جان خوري… أيقونةُ الإعلامِ الراقي

كابي لطَيف*

بصمتٍ وبعيدًا من الضوضاء الإعلامية رَحَلَ رائدُ الإعلام المرئي الكبير في لبنان جان خوري. بعدَ مُعاناةٍ من الحربِ والترحالِ داخل لبنان، لم يُغادِر إلى فرنسا حيث أولاده، إلّا أخيرًا، بل قرّرَ البقاءَ في بلده مع الكتب والجبال والسماء في قرية “بحرصاف” في قضاء المتن، ليستعيدَ شريطَ ذكرياته ويرى مشوار حياته من منظارٍ آخر، ويقرأ حكاية لبنان التي لم تُختَم فصول مآسيها بعد!

كان جان خوري أوّلَ مُذيعٍ في التلفزيون اللبناني منذ انطلاقته في العام 1959، واستمرَّ حتى بداية الثمانينيّات رئيسَ تحرير الأخبار ومديرًا تتلمذَ على يديه وعلى نهجه الكثيرون. فكان القدوةَ والمُفكّرَ الإعلامي الراقي في زمن الحرب والمواطن الحريص على دوره وعلى الرسالة الإعلامية في أحلك الظروف التي مرَّ بها لبنان.

ثلاثةُ عشر عامًا من الزمالة مع جان خوري الجنتلمان، المُثقَّف، الفرنكوفوني، المتواضع، الهادىء وصاحب الأداء الأرقى الذي عرِفَتْه الشاشة الفضيّة.
شخصيّةٌ إداريّةٌ مرموقة، ثقافةٌ عالية، ناهيك عن إطلالته الجميلة وكأنَّ روحه الشفافة ظاهرة على مُحيّاه. عُرِفَ بالمستوى الرفيع، فارضًا أسلوبًا مُغايرًا في الإعلام. الموضوعيّة التي اعتمدها جاءت من خبرته الإعلامية التي مارسها في فرنسا ونقلها إلى لبنان. أضف اليها العمق الروحاني الذي تجلّى به.

في تلك المرحلة الذهبية لتلفزيون لبنان لم أكن أدركُ أني أعملُ مع كبارِ الإعلاميّين الذين صنعوا مجد الشاشة الفضّية. ولم أكن أدرك أني في حضرة كبار المهنة وفي زمنٍ سُمّيَ الزمن الجميل.

منذ البدايات حظيتُ بمعاملةٍ راقية من جانبه يُغلّفها الاحترام والتشجيع. المشهد الأول الذي جمعني به في منتصف السبعينيّات بقي في بالي لأنه تمحورَ حول سؤال عقب اختياري للانضمام إلى طاقم تلفزيون لبنان القناة 5 و 11. سألني: هل ترغبين في الانضمامِ إلى قسمِ الأخبار أم الى قسم البرامج عليك أن تختاري؟

أجبتُ: لا زلتُ صغيرة على الأخبار، أفضّل حاليًا الانضمام إلى قسم البرامج، وفي المستقبل ممكن أن أنضمَّ إلى قسم الأخبار. بعد سنواتٍ عادَ وعرضَ عليّ تقديم فقرة في نهاية النشرة الإخباريّة لم تتحقّق بفعل ظروف الحرب اللبنانية.

شكرًا جان خوري لبصماتٍ خالدة وذكرياتٍ لا تُنسى. ترحلُ عن لبنان وعن مُحبّيك في وقتٍ يلتهب فيه الجنوب مسقط رأسك، وتلتهب معه مشاعر الخوف من حربٍ شاملة مُدمّرة.
إلّا أنَّ الذاكرة لا تُمحى، ستبقى في وجدان الوطن أيقونةً صَنعت ذات حقبة ذهبية، خطًا إعلاميًّا ومدرسةً لبنانية صافية في الإعلام الراقي والمسؤول، فغدت تاريخًا.

  • كابي لطيف هي إعلامية لبنانية مخضرمة تقيمُ في باريس وتعمل في إذاعة مونتي كارلو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى