دراسةُ “هارفَارد”عن اقتصادِ لبنان: إسمٌ عَريق ومَضمونٌ مَشبوه

البروفسور مارون خاطر والبروفسور نيكول بلّوز بايكر*

بالتزامنِ مع المُعارضةِ غير المَسبوقَة التي تَعَرَّضَ لها مشروعُ قانونِ إعادةِ هَيكَلة المَصارِف البالِغ السوء توقيتًا ومَضمونًا، أصدَرَ “مَركز التنمية الدَّولية” التابع لِجامعة “هارفَارد” (Harvard) الأميركية دراسةً حَول كيفية إيجادِ حَلٍّ لأزمةِ لبنان الاقتصاديَّة. تُرَكّزُ الدراسة المذكورة على تضييقِ الفجوة ما بين الأداءِ الاقتصادي الحالي والنموِّ المُحتَمَل من خلال اعتمادِ الدَّولَرة الرَّسمية الشاملة من جِهَة وَوَضعِ المودعين في مواجهةٍ مباشرة مع الدولة بعد سَحبِ المصارف من مَعركةِ توزيع الخسائر من جِهَةٍ أخرى. لا نَعلم أيَّ نُموٍّ هو ذلك الذي تَتَطلَّعُ إليه هذه الدراسة العظيمة بعد قضائها على المصرف المركزي عبر الدَّولَرة وسَحنِها المصارف عبر تبديدِ أيِّ فُرصَةٍ لاستعادتها ثقة المودعين. فما هي طبيعة هذا النمو الخارق والمُمكن بدونِ وجودِ قِطاعٍ مصرفي يَجذُبُ الودائع ويَرفَعُ مُضاعِف الائتمان؟ إجرائيًا، تَشُنُّ الدراسةُ “حَربَ إلغاء” على سيادة لبنان النقديَّة وعلى مصرفه المركزي في الوقت الذي تُسَوِّقُ فيه بوقاحةٍ مُفرَطَة “إبراءً مستحيلًا” دَفتريًا للمصارف وعودةً ميمونةً فعليَّة لأصحابها من دونِ أيِّ مُحاسبة على أنقاضِ الودائع والمودعين.  بالمُختَصَر، تَخلُصُ الدراسة إلى أنَّ الحَلَّ لأزمةِ لبنان يَكمُنُ بِرَبطِ اقتصاده بالدولار وبإصدارِ عَفوٍ عام عَن المصارف استِعدادًا لعودتها للعمل بدونِ مَصرفٍ مركزي بعد شطب دور مصرف لبنان شرَّ شطب. بعدها توصي الدراسة باستنهاضِ القِطاعات الانتاجيِّة في بلد مشكلته الأولى والأخيرة سِياسيَّة في مقاربةٍ بعيدة من الواقع بُعدَ المَسافة بين “هارفَارد” (في كامبريدج، ولاية ماساتشوستس) وبيروت! على الرُغمِ من كُلِّ ذلك، حَظِيَت الدّراسة باستحسانِ البَعض من عُشّاق العلامات التجاريَّة الثَّمينة الذين أغراهم المَصدَر فأغفَلوا المَضمون. أمَّا بالنسبة إلى البَعضِ الآخر، فَتَحَوَّلَت الدّراسة إلى مَرجعٍ نظريّ مُبرَم يؤكد له المؤكِّد ونقطة تحول مِحوَريَّة بدأت معها مَرحلة دراسة العلاقة بين المسافة إلى الكنيسة وفُرَص الشفاء. كُتِبَت المُطوَّلات وأُضيفت إلى لائحة الإهداءات في فترة الأعياد قَبل أن يَسودَ السُّكونُ مُجدَّدًا…

كَما أشَرنا سَابقًا، تتبنَّى الدراسة في جُزئها الأول “الدَّولَرة الرسمية الشاملة” وتَعتبرُها حلًّا جذريًا لأزمة لبنان. تسبَّبَت التَّقلّبات الجنونيَّة في سِعر الصَّرف بفوضى اجتماعيَّة ومعيشيَّة جَعَلَت الدَّولرة تَبدو وكأنَّها إحدى أدوات الاستقرار، لا بَل إحدى فُرَصِ الإنقاذ وفي ذَلك مُغالطة عَظيمة. فالدَّولرة مؤشِّرٌ إلى الحاجة الشديدة الى مِعيارٍ في وسطِ الإنهيار وغِياب الدَّولة وانسداد الأفق السياسي وتأجيل الحلول. بناءً على ما تَقَدَّم، يبدو مُستهجَنًا أن تُطرَحَ “الدَّولرة الشاملة” لا بل “الدَّولرة الرسميَّة الشاملة” كَحَلِّ لأزمةِ لبنان مِن قِبَل بعض اقتصاديي الدَّاخل قبل الخارج وذلك لأسبابٍ عديدة:

معيشيًّ، وإن كانت الدَّولرة قد نَجَحَت عمليّاً في إيجاد وَحدة قياس بعد انهيار الليرة، إلاّ أنَّها كرَّسَت معادلتَيّ “الفَقر مقابل الاستقرار” و”التلاعب مُقابل هدوء أمواج الأسعار” وكلتاهما مرفوضتان. فالرواتب المدولرة جزء بسيط مما كانت عليه قبل الأزمة لا بل هي حَدُّ أدنى لتأمين الحاجات الأساسية في الوقت الذي انخفضت فيه القدرة الشرائية للدولار نفسه بسبب التلاعب بالأسعار بعد دولرتها. تِقْنياً، تحتاج “الدولرة الرسميَّة الشاملة” المَزعومة إلى اعتماد سعر صرف حقيقي تُحَوَّل على أساسه موازنة الدولة إلى الدولار وهذا مُتَعَذّر بسبب عدم ضبط الحدود وعدم وجود سياسة ماليَّة وميزان مدفوعات ونظام صرف مُحَدَّد. تشريعياً، يوجب اعتماد الدَّولرة الشَّاملة إدخال تعديلات جوهريَّة وبنيويَّة على قانون النَّقد والتَسليف وعلى روحيَّة النظام الاقتصادي اللبناني. كيف يكون كل هذا ومجلس النواب تَحَوَّل إلى هيئة انتخابية مَهِمَّتها الوحيدة انتخاب رئيس للبلاد وهي العقدة التي يقف عندها لبنان منذ أكثر من سنة؟ سيادياً، الدولرة الشاملة مُرادِفٌ للتبعيَّة وللتخلّي عن الهويَّة وعن الاستقلاليَّة النقديَّة ولتحويل لبنان “رسمياً” الى بلد مُلحَق. اقتصادياً، يؤدي ربط الاقتصاد اللبناني بالاقتصاد الأمريكي من طَرَف واحد إلى تَحميل لُبنان تَبِعات التَّقلبات التي قد يُعانيها اقتصاد الرَّبط دون أن يتمكن من التعامل معها. فلبنان لا يَطبع الدولار وهو ليس بالطَّبع أرضًا أميركيَّة تُطَبَّق عليها السياسات الماليَّة والنقديَّة للولايات المتحدة.

بناءً على ما تَقَدَّم يتَّضِح أنَّ “الدَّولرة الرَّسمية الشَّاملة” الأفلاطونيَّة تُوجِبُ تأمين تدفُّقات نَقدية مُستدامة بالدولار وهذا أمرٌ مُستَحيل في ظلِّ الانهيار غير المسبوق الذي يَعيشه لبنان الذي يَخضع أيضًا لعقوباتٍ غير مُعلَنة عربيًا ودُوَليُا قد يُصبح عُرضةً للمَزيد مِنها في حال اعتُمِدَ الدولار عُملةً رسميَّة للبلاد. أما مَصرفيًا، فَيُظهر تقرير “هارفارد” تناقُضًا جوهريًا في مَضمونه فلا نَفهم كيفَ يُمكِنُ أن يَقومَ قِطاعٌ مَصرفيّ من تحت الأنقاض، بِتَمريرةٍ مَشبوهة، من دونِ مَصرِفٍ مَركزي مُستقلّ فَاعِل يلعب دَوره كَمَصرِفٍ للدولة وللمصارف. لا نفهمُ أيضًا كيفَ يُمكِنُ لبلدٍ أن يتعاملَ مع التضخّم من دونِ أن تكونَ له سياساتٌ نقديَّة مستقلّة ومصرفٌ مركزي. نسألُ أخيرًا، ما هو مُعَدَّل الفائدة الذي سَيُعتَمَد مع بقاء مخاطر البلد مُرتفعة جدًا؟ استطرادًا نسأل: كيف ستعمل المصارف وما الذي يَمنعُ تَكَوُّن فَجوة ماليَّة جديدة في بيئةٍ تَنضَوي على مخاطِرَ شَديدة؟

في جُزئها الثاني، تَطرَحُ الدّراسة حلًّا لأزمة المَصارِف عَبرَ تَمريرَةٍ مَشبوهة تُخرجُ المَصارف من عَمَليَّة تَوزيع الخَسائر وتَضَعُ المودعين في مواجَهَة الدَّولة لا بَل في مواجَهَة الشَّطب! هذا الطَّرح مُريب ومَشبوه في مَضمونِهِ وتَوقيتِهِ ومُقاربَتِهِ لِموضوع الوَدائع. فلا يمكن أن تتمَّ عملية استنهاض القطاع المصرفي وإعادة إحيائه على أنقاض الودائع وحقوق المودعين. إذا كان مشروع قانون إعادة هَيكَلَة المَصارِف مَرفوضًا مَرَّة، فَرَمي كُرَة نار الودائع على المودعين كما تَطرح دراسة “هارفارد” مرفوضٌ ألفَ مرة ومرَّة! يتزامن هذا الطَّرح مع الضجة التي َسَّببها مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف المُعيب في مصادفة تبدو مُدَبَّرة. فَبَعدَ الرَّفض القاطع لهذا المشروع الذي يَهدُفُ الى إعدام المصارف من أجل شَطب الودائع، تَطرح “دراسة هارفارد” التي سنُطلق عليها اسم “منشور “هارفارد” المشبوه” شَطبَ الودائع من دون إعدام المصارف. لا يا أصحاب العِلمِ والدراية المَزعومة، الخلافُ ليس حول سَحقِ المودعين مع أو بدون المصارف، كما إنَّ الحَلَّ لا يُمكنُ أن يَكونَ خارج إطار توزيعٍ عادل للخسائر بين الدَّولة والمَصرِف المركزي والمصارِف كلٌّ بِحَسَبِ مسؤولياته. كيف تَسمح جامعة بعراقة “هارفارد” أن يُستعمَلَ اسمها لنشر دراسةٍ تُجافي المنطق بأبسط قواعده؟ ألا يعلم علماء “هارفارد” ومن يُصَفق لهم في لبنان أنَّه من المُعيب تصنيف المودعين كبارًا وصغارًا ووضع حَدّ أقصى للودائع المحميَّة من الظُلم؟ ألا يعلمون أنهم لن يَجِدوا في لبنان غبيًا يرتضي استبدال وديعته بسند خزينة لدولة مفلسة؟ ألا يَفقهون أنَّ المودعين لا يقبلون تصنيف ودائعهم ديونًا وأنَّهم يُصِرّون على اعتبارها أماناتٍ لدى المصارف؟ فكيف يقبلون إذًا باستبدالها بديونٍ مصيرها الشطب كما يُشير “المنشور المشبوه” نفسه؟

إن كان علماء “هارفارد” لا يُدركون ما حَرِصنا على تَبيانِهِ من حقائق فَمُصيبة، وإن كانوا يعلمون ويحاولون دس سمَّ أفكارهم مُعتَبِرين أنَّ في لبنان أغبياء فخسئوا، أمّا إن كانوا يشتركون في ألاعيب التَّضليل التي يَمتَهِنُها سياسيو لبنان فمحاولتهم البائسة لن تَمُرّ. أخيرًا وليس آخرًا، أليست أرقام 100 ألف دولار و76 مليار دولار الواردة في نَصّ “المنشور” إشكاليَّة ومُنتقاة من خطط وتقارير مشبوهة؟ يُلاقي هذا المنشور الخَبيث في عُمقِهِ مَشروع إعادة هَيكلة المَصارف فَيَنتشلها دَفتريًا ويورّطها حَتَّى الموت بِوَضعها في مواجهة المودعين النَّاقمين الذين سيطالبون هم بإفلاسها فَيَكون “قد تّمَّ ما كُتِب”! أليسَ الأجدى إعادة رسملة المصارف عبر استعمال أصولٍ حقيقية تمتلكها الدولة وهي المسبب الأول للأزمة بدلا من شطب الودائع بعد توزيع سندات خزينة لا تصلح سوى للتدوير؟

أمَّا الجُزء الثالث والأخير من “المَنشور” والمُتعلّق بإيجاد مَجالاتٍ جَديدة للنمو الاقتصادي، فلا يَستَحِقُّ عَناءَ التَّحليل. فَمُشكلة لُبنان ليست اقتصادية لِيَكون الحَلّ إيجاد “مجالات جديدة للنمو” وَهي لَيست متعلّقة بتحصيل الضرائب فَتُسَوَّى بـ”تعزيز قاعدة الإيرادات”. على الرُّغم من أنَّها من أفضل أنواع الضرائب، تؤدي زيادة نسبة الضريبة على القيمة المضافة كما يَرِد في المَنشور إلى التداعيات نفسها المرتقبة لموازنة العام 2024 المُخزية. فإقرار ضرائب جديدة يتعارض كليًا مع مبدَإِ النمو الذي يرتكز إليه المنشور ولا يُطَبقه. إن مشكلة لبنان سياسية وكثيرة التَّعقيدات وتؤدي إلى انحلالِ مؤسسات الدولة وإلى فلتان الحدود وغياب دولة القانون. لذلك لا بُدَّ للحل أنا يبدأ من السياسة. قبل ذلك، ستبقى واهية المعالجات الاقتصاديَّة والنقديَّة والماليَّة المُرتكزة إلى أُسُس عِلميَّة دقيقة؛ فما الحال إذا كانت مُرتكزة إلى ألاعيب السياسة؟

لبنان ليس في حاجة إلى مقاربات وحلول مستورَدة و”signees” بل إلى حلول “بَلَديَّة” يُجمِعُ عليها كُلُّ اللبنانيين، فأهلُ مَكَّة أدرَى بِشِعَابِها…

  • البروفسور مارون خاطر هو باحث أكاديمي وكاتب في الشؤون المالية والاقتصادية. يمكن متابعته عبر منصة (X) على: @ProfessorKhater
  • البروفسور نيكول بلّوز بايكر هي باحثة أكاديمية وكاتبة في الشؤون المالية والاقتصادية.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع نشره في صحيفة “النهار” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى