هل بونابارت اجتازَ الأَلب على حصانٍ عربي؟

جان لويس دافيد – رسم ذاتي (1794)

هنري زغيب*

بين الأَعمال التشكيلية الكثيرة التي صدرت عن نابوليون بونابارت (1769-1821)، تبقى اللوحة الشهيرة “بونارت يعبُر جبال الأَلب” بين أبرز ما يبقى من تلك الحقبة، كما وضعها الرسام الفرنسي جاك لويس دافيد  (1748-1825).

فماذا عن هذا العمل التاريخي؟

اللوحة الكاملة

القيَم في الفن

يذهب نقاد الفن إِلى أَن هذه اللوحة “الأَيقونية” هي أَشهر عمل فني/تشكيلي/سياسي في تاريخ الفن الأُوروبي. فصاحبها كان أَكثر رسامي عصره تأْثيرًا في الحركة النيوكلاسيكية الفرنسية التي امتدت من ثمانينات القرن الثامن عشر إِلى عشرينات القرن التاسع عشر. وهو درس على الرسام الأَشهر في عصره: جوزف ماري فيين (1716-1809)، ثم نال جائزة روما للفنون التشكيلية سنة 1774. وعندما عاد دافيد إِلى باريس بعد عشرة أَعوام (1784) كان مُشْبَعًا بالقيَم الرومانية العليا من بطولات ووطنيات وواجبات، وراح يعمل على إِدخال هذه القيم إِلى الفن الفرنسي ليكون مباشِرًا قويًّا محفِّزًا وواضحًا لناظريه من حيث ولاؤُه للتراث الفرنسي. وجميع هذه القيَم أَدخلها إلى لوحته “نابوليون يعبُر جبال الأَلب”، وهي باتت لوحته الأَشهر عالميًّا على الإِطلاق.

تشكيل اللوحة

هي زيتية ضخمة القياس، عرضُها 234 سنتم وعُلوُّها 273 سنتم. رسمها سنة 1802 ورسم بعد//ها خمس نسخ في الموضوع ذاته عن نابوليون ممتطيًا حصانه عابرًا جبال الألب عند نقطة معينة: “تلة القديس برنار”. والنسخة المرفقة مع هذا النص هي الأَشهر لأَنها معلَّقة في أَكثر الأَماكن استقبالَ زوارٍ في العالم: قصر فرساي.

تمثل اللوحة القائد نابوليون (الأَمبراطور لاحقًا) في إِحدى أَخطر حملاته. ويبدو مع جيشه عابرًا الجبال في العشرين من أَيار /مايو 1800، وهو في كامل ردائه القيادي الفخم المجلجل بأَزرقه وأَبيضه وذهبيِّه وقبعته الحمراء، وهو على ظهر حصانه العربي مارنغو.

ملامح تعابير نابوليون (تفصيل في اللوحة)

مارنغو

مارنغو، عمومًا، حصان بوناربات المدرَّب على المعارك. سُمِّيَ هكذا بعد معركة مارنغو وجاءه به معه من مصر عقب معركة أَبو قير سنة 1799. وفيما نظرة القائد ثابتة وثقى صوب النصر، تبدو ملامح الحصان في حيويته القصوى.

اللافت في الأَمر أَن موضوعَ اللوحة كلَّه من خيال الرسام: صحيح أَن نابوليون عَبَرَ بجيشه جبال الأَلب في ذاك التاريخ، لكن غير الصحيح تاريخيًّا أَن نابوليون في ذاك العبور امتطى حصانه مارنغو، ولا أَنه كان مرتديًا تلك الثياب الأَنيقة التي لا تتفق مع جو الأَلب العالي المثلج الممزوج بالأَمطار والوحول، ولا أَنه كان بهذه الملامح الفتية الوُثْقى. الذي حصل أَن الرسام شاء أَن يضع له صورة تُظهر قوَّته وعظمته بما يلفت الناظر إِلى اللوحة. وحصانه مارنغو كان يرافقه في عبور الجبال لكنَّ نابوليون لم يمتَطِهِ لخطورة الممرات الضيقة الوعرة في الأَلب، ما يهدد مارنغو بالسقوط أَو الكَبْوَة. لذا أَراد أَن يمتطي حمارًا عاديًّا بنِّيًّا قصير القوائم وهو طبعًا غير لائق أَن يظهر في اللوحة.  كان نابوليون في الحادية والثلاثين عند عبوره الأَلب، لكنه في اللوحة يبدو فتيًّا أَكثر.

ملامح تعابير الحصان (تفصيل في اللوحة)

مشيئة بونابارت

جميع هذه التغييرات حصلت بمشيئة نابوليون الذي كلَّف جاك لويس دافيد وضع هذه اللوحة، وأَن يرسمه فيها هادئًا على حصان جامح. وأَرسل له ثيابه وحدها كي يجعلها عليه في اللوحة. وهو رفض أَن يجلس أَمام دافيد كي يرسم ملامحه، معتبرًا أَن الجميع يعرفونه وسيتعرفون إِليه في اللوحة. وحين طلب منه دافيد أَن يجلس أمامه ولو مرة واحدة كي يتحقَّق من ملامحه، رفض القائد بحزم. لذا اضطر دافيد أَن يعود إِلى رسم قديم لنابوليون كي يعطيه في اللوحة ملامح العشرينات. وجعل الطقس غائمًا مع كثافة الضباب كي يضفي على اللوحة بعض الواقع التاريخي.

لكن هذا لا ينفي أَهمية العمل فنيًّا. فنابوليون ودافيد لم يشاءَا أَن تكون اللوحة تسجيلَ حدثٍ تاريخي، بل صورة مثاليةً لفكرة ورؤْية في بال بونابارت، ذات بروباغاندا سياسية، تدل الناظرين إِلى اللوحة على بطولة بونابارت ودوره، فهو بطل فرنسي وطني يقوم بواجبه العسكري في ظروف مناخية صعبة ومبهمة، ما يثير خيال الرائي إِلى تخيُّل الباقي. وهو ما لن يكون بهذه الدهشة لو رسم دافيد في لوحته بونابارت راكبًا على حمار وفي لباس عادي وفي طقس مشمس.

الأَيقونة الخالدة في كل عصر

بالفعل، أَصبحت هذه اللوحة أَيقونة تشكيلية لصورة بونابارت في أَذهان مشاهديها، كبطل حربي وطني صاحب إِرث خالد في تاريخ الحروب. ولذا، في الزاوية السفلى اليسرى من اللوحة، كتب دافيد – إِلى جانب اسم بونابارت – اسم بطل تاريخي آخر اجتاز جبال الأَلب، هو هنيبعل. ومن شهرة هذه اللوحة أَنها انتقلت فوتوغرافيًّا إِلى ملصقات وبطاقات بريدية وملفات ورقية ودفاتر ملاحظات وأَغلفة كتب بيوغرافية، ما يجعل هذه اللوحة المولودة في القرن التاسع عشر نابضةً حية حتى اليوم في القرن الحادي والعشرين.

وهنا علامة الخلود في تاريخ الفن.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى