلاج البيئي والحماية المؤقتة، من بين أمور أخرى- فكيف سيتم تعليم شباب غزة (نصف السكان) مع تضرّر أو تدمير الكثير من المدارس والجامعات والمساجد والكنائس؟

لا يمكنُ استبعاد احتمال أن تنوي إسرائيل تهجير بعض أو كل السكان قسرًا خارج غزة، وفقًا للمُفوَّض العام لوكالة الأونروا فيليب لازاريني ووزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي. يعيش حوالي 1.8 مليون شخص في جنوب غزة في ظروفٍ مُزرية. إن نصف الفلسطينيين في غزة يتضوَّرون جوعاً بالفعل، واليأس بدأ يتسلّل إليهم. وفي الأيام القليلة الأولى من الهجوم الإسرائيلي على غزة، اقترحت إسرائيل نقل الفلسطينيين إلى مصر مؤقتًا ـ-رُغمَ أنَّ المسؤولين المصريين والأميركيين كانوا يخشون أن يُصبِحَ التهجيرُ القسري دائمًا. وفي الواقع، أوصى تقريرٌ مُسَرَّبٌ لوزارة المخابرات الإسرائيلية بتاريخ 13 تشرين الأول (أكتوبر) ببناءِ مدنٍ دائمة للفلسطينيين في مصر. إذا تمَّ تهجيرُ الفلسطينيين بسبب ظروفٍ بائسة وغير إنسانية من صنع إسرائيل، فهل سيتم السماح للسكان بالعودة؟ أم سيتم تجريدهم من ممتلكاتهم بشكلٍ دائم، وبعضهم للمرة الثانية أو الثالثة في حياته؟

إفتراضاتُ التشغيل لأيِّ يومٍ بعد ذلك

على الرُغمِ من أنَّ قائمة الأشياء المجهولة طويلة جدًا بحيث لا يمكن وضعها في التخطيط المستنير للمستقبل، وعلى الرُغم من أنَّ الوضعَ لا يزال مُتَقَلّبًا للغاية، إلّا أنه يمكن وضع بعض الافتراضات في الوقت الحالي.

إسرائيل: أوَّلًا، سوف يصرُّ الزعماء السياسيون الإسرائيليون، سواء في الحكومة أو في المعارضة، على الحفاظ على سيطرةٍ أمنية مفتوحة على كامل قطاع غزة. كما يعتزمون ضمَّ جُزءٍ غير مُحَدَّد أو غير معروف من غزة بشكلٍ فعال لإنشاء منطقة عازلة. إنهم يعارضون عودة حكم “حماس” أو عودة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، ويعارضون وجود الأمم المتحدة في غزة، حتى ولو كانت قوة انتقالية للحفاظ على النظام العام، على الرُغم من أنه قد يكون هناك استعدادٌ للتسامح مع وجود قوة دولية في المنطقة العازلة. ومن الواضح أن إسرائيل ستدعم قوة إقليمية داخل غزة لتنسيق الفترة الانتقالية لأغراضِ إعادة الإعمار.

وقد نشر يائير لابيد، العضو الأكثر ليبرالية في أحزاب المعارضة في إسرائيل، على صفحته على فايسبوك رؤية سياسية تم إعدادها، كما يقول، عقب مائدة مستديرة ضمّت مسؤولين إسرائيليين وأميركيين. ويدعو القرار إلى إسناد الإدارة المدنية لغزة بشكلٍ مؤقت في المرحلة الأولى إلى فريق دولي بقيادة الولايات المتحدة بمشاركة دول عربية مختارة وعناصر محلية في القطاع غير مرتبطة ب”حماس”. وسيشارك الفريق في الإدارة وإعادة الإعمار والمساعدة الإنسانية وسيقوم بإنشاء هيئة لتحل محل وكالة الأونروا. وبالنظر إلى الدعم الأميركي والدولي للسلطة الفلسطينية لتولّي الحكم في غزة في مرحلةٍ انتقالية وبشكلٍ دائم، فإنَّ التدخّلَ الدولي الساحق بقيادة الولايات المتحدة سيكون مطلوبًا للتصدّي للدوافع الإسرائيلية التي من شأنها أن تسجن السكان الفلسطينيين في نسخة مُعَدَّلة من السبعة عشر عامًا من الحصار الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة.

الدول الإقليمية: ثانيًا، إستثمرت الدول العربية المجاورة لإسرائيل والأراضي المحتلة بشكلٍ كبير لرؤية نهاية الأعمال العدائية والتوصّل إلى حل سياسي. وقد أشارت مصر والأردن إلى أنهما لن تقبلا تهجير فلسطيني واحد من غزة أو الضفة الغربية إلى أراضيهما السيادية. كما أشارا إلى أنهما لن يشاركا بشكل فردي أو جماعي مع الآخرين في إدارة غزة. وفي حين أن الدول العربية لديها مصلحة في قيادة الحوار بشأن مصير غزة والحل السياسي النهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين بسبب كيفية تأثير الأعمال العدائية على أمنها القومي، فإنها تُعارض أي خطة تتضمّن تحمّلها المسؤولية عن غزة أو الضفة الغربية أو مصير الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.

مواقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي: يَتَّفِقُ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ومسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى حدٍّ كبير حول تصوّرهما لغزة. إنهما لا يدعمان قيام إسرائيل بتهجير الفلسطينيين قسرًا من غزة، أو تقليص مساحة غزة، أو إعادة احتلال إسرائيل للقطاع. ومع ذلك، لم يُشِر أيٌّ منهما إلى النفوذ الذي قد يكونان على استعداد لاستخدامه لمنع إسرائيل من اتخاذ مثل هذه الخطوات. وقد أشار كلاهما أيضًا إلى دعمهما لنسخة “مُعَزَّزة” أو “مُعاد تنشيطها” من السلطة الفلسطينية لتولي الحكم في غزة. واقترح بوريل أنَّ شرعية السلطة الفلسطينية “سيتم تحديدها والبت فيها من قبل مجلس الأمن الدولي”. وتفترض خططهما دورًا للدول العربية، وخصوصًا تلك التي قامت بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، من خلال استخدام نفوذها لدى إسرائيل للضغط من أجل إذعانها لقيام دولة فلسطينية.

موقف السلطة الفلسطينية بالنسبة إلى اليوم التالي

نظرًا إلى هذه الافتراضات بشأن إسرائيل والمنطقة وأصحاب المصلحة المؤثرين مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإنَّ الكثير يتوقف على السلطة الفلسطينية وما ستفعله أو لا تفعله في غزة بمجرّد التوصّلِ إلى وقفٍ دائم لإطلاق النار. وقد أشارت السلطة الفلسطينية إلى أنها لن تتحمّلَ المسؤولية عن القطاع ما لم تكن جُزءًا من حلٍّ سياسي يُنهي الاحتلالَ الذي بدأ في العام 1967. وبعيدًا من ذلك، لا يُعرَفُ الكثير عمّا ستُطالب به السلطة الفلسطينية في مقابل مشاركتها في الترتيبات المؤقتة بخصوص غزة. ما الذي تحتاج إليه منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الفلسطينية قبل أن تفكر في فكرة الحكم في غزة؟ كيف يمكن تحقيق سلطة فلسطينية أكثر مصداقية من دون إجراء انتخابات أو حتى تصبح الانتخابات ممكنة؟ أجاب رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية عن هذه الأسئلة في سلسلة مقابلات أجريته معه في الأسبوع الفائت.

حول موقف السلطة الفلسطينية بالنسبة إلى اليوم التالي، قال رئيس الوزراء: “اليوم هو اليوم التالي”، مُوَضّحًا أنَّ العنفَ المتوسط إلى العالي يهدد بالتحوّل إلى وضع راهن جديد ما لم يتم بذل جهود جدية نحو حلٍّ سياسي الآن. ومن ثم، فمن وجهة نظره، فإنَّ اليوم التالي يجب أن يكون اليوم التالي لخطة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وليس اليوم التالي لقرار إسرائيل السماح بالإدارة الفلسطينية في غزة. وقال إنه لا توجد حاجة إلى آلية انتقالية لإدارة غزة من قبل الأمم المتحدة أو قوة متعددة الأطراف.

على الرُغمِ من الانقسام السياسي بين السلطة الفلسطينية و”حماس” بعد سيطرة الأخيرة على القطاع في العام 2007، واصلت السلطة الفلسطينية مسؤوليتها عن الفلسطينيين هناك. حتى 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كانت السلطة الفلسطينية تُنفقُ ثلث موازنتها في غزة. وكانت تدفع تكاليف المياه والكهرباء التي توفّرها إسرائيل ورواتب 37 ألف موظف مدني فلسطيني، بما في ذلك 19 ألف ضابط ورجل شرطة تم استبدالهم من قبل حماس” بعد أن استولت الحركة الإسلامية على الحكم. كما واصلت السلطة الفلسطينية الاحتفاظ بحكومة ظل في غزة تضم وزارات الزراعة والشؤون الاجتماعية والاقتصاد الوطني والداخلية والتعليم العالي. كما قامت بإدارة وسائل الإعلام الرسمية في غزة، وأشرفت على المناطق الصناعية وصندوق تطوير وإقراض البلديات، وهو منشأة مانحة. وأشار اشتية إلى أن حكومته التي تتخذ من رام الله مقرًا لها تضم خمسة وزراء من غزة (ثلاثة منهم موجودون حاليًا في غزة).

وأكّدَ اشتية أنَّ السلطة الفلسطينية لن تقبلَ أيَّ اتفاقٍ مؤقت أو انتقالي تتولى فيه إدارة غزة، لأنَّ مثل هذه الاتفاقيات السابقة -اتفاقات أوسلو على وجه الخصوص- كانت بمثابةِ فَخٍّ للفلسطينيين. إن الوضع في الضفة الغربية يتدهور بسرعة بسبب التوغّلات العسكرية الإسرائيلية شبه اليومية والاعتقالات الجماعية: فقد اعتقلت إسرائيل ما لا يقل عن 3,000 فلسطيني في الضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). ونتيجةً لذلك، فإنَّ السلطة الفلسطينية بالكاد تتمسّك بالأربعين في المئة من الضفة الغربية حيث تتمتع ببعض السلطة. وقال اشتية إن هناك حاجة إلى اتفاق شامل لإنهاء الحكم الإسرائيلي وحلّ جميع القضايا العالقة، بينما لا تزال فلسطين موضع تركيز دولي.

سوف تحتاج السلطة الفلسطينية أيضًا إلى التزامات، بما في ذلك من الولايات المتحدة، حول الشكل الدقيق للطريق نحو إنهاء الاحتلال وكيف تنوي الولايات المتحدة العمل لتحقيق هذا الهدف. ومن وجهة نظر اشتية، يتعين على الرئيس الأميركي جو بايدن اتخاذ بعض الخطوات الهادفة التي لا يُمكِنُ عكسها بسهولة من قبل إدارة أخرى، بما في ذلك دعم قبول فلسطين في الأمم المتحدة والاعتراف بدولة فلسطين. إن الاعترافَ السياسي يعني إنهاء معاملة الولايات المتحدة لمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها منظمة إرهابية، وهو أمرٌ يمكن لبايدن أن يفعله في ظل سلطته التنفيذية. وتريد السلطة الفلسطينية أيضًا أن تستخدم الولايات المتحدة وأصحاب المصلحة الآخرين نفوذهم لمعالجة إنهاء التشرذم الجغرافي للمجتمعات الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة وفي ما بينها وإزالة القيود التي تفرضها إسرائيل على حركة ووصول الفلسطينيين. وأي محاولة لحكم غزة والضفة الغربية من دون هذا الاتصال والتواصل من شأنها أن تضمن فشل السلطة الفلسطينية.

وبقدر ما ستكون هناك حاجة إلى ترتيباتٍ انتقالية لوضع الأساس لإنهاء الاحتلال، أصرَّ اشتية على أنّ لا يكون لإسرائيل أي رأي في الإدارة اليومية لغزة أو الدفاع المدني وإنفاذ القانون المطلوب لتأمين القطاع. وستطلب السلطة الفلسطينية أيضًا ربط أي ترتيبات أمنية انتقالية بالضفة الغربية، حيث يهاجم كلٌّ من الجيش الإسرائيلي والمستوطنين المتطرفين المدنيين الفلسطينيين، مرات عدة بالتنسيق مع بعضهما البعض.

وأعرب اشتية عن اعتقاده بأنَّ منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية ستدعمان إنشاء آلية مراقبة دولية خلال هذه الفترة. ويُقدّمُ التواجد الدولي الوقائي المؤقت الذي عمل في مدينة الخليل في الضفة الغربية لأكثر من عشرين عامًا، والذي انتهى تفويضه عندما رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تجديده في العام 2019، مثالًا مفيدًا. تأسست قوة متعددة الجنسيات بقيادة النروج في العام 1994 لمراقبة الوضع في الخليل وتقديم تقارير سرية عنه بعد أن فتح مستوطن أميركي-إسرائيلي النار داخل الحرم الإبراهيمي مما أدى إلى مقتل تسعة وعشرين مُصلّيًا فلسطينيًا. ولكن على عكس التواجد الدولي الوقائي المؤقّت في الخليل، قال اشتية إنه يجب تمكين آلية جديدة لتقديم التقارير العامة وتقديم توصيات إلى أصحاب المصلحة من أجل العمل الدولي والمُساءلة.

ستحتاجُ السلطة الفلسطينية أيضًا إلى التزاماتٍ من المانحين الدوليين للمساعدة على إعادة إعمار غزة وإعادة تأهيلها. وفي محاولة لاسترداد تكاليف استهداف إسرائيل الواضح للمدنيين والبنية التحتية المدنية، وتوفير العدالة للضحايا، ومنع أي انتهاكات مستقبلية محتملة للقانون الإنساني الدولي، قال اشتية إنه يجب على المجتمع الدولي أيضًا دعم جهود فلسطين نحو المُساءلة.

إحدى العقبات المهمة للغاية أمام حكم السلطة الفلسطينية والتي يجب معالجتها، بحسب اشتية، هي استمرار إسرائيل في احتجاز عائدات الضرائب للسلطة الفلسطينية. لم تدفع السلطة الفلسطينية رواتب موظفي الخدمة المدنية في الضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) لأنَّ إسرائيل حجبت الإيرادات والمبلغ الذي تنفقه السلطة الفلسطينية في غزة كل شهر لدفع تكاليف المرافق والرواتب. قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، لم تكن السلطة الفلسطينية قادرة إلّا على دفع 80 في المئة من جميع رواتب موظفي الخدمة المدنية لديها بسبب الاستقطاعات الإسرائيلية الأخرى من الإيرادات الفلسطينية. إن الاستجابة للاحتياجات الهائلة في غزة مع الحفاظ أيضًا على عمليات السلطة الفلسطينية بشكل موثوق في الضفة الغربية ستتطلب أن تكون السلطة الفلسطينية قادرة على تحصيل ضرائب المقاصة الخاصة بها.

وفي ما يتعلق بكيفية تنشيط السلطة الفلسطينية، أشار اشتية إلى خطة إصلاح السلطة الفلسطينية التي تم تقديمها هذا العام إلى لجنة الارتباط الخاصة، وهي آلية تنسيق أنشئت لتقديم المساعدات الدولية والمساعدات التنموية للسلطة الفلسطينية. وتم تقديم الخطة أيضًا إلى وفد أميركي التقى برئيس الوزراء في 18 كانون الأول (ديسمبر). وقال اشتية إن السبيل لدعم السلطة الفلسطينية الضعيفة والمُختَلَّة هو إنهاء الممارسات الإسرائيلية التي تُقَوِّضُ سلطة السلطة الفلسطينية، بما في ذلك التوغلات العسكرية والاعتقالات الجماعية والتوسع الاستيطاني وحجب إيرادات السلطة الفلسطينية. إن السماح للسلطة الفلسطينية بالاستفادة من أراضيها ومواردها الطبيعية من شأنه أن يساعد أيضًا على تعزيز قدراتها.

أما بالنسبة إلى تمثيل “حماس” المستقبلي في السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير الفلسطينية، فقد كان اشتية حذرًا، واعترف فقط بأنَّ “حماس” هي “جُزءٌ لا يتجزّأ من الفسيفساء الفلسطينية” ولكن بدون الإشارة إلى كيفية دمج “حماس” كحزبٍ سياسي في المؤسسات الوطنية الفلسطينية. في الأسابيع الأخيرة، أبدى أعضاء المكتب السياسي ل”حماس” في مقابلاتٍ أُجرِيَت معهم استعدادهم لقبول حلِّ الدولتين وبرنامج منظمة التحرير الفلسطينية. فمن ناحية، تُدركُ السلطة الفلسطينية أنَّ أيَّ نقاشٍ حول حلٍّ سياسي مع “حماس” كشريكٍ سوف يُستَخدَم لتبرير عدم مشاركة إسرائيل، وعلى الأرجح عدم مشاركة الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، فإنَّ استبعاد الذراع السياسية لحركة “حماس”، التي تحتفظ ببعض الدعم في غزة والضفة الغربية، من شأنه أن يضمن استمرار الانقسامات الداخلية وفشل أي سلام حقيقي. وعلى الرغم من مدى التغيير الذي طرأ في جميع أنحاء المنطقة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، إلّا أن الوضع قد لا يتغير على الإطلاق في هذه المنطقة.

أفكارٌ ختامية: اليوم التالي بعد التدمير

يبدو أن بين ما تُريده إسرائيل لغزة وما ستُطالبُ به السلطة الفلسطينية مختلفٌ بشكلٍ واسعٌ وعميق. وما لم تكن لدى أصحاب المصلحة الرئيسيين خطةٌ لتجاوز الخلافات واستخدام نفوذهم الجماعي الكبير، فإنَّ المكان الذي من المرجح أن ينتهي فيه الفلسطينيون في غزة لن يختلف عن الضفة الغربية، حتى لو تولت السلطة الفلسطينية مسؤولية الحكم في القطاع خلال أي مرحلة انتقالية. ومن المرجح أن يضطر الفلسطينيون إلى العيش في مناطق أصغر داخل غزة مع قدر أكبر من الحرمان مما عرفوه من قبل. ويبدو أن هناك مستقبلًا مختلفًا مُمكنًا، إذا كان المجتمع الدولي، بقيادة أصحاب المصلحة الرئيسيين، على استعداد لدعم المصالحة الوطنية الفلسطينية والانتخابات، وتقديم بعض التنازلات للسلطة الفلسطينية نحو أفق سياسي، واستخدام نفوذهم لدى إسرائيل. ولكن في الوقت الراهن، يبدو أن مناقشات اليوم التالي ليست سوى مجرد صرف انتباه عن المسألة الأكثر إلحاحًا المتمثلة في إنهاء القتل في غزة وتأمين وقف إطلاق النار.

  • زها حسن هي محامية في مجال حقوق الإنسان وزميلة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. يمكن متابعتها عبر منصة (X) على: @zahahassan

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى