عِزَّةٌ بَعْدَ غَزَّة

رشيد درباس*

تسقطُ نقطةُ دمٍ من غين غَّزة، فينقلب الحرف عينًا، وتُصبح غَزَّةُ عِزَّةً ومجدًا.

المجتمع الدولي يحزن لرؤية الأشلاء والدمار، ثم يشيح عن المشاهدة لا تجنّبًا لمكابدة الأسى، ولكن ليدعم الآلة الإسرائيلية، وهو مغمض الأعين، تكفيرًا عن “اضطهاد الأورويبين لليهود”. الدم الفلسطيني بلا ثمن، فهو ليس من الدماء الزرقاء النادرة، بل يوجد منه كثير، لكن المعضلة فيه أنه من روافد  نهر الأردن، كلما فاض، حبلت الأرض بالأنسال، واستطال الشجر، وأينعت البيارات، ففاحت منها الذكريات العطرة، أقوى من رائحة البارود والجريمة؛ هو الصراعُ العنيد بين نجمة داوود و”نجوم الظُّهر” التي يريها أهل فلسطين لغاصبيها. هو نزاع متمادٍ بين الخصيب والجديب، بين الطين المغذي لبطون الحوامل، والأسطورة القاحلة التي تلجأ إليها الصهيونية لتستخرج منها مزيدًا من الخرافات لتُحارب بها الحقيقة. كلما شعرت الدولة العبرية بتنامي المعضلة الديموغرافية، لجأت لاستقطاب الأجناس واعدةً إياهم بالجنّة،  التي لا يجدونها، فينقلبون عبئًا على المجتمع، عاطلين غالبًا من العمل، ومُغرقين في التطرّف والعنصرية.

ظنت الحركة الصهيونية أنَّ توطيدَ دولة إسرائيل يقوم على إخلاء الأرض بتهجير أهلها ورميهم في الشتات، لكن قلة بقيت، فآلَ عددها الآن إلى أكثر من مليوني فلسطيني توارثوا التمسك بهويتهم عبر الأجيال، أمواتًا وأحياءً، وأجِنَّةً في الأرحام، يُضافُ إليهم حوالي ستة ملايين بين الضفة الغربية وقطاع غزة مقابل ستة ملايين من اليهود في دولة إسرائيل، تعيش كثرة منهم بين الاحتياط والطوابير المختصة بقمع أصحاب الدار، وقطعان الذئاب الجوية التي تنهش لحوم المستشفيات عن بُعدٍ آمن. أما الغالبية الساحقة فتذهب كل بضعةِ أشهر إلى انتخابات برلمانية في بحثها البائس عن فترة طويلة لحكم مستقر.

خالوا أنهم حاصروا الضفة بالمستوطنات و”غزة” من الأربع الجهات، فاستسلموا إلى استرخاءٍ استراتيجي إذ بدا لهم أن القضية الفلسطينية تراجع الاهتمام بها إلى الصفوف الخلفية، فباغتهم المُحاصَرون بضرب حزام الحصار وهزيمة قواته الحارسة، وَسَوْقِ قادتها إلى الأسر سعيًا لتحرير من قضوا معظم أعمارهم في السجون، وها هم الآن يمدون أيديهم من وراء القضبان ليشدوا على أيادي مَن خرجوا من غامض أمكنتهم ومكامنهم، وسجّلوا في ساعات قليلة حكمة خالدة، وهي أن التراب أقوى من الأسطورة.

سيطول العدوان، وستطول المقاومة، لأنَّ العقلَ العنصري لا يستوعب فكرة السلام وإعطاء الحقوق، وهو يتذرّع بأنه صاحب الأرض كلها بحكم مرسوم تلمودي زعزعته سواعد مئات من الأبطال، تفوّقوا على التكنولوجيا، وعيون المخابرات، ودخلوا إلى العُقْر، ليعقروا رؤوسَ الأفاعي “بِغَزَّةٍ” نفذت إلى أعمق الأعماق.

ليست سطوري نصًّا وجدانيًّا صادرًا عن شخصٍ أخذته النشوة فأهمل النظر إلى النتائج المدمّرة. فأنا أعلم تمامًا أنَّ المجزرة المُتمادية، تُخَلِّفُ على مدار الثواني أهوالًا يخجل منها العصر الحجري وأكلة لحوم البشر، وتحوّل العمران دمارًا، والبيوت قفرًا، والأطفال أشلاء؛ لكن ما تفعله إسرائيل فعلت مثله من قبل، وارتكبت “دير ياسين” و”قانا”              و”صبرا وشاتيلا” وازدرت بالقيامة والأقصى والحرم الإبراهيمي، واستباحت جنين ونابلس والمقاطعة في رام الله،  وأنزلت بغزة أطنانًا من الهمجية، ولكنها كانت تستفيق في كل مرة على أطفال أنضجوا الحصى في قِدْر العزيمة،  وَسَخَّروا الطير الأبابيل التي عبرت أجنحتها بالقوادم والخوافي، لتنقضّ بالريش على الكواسر في مشهدٍ ليس يُنسى.

وفي كل  مرة كانوا يرفضون أخذ العِبر، ويوغلون في الإنكار والإصرار، حتى باتوا ملفوظين رُغمَ ما فُتِحَ لهم من أبواب، ومنبوذين من المشاعر العربية التي تتدفق اليوم في الشوارع وينطق بها المسؤولون العرب الذين أعلنوا جميعهم بلغة حاسمة رفض التهجير والتشريد ولو أدى ذلك إلى إعادة الأمور إلى سيرتها الأولى.

نحن نبكي على شهدائنا، وتلتهب قلوبنا حزنًا، لكن الفلسطينيين هم الذين يُقْصَفون، وهم الذين يموتون، وهم الذين سيحيون في دورات الأرض المتجددة، ويتخطّونها قشرة بعد قشرة، وَرمْلة بعد رملة.

مات الآلاف… وبقي الملايين، فأين المفر؟

ضمّت القبور شهداء بلا شواهد ولا أسماء، وبقي الفلسطينيون على أرضهم التاريخية بأسمائهم الرنّانة، يفلحون ويزرعون ويحصدون، ويتعلمون، ويتفوّقون ويرسمون الخطط على أبرع مما فعل “هِرتزل” المدعوم  بحكومة “بلفور”، وعلى أقوى من دفق السلاح الغربي الوارد لمؤازرة العدوان، فقد علمتهم الأرض أنها أم الخليقة، وأنها في جديد المدار، تعيد إلى طينها الاعتبار ، وتشحذ فيه سلاح السليقة.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره في صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى