كيسنجر… الرَجُلُ الذي فَقَدَ دَهاءَه
محمّد قوّاص*
في أيار (مايو) الماضي أفتى وزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر أنَّ الصين ستنجح في إيقافِ الحربِ في أوكرانيا من خلالِ مبادرةٍ تقدّمت بها في الذكرى الأولى للحرب. كانت بكين نشرت بهذه المناسبة اقتراحًا من 12 نقطة تضمَّنَ، إلى جانب الدعوة لوقف إطلاق النار، تَركَ القوات الروسية في الأراضي التي استولت عليها في أوكرانيا، ووضعَ حدٍّ لأية عقوبات لم يوافق عليها مجلس الأمن الدولي.
قبل ذلك، وفي بدايات هذه الحرب كان لكيسنجر موقفٌ شديد المرونة والواقعية السياسية بالدعوة إلى وقف إطلاق النار والتسليم لروسيا بالإنجازات العسكرية التي حققتها منذ أن شنّت الحرب في 24 شباط (فبراير) 2022. والظاهر أنَّ الرجلَ قد انتشى بما تضمّنته مبادرة بكين من مضمونٍ اعتبرَ أنها مستوحاة من فتواه ورؤيته. وفيما أتت آراءُ كيسنجر في السنوات الأخيرة خارج سياق الواقع وشروطه، فإنه بقيَ يُبشِّرُ بمدرسة الواقعية السياسية التي اشتهر بها.
على أنَّ تلك الواقعية بدت مُتَقَلّبة مُتذبذبة مَزاجية ما بين أسبوعٍ وآخر. ففيما بدا في الأشهرِ الأولى للحرب مُتَفَهّمًا لرؤية روسيا وزعيمها فلاديمير بوتين، عادَ في كانون الثاني (يناير) من هذا العالم إلى الدعوة إلى ضمِّ أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي على النقيض من تأويلاته السابقة. أدلى بهذا الموقف خلال مشاركة له عبر الفيديو في المنتدى الاقتصادي العالمي.
بَرَّرَ كيسنجر بمهارةٍ هذا القفز من موقفٍ إلى آخر. قال إنّهُ كانَ مُعارِضًا لعضوية أوكرانيا في حلف الناتو “خشيةَ أن يتسبَّبَ الأمرُ بالعملية التي نشهدها الآن. أما وقد وصلت هذه العملية إلى هذا المستوى، فإنَّ فكرةَ أوكرانيا المُحايدة في ظلِّ هذه الظروف لم تَعُد ذات جدوى”. لكنَّ في هذا التبرير الذي قدّمه كيسنجر تبسيطًا في علوم العلاقات الدولية لا تخفى على “داهية” مثله.
قبل إطلالته في دافوس، كتب في كانون الأول (ديسمبر) 2022 مقالةً نُشِرَت في مجلة “ذا سبكتايتر” البريطانية المحافظة حَذّرَ فيها من أنَّ النزاعَ في أوكرانيا له أوجه تشابه مع العام 1914 عندما انزلقت القوى الكبرى بدون قصد إلى حربٍ عالمية.
ودعا إلى وقفٍ لإطلاقِ النار تنسَحِبُ بموجبه روسيا إلى خطوط ما قبل الاجتياح ولكن ليس أبعد، بحيث تبقى في شرق أوكرانيا وكذلك شبه جزيرة القرم التي ضمّتها موسكو في العام 2014، مع إخضاع هذه الأراضي لعملية تفاوضية لاحقة.
صحيحٌ أنَّ آراءَ الرجل تبقى وجهات نظر لا سلطة لها طالما أنه خارج أيّ منصبٍ أو مسؤولية، لكن الشهرة التي كان يتمتّع بها جعلت مما هو مجرد رأيٍ مَرجَعًا في علوم العلاقات الدولية والأزمات الجيوستراتيجية. وصحيحٌ أن فتاويه بشأن الحرب، وهو في العام المئة من عمره، تختلفُ في دقّتها وأهليتها عمّا كانت عليه قبل عقود، غير أنَّ نموذجَ أزمة أوكرانيا هو النموذج نفسه الذي اعتمده في مقاربته للأزمات والمفاصل التاريخية التي انخرط بها وتولى إدارة إنتاج مآلاتها. فأينَ أضاع بوصلته؟
تكمنُ قوّة كيسنجر الأسطورية من حيث وصفها بالدهاء ووسمها بالعبقرية النادرة في أنه مارس مواهبه في عزّ القوة وفائضها التي كانت تتمتع بها الولايات المتحدة. عمل الرجل في الشرق الأوسط مُستَقويًا باحتكارِ بلاده للكلمة الفصل في صراع المنطقة. ولم يكن يحتاج الرئيس المصري الراحل أنور السادات للاجتماع بكيسنجر، وزير خارجية واشنطن ووسيطها لإنهاء حرب العام 1973، ليستنتج أنَّ الولايات المتحدة تملك، وفق تصريحه الشهير، 99 في المئة من أوراق الحلّ في الشرق الأوسط. واستنادًا إلى فوة أميركا فإنَّ كيسنجر لم يُقدِّم نفسه للمنطقة بصفته يهوديًا (على منوال ما فعل وزير الخارجية الحالي انتوني بلينكن) على الرُغم من انحيازه الكامل لإسرائيل.
وفق ذلك التميّز سَهّلَ على كيسنجر تسويق واقعيته الشهيرة أو ما كان يزعمها لتمرير مقارباته لأيِّ حلّ. ووفق قناعة تامة في القاهرة كما في دمشق بسطوة الولايات المتحدة وقدراتها على الفعل، فتحت العاصمتان أبوابها للديبلوماسي “الداهية” وكادت ترسمه صديقًا حميمًا للرئيسين، أنور السادات في مصر وحافظ الأسد في سوريا. الأول أراد للحرب “تحريكًا لا تحريرًا” والثاني أراد نهاية لحربٍ لا تؤدي إلى انتهاءِ الصراع.
في الحالتَين استنتج كيسنجر بسهولةٍ تَوقَ مصر وسوريا إلى علاقاتٍ مُتقدّمة مع الولايات المتحدة. فالحرب ضد إسرائيل ووقوف واشنطن بقوة إلى جانبها ليستا عائقًا إيديولوجيًا أمام تطبيع علاقات القاهرة ودمشق مع واشنطن. إنتهت مداخل كيسنجر في عهد الرئيسَين الجمهورِيَين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، من العام 1973 إلى العام 1977، إلى ما انتهت إليه مع مصر في عهد الرئيس الديموقراطي جيمي كارتر في كامب دايفيد، وإلى ما انتهت إليه مع سوريا في عهود لاحقة من تعاون مع نظام الأسد لتحرير الكويت في العام 1991 وإدارة الصراع قبل ذلك مع منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان.
لا تشكيك في مواهب كيسنجر وكفاءاته في لعبِ أدوارٍ مثيرة للاهتمام والجدل في مناسباتٍ دراماتيكية من فيتنام وكمبوديا إلى الشرق الأوسط. غير أنه لم يكن إلّا لاعبًا على رقعةِ موازين القوى. أنزل جميع اللاعبين عن أشجارهم وطموحاتهم وأهدافهم.
حين التقى السادات كان الرئيس المصري أدركَ أقصى ما يُمكن لمصر أن تُحقّقه في حربٍ تحوّلت إلى حربٍ ضد أميركا وفق ما صرح به لاحقًا (تعليقًا على الجسر الجوي العسكري الذي أقامته واشنطن لدعم إسرائيل). وحين التقى الأسد كان رجل دمشق القوي استنفد ما باستطاعة جيشه أن يحقّقه في الجولان. سَهلٌ على كيسنجر أن يستنتجَ أن ما يرومه الرجلان مُشتَرَكٌ واحد: “وقف الحرب ومآلات سياسية متناقضة”، السلم بالنسبة إلى مصر، وتجميد الصراع بالنسبة إلى سوريا.
أوحت هواجس السادات والأسد بما بات يُعرَفُ في مدرسة كيسنجر بأسلوب الخطوة خطوة. لم يرَ الديبلوماسي الأميركي أية ضرورة للذهاب إلى الحلول النهائية. لا النتائج العسكرية للحرب تفرض ذلك ولا الطموحات السياسية للقاهرة ودمشق تتوق إلى ذلك. ناهيك من أنَّ إسرائيل التي تحظى بدعمٍ سياسي وعسكري غير مشروط من قبل الولايات ليست مُضطرّة للذهاب إلى حلولٍ كبرى. باع كيسنجر الأطراف خطوة وراء خطوة وحين غادر مناصبه لم يكن أنجزَ إلّا ما هو متاح وممكن. وفي ما فهمه في القاهرة ودمشق فإنه كان وراء عقيدة أبعدت أي تواصل بين واشنطن ومنظمة التحرير الفلسطينية لمدة 20 عامًا.
دَخَلَ كيسنجر الديبلوماسية من بوّابات أكاديمية فكرية أنتجت أبحاثًا وكُتُبًا في علم التاريخ والعلاقات الدولية يُعترَفُ بأهمّيتها. بعد مرحلته الديبلوماسية باتت كتبه أقل أهمية وأكثر تجارية. والواضح أن فتاوى كيسنجر في شأن أوكرانيا لم تستند على شروط فتاويه في الشرق الأوسط. لا تملك واشنطن فائض القوة التي كانت تملكها في الشرق الأوسط في سبعينيات القرن الماضي. ثم أنَّ علاجات كيسنجر لا تُلاقي ما ترومه موسكو وكييف ولا حتى بكين ولندن وباريس. لا مجال للخطوة خطوة في اجتهادات كيسنجر في أوروبا في عالمٍ شديدِ التحوّل يطلُّ على نظامٍ دولي جديد. والواضح أنَّ لا أحدَ يستمعُ إلى رجلٍ لا يسمعهم وهذه معضلة كيسنجر في أوكرانيا. استمعَ جيدًا إلى اللاعبين في الشرق الأوسط ولم ينجح في مغامرته الصينية إلّا لأنه استمع جيدًا إلى ماو تسي تونغ في بكين قبل أن يستمعَ إلى ريتشارد نيكسون في واشنطن.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)